فى صبيحة يوم 23 مارس 2017 طالعتنى جريدة الحياة البيروتية على صفحتها الأولى بخبر، تحت مانشيت كبير يحمل خبر اكتشاف رواية مجهولة لطه حسين هى «خطبة الشيخ»، ويصفها كاتب الخبر من القاهرة الأستاذ سيد محمود بأنها رواية تنتقد الأزهريين وتحيى السجال حول الريادة، ولفت عينى الخبر أو على نحو أدق صدمها، فأنا أعرف الأستاذ سيد محمود وأعده ابنا لى، وهو مصدق عندى، فضلا عن أنه يشغل منصب رئيس تحرير جريدة القاهرة التى تصدرها وزارة الثقافة. ....................................................................... وقرأت الخبر فى عناية واهتمام، أولا: لأن الخبر عن طه حسين، وأهم دراساتى عنه، وثانيا: لأن الخبر عن رواية مجهولة له، تحيى السجال حول الريادة الروائية العربية من ناحية موازية. ويقول الخبر: «حدث بارز جدا، أدبيا وثقافيا، شهدته القاهرة أخيرا: اكتشاف رواية مجهولة لعميد الأدب العربى طه حسين بعنوان «خطبة الشيخ»، وهى كما أوضحت دار الكتب والوثائق القومية، نشرت فى العام 1916 على حلقات فى جريدة «السفور». ونشر هذه الرواية الآن فى كتاب يدرجها فى سياق الجدل الذى ما برح قائما حول أى رواية عربية هى الأولى. وقد يتبين أنها كتبت قبل رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل المنشورة فى العام 1914. ويرجح أن يكون صاحب «الأيام» كتب روايته المجهولة قبل عامين أو ثلاثة». وقد أصابتنى الدهشة مما قرأت. ومضيت فى قراءة الخبر أو الاكتشاف (المهول) الذى سوف يعدل الموازين والمعلومات التى نعرفها عن الرواية العربية الأولى أو عن قضية الريادة العربية فى كتابة الرواية بشكل عام. ولم أستطع إلا أن أمضى فى القراءة: «ووفق رئيس دار الكتب محمود الضبع، فإن نشر الرواية بدأ فى أواخر العام 1916 واعتمد طه حسين فى بنائها على خمس عشرة رسالة متبادلة بين شخصياتها..... وإن كانت الرواية تدور حول مناقشة قضايا تنمية المرأة وحقوقها فى التعليم وحرية الفكر والحياة والزواج، فالمفارقة بين ما أقره الشرع وما طرأ على الحياة من تطور، خصوصا فى مفهوم الاستقرار فى المنزل تبعا لما كانت تقره الأعراف الاجتماعية فى مصر آنذاك». ويمضى الخبر ناقلا عن الدكتور محمود الضبع- حين كان يشغل منصب رئاسة دار الكتب والوثائق القومية- مؤكدا أن هذا الكشف (المهول) يفتح باب متابعة بداية الكتابة الفنية للرواية العربية التى يرجعها بعضهم إلى رواية «زينب» لهيكل الصادرة فى عام 1914، متجاهلين روايات الفتى الريفى» لمحمود خيرت 1904... و»عذراء دنشواى» لمحمود طاهر حقى 1907، وأخيرا «خطبة الشيخ». وبعد ذلك ينقل الأستاذ سيد محمود أقوالا منسوبة إلى زميلى صلاح فضل ومحمد برادة وصديقى الدكتور أنور مغيث. وازدادت دهشتى وصدمتى فيما أقرأ لانطوائه على نوع من التسرع المعيب وعدم الأمانة، وقررت أن أوضح الأمر كله، خصوصا بعد هذا الاحتفاء من جريدة «الحياة» الرصينة التى ظللت أكتب فيها لسنوات عديدة ولقسمها الأدبى الذى لا يزال يرأسه الصديق عبده وازن إلى اليوم فيما أعلم. وعهدى بكل الأسماء التى ذكرتها بمن فيهم تلميذى سيد محمود وصديقى عبده وازن ليسوا من هواة التسرع ولا عدم الأمانة، فما الذى جرى بحيث تقبل جريدة «الحياة» أن تنشر على صفحتها الأولى خبر اكتشاف لا يدخل فى أبواب الاكتشافات، ومعلومات خاطئة لا تكتفى بالخطأ فقط، وإنما تضيف إليه عدم الأمانة. ولأنى كنت على سفر فقد احتفظت بالجريدة إلى حين عودتى من السفر كى أناقش الأمر فى روية وهدوء. وما إن عدت من السفر حتى هاتفنى صديقى الأستاذ حلمى النمنم «وزير الثقافة»، ولم أندهش عندما وجدته غاضبا مثلى، فنقلت له مشاعرى التى أحسست بها عندما قرأت الخبر، وطلب منى- مشكورا- أن أكتب تقديما لما سوف تطبعه دار الكتب المصرية من هذا الاكتشاف الذى لا يدخل فى باب الاكتشافات إلا على سبيل التزوير، وأخبرنى فى تواصل حديثى أن صديقنا المشترك الدكتور أنور مغيث أشار إلى الموضوع نفسه فى مقال بالأهرام. وقمت بدورى بمحادثة الدكتور أنور مغيث، فأخبرنى أنه كتب أولا مقالا فى صحيفة أردنية فى 9 ديسمبر سنة 2006 بعنوان «روايات السفور»، تحدث فيه عن ثلاث روايات وجدها فى جريدة «السفور»، وهى رواية «خطبة الشيخ» التى زعموا اكتشافها لطه حسين، بالإضافة إلى روايتين أخريين لكل من محمد حسين هيكل عن «ذكريات الشباب»- وهى تختلف عن «مذكرات الشباب» التى نشرتها وقت إشرافى على المجلس الأعلى للثقافة- ولمنصور فهمى، وهى ذكريات شباب أخرى بعنوان «ذكرى عهود». وكانت الأعمال السردية الثلاثة استجابة إيجابية إلى اجتماعاتهم مع أستاذهم أحمد لطفى السيد فى مكتبه الذى تحول إلى منتدى للشباب الواعد فى «الجريدة» التى كان يرأس تحريرها. وكان من ضمن ما يعلمهم إياه أن زمن الشعر القديم قد انتهى، وأنه لم يعد يليق بالجرائد العصرية أن تنشر القصائد الطوال فى صفحتها الأولى ، فالعصر قد تغير، والعالم أصبح يعيش فى زمن آخر. وفى هذا ما يفسر تحول طه حسين وأقرانه عن فن الشعر إلى فنون القص والسرد، بوصفها الفنون التى تناسب أبناء الطبقة الوسطى من سكان المدن. وقد عاد أنور مغيث إلى الموضوع مرة أخرى فى جريدة الأهرام بعد ذلك بسنوات معدودة. وأخذت أفكر - فى ضوء ذلك- فى موضوع «خطبة الشيخ» التى وصفها سيد محمود بأن اكتشافها على يد محمود الضبع «حدث بارز جدا، أدبيا وثقافيا». فالاكتشاف ليس جديدا وليس حدثا أدبيا بارزا، ووصفه على هذا النحو إنما هو تعجل أهوج وعدم أمانة علمية، سواء من الذى كتب خبر هذا الاكتشاف أو من الذى زعم أنه صاحب الاكتشاف، فالأمر لا يدخل فى باب الاكتشاف أصلا، أولا لأن المختصين فى تاريخ بواكير الرواية العربية يعلمون أن الرواية العربية بدأت بمعناها الذى نعرفه مع منتصف القرن التاسع عشر، أى قبل عقود وعقود من رواية محمد حسين هيكل «زينب» التى جعلها المرحوم يحيى حقى بمثابة فجر الرواية العربية. وقد تم تصحيح الوضع بعد ذلك، فاكتشفنا أن الرواية العربية بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر. وفى كتابى «الرواية والاستنارة» تفصيل لذلك كله، حيث عرضت للمحاولات الروائية العربية الأولى على امتداد النصف الثانى من القرن التاسع عشر. وهى المحاولات التى ضمت أحمد فارس الشدياق صاحب «الساق على الساق فى ما هو الفارياق» التى صدرت فى باريس سنة 1855 والتى تعدها المرحومة رضوى عاشور الرواية العربية الأولى، ثم رواية «وى. إذن لست بإفرنجى!» للكاتب اللبنانى خليل الخورى التى أصدرها سنة 1859 والتى أعدها- مع عبد الله إبراهيم وشربل داغر- أقدم الروايات العربية الحديثة التى نعرفها، فضلا عن سليم البستانى الذى نشر روايته «الهيام فى بلاد الشام» التى صدرت سنة 1870، ثم «زنوبيا» 1871، و»بدور» سنة 1872، فضلا عن روايات أليس البستانى «صائبة» سنة 1892، وهى السنة التى بدأ فيها جورجى زيدان إصدار رواياته التاريخية التى تعد نقلة فنية إلى الأمام فى تاريخ الرواية العربية. وأضف إلى ذلك ما استحدثه قبلها فرنسيس فتح الله المراش فى استهلال الرواية الرمزية بروايته «غابة الحق» المنشورة فى حلب سنة 1865، ثم رواية «علم الدين» سنة 1883 لعلى مبارك إلى آخر السلسلة التى تنتهى بروايات فرح أنطون التى بدأ نشرها من سنة 1903، أمثال «الدين والعلم والمال» و»أورشليم الجديدة». وأضف إلى ذلك غيره من الروايات العربية التى ذكرها الدكتور حمدى السكوت فى الببليوجرافيا التى كتبها بعنوان الرواية العربية: «ببليوجرافيا ومدخل نقدى 1865- 1995»، وقد أثبت حمدى السكوت فى هذه الببليوجرافيا أن تاريخ نشر رواية «زينب» هو سنة 1913 وليس 1914، كما يتصور أغلب الباحثين. هذا بعض ما نعرفه عن بواكير الرواية العربية وفجرها على السواء، والذى يسبق ظهور رواية «زينب» بأكثر من نصف قرن. والحق أن الدراسات العديدة التى قام بها عدد من الباحثين والباحثات، ومنهم كاتب هذا المقال، لا يصح بعدها أن يتحدث أحد حديثا عشوائيا متسرعا عن نشأة الرواية العربية أو فجرها بالطريقة التى لا يزال البعض يتحدث بها متصورا صواب ما ذهب إليه المرحوم يحيى حقى فى كتيبه الذى لم يعد له قيمة علمية تذكر، بعد كل ما توصل إليه الباحثون، سواء فى مصر أو سوريا أو لبنان أو العراق. ولذلك فمن التسرع وعدم الأمانة على السواء أن نتحدث عن الرواية العربية الأولى على النحو الموجود فى المقال الذى كتبه سيد محمود متحدثا عن الاكتشاف (المهول) الذى توصل إليه مع الدكتور محمود الضبع فى أضابير دار الكتب المصرية. والحق أنى لا أزال أنطوى على سؤال أخلاقى، وهو أننى أعرف أن سيد محمود هو رئيس تحرير جريدة القاهرة الأسبوعية التى تنشرها وزارة الثقافة على نفقتها وميزانيتها الخاصة، الأمر الذى يثير السؤال: لماذا لم ينشر سيد محمود اكتشاف هذه الرواية المجهولة فى الجريدة التى يرأس تحريرها وليس فى الجريدة التى هو مراسل لها، علما بأن هذه الجريدة هو يعلم قبل غيره أنها نشرت دراسات عديدة منذ سنوات عن بواكير الرواية العربية لكاتب هذا المقال تماما مثلما يعلم عبده وازن رئيس القسم الأدبى الذى وافق على نشر هذا الاكتشاف (المهول)؟. نأتى الآن إلى طه حسين وهذا الاكتشاف (المهول) الذى اكتشفه الدكتور محمود الضبع. ولا أعرف إذا كان محمود الضبع- وهو صديق أعتز بصداقته- يعرف أن الدكتور أنور مغيث قد نشر مقالا أو دراسة قصيرة عن روايات جريدة «السفور» وما رآه بمثابة عدد من الروايات التى هى أقرب إلى أن تكون تمثيلات كنائية لأهم الأفكار التى دعت إليها جريدة «السفور» الأسبوعية التى أنشأها عبد الحميد حمدى 1915 وشارك فى كتابتها الأخوان مصطفى وعلى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم من ممثلى الطليعة الثقافية المصرية فى ذلك العهد. وقد صدر العدد الأول من الجريدة فى يوم الجمعة الحادى والعشرين من مايو 1915، وحملت أعدادها الأولى أصداء الثورة التى كان يموج بها المجتمع الذى سرعان ما انفجرت طوائفه فى ثورة شاملة بعد أربع سنوات فحسب من صدور هذه الجريدة. وقد أكد عبد الحميد حمدى فى العدد الأول أن للسفور فى عنوان هذه الجريدة معنى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة التى جرت بها أقلام الباحثين فى مسألة المرأة المصرية، مؤكدا أن المرأة وحدها ليست هى المحجبة فى مصر، وإنما النزعات والفضائل والكفاءات والمعارف المصرية كلها محجبة، فكل شىء كان يبدو على غير حقيقته فيما يراه وفيما يقول: «فنحن أمة محجبة، حقيقتها بادية منها ظواهر كاذبة، لا تتغير مع ما فطرت عليه الأمة فى شىء. ولذلك تخوض الجريدة معركتها بضراوة مع هذا السفور العام والسفور الخاص». وتتصدى للسلفيين الجامدين الذين اتهموا دعاة السفور بهدم الدين. ولكن دعاة السفور لم يأبهوا بذلك، فقد كانوا يعلمون أن حجج دعاة الحجاب مجرد اجتهاد ويمكن نقضه باجتهاد مماثل، أكثر إقناعا للعقل النقدى. وقد أكد مصطفى عبد الرازق ذلك فى العدد الرابع، حينما تحدث عن اغتباط جماعتهم بما لقى السفور من التشجيع بين أنصار الرقى وشيعة الإصلاح الذين اغتبطوا بما وجهته الجريدة من النقد المبنى على الإخلاص والرغبة فى تمحيص النصيحة، شاكرا أولئك الناظرين نظرة الرضا عن هذه الصحيفة الوليدة وهى فى مهدها، أو فى شهرها الأول، داعيا إلى أن يكون دعاة النهضة هم أولى الناس بأن يحوطوا برعايتهم نهضة شابة مملوءة بالحماسة والأمل. ويؤكد مصطفى عبد الرازق أن هدف جريدة «السفور» الأعلى ليس هو تمزيق البرقع عن وجه المرأة فحسب، وإنما هو أن تكون مظهر التقدم الفكرى فى هذا البلد ومضمارا لكل دعوة حرة صالحة. ولم يكن ذلك أمرا طبيعيا من مصطفى عبد الرازق شقيق على عبد الرازق الذى أقام الدنيا ولم يقعدها بعد ذلك بسنوات معدودة، عندما كتب كتابه عن «الإسلام وأصول الحكم»، مؤكدا أن الخلافة ليست ركنا من أركان الإسلام، وأن الإسلام ترك للمسلمين حرية اختيار نظام الحكم فى حياتهم التى هى ملك لهم، يصنعون دنياهم على أعينهم بإرادتهم الحرة فى الكون الذى استخلفهم الله عليه وفيه. وهذا هو الاتجاه الذى مضى فيه صديقه طه حسين عندما استخدم منهجا علميا يقوم على الشك فى الشعر الجاهلى، فأقام الدنيا ولم يقعدها بدوره، مؤسسا منهجه التاريخى العقلانى فى دراسة الظواهر الاجتماعية والأدبية دون اعتبار لمحرمات أو مقدسات سابقة على تفعيل المنهج وإعماله على المادة الاجتماعية أو الأدبية. وكان من نتيجة ذلك كتابه «فى الشعر الجاهلى» الذى صدر عام 1926 بعد أشهر معدودة من كتاب زميله على عبد الرازق. وما كان الاثنان يكتبان ما كتبا فى شجاعة وجسارة إلا فى تتابع النتائج التى أحدثتها ثورة 1919 التى حطمت التقاليد الجامدة لحجاب العقل والوجه، وقرنت بين الدعوة إلى سفور المرأة فعليا وسفور أذهان المصريين عمليا. وكان من الطبيعى أن تكون لحركة تحرير المرأة التى استهلتها كتابات «زينب فواز العاملية»- نسبة إلى جبل عامل فى لبنان- (وانظر ما كتبه عنها حلمى النمنم الذى نشر روايتها الأولى) ثم كتابات قاسم أمين أثر كبير فى تعميم أفكار التحرر التى بدأت بنشرها هند نوفل فى مجلتها «الفتاة» التى أصدرتها فى مدينة الإسكندرية سنة 1892، وهى السنة التى أصدرت فيها أليس البستانى- شقيقة سليم البستانى وابنة بطرس البستانى، وهما من زعماء حركة تحرير المرأة اللبنانية- روايتها «أليس» سنة 1892. ولذلك لم يكن من الغريب أن يكتب طه حسين روايته «خطبة الشيخ» فى جريدة «السفور» التى بدأ الكتابة فيها سنة 1915 بوصفه واحدا من المجموعة الشابة التى تحالفت لإصدار هذه الجريدة الأسبوعية التى كانت تقدمية بكل معنى الكلمة فى زمن صدورها، ومؤسسة لثقافة طليعية كان يؤصلها طه حسين مع أقرانه من أبناء جيله: هيكل وعلى عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق وغيرهم من تلامذة الإمام محمد عبده وأحمد لطفى السيد على السواء. ولم يتوقف طه حسين عن الكتابة فى «السفور» إلا بعد أن رحل إلى فرنسا فى بعثته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة مونبلييه وواصل الكتابة فى «السفور» عندما عاد بعد اشتعال الحرب العالمية الأولى، والخوف على الطلاب المصريين من البقاء فى فرنسا، فرجع إلى مصر وقضى ما يقرب من العام إلى أن تدبرت الجامعة أمرها، وعاد إلى فرنسا مرة أخرى وانشغل بما ينشغل به طلاب العلم فى السوربون، ويحب الفتاة سوزان التى سرعان ما أصبحت زوجا له، فتوقف عن كتابة الرواية التى بدأها فى «السفور» ثم نسيها عندما استغرقته دوامة طلب العلم فى باريس. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يبدأ فيها طه حسين نشر رواية ثم لا يكملها، فقد فعل الأمر نفسه فى مجلة «الكاتب المصرى» التى أنشأها وأشرف عليها وأملى فيها روايته التى تركها ناقصة لم تكتمل، وهى رواية «ما وراء النهر» التى لم تنشر إلا مع الاحتفال بالذكرى الثانية لوفاته فى أكتوبر 1975. وقد أشرف على مراجعتها وتصويبها الدكتور محمد حسن الزيات زوج ابنته أمينة، الذى كان وزيرا للخارجية المصرية، فنشرها فى دار المعارف 1975، ثم أعاد نشرها بعد أن وجد فى أوراق العميد صفحات استأنف فيها الإملاء من حيث انقطع عند آخر ما نشر من هذه القصة، كما ظهرت فى طبعتها الأولى، وهو ما أضافه المرحوم محمد حسن الزيات فى الطبعة الثانية التى أصدرتها دار المعارف ثم توالت بعد ذلك الطبعات. ويعنى ذلك أن الأعمال غير المكتملة موجودة فى تراث طه حسين، وهى حقيقة يعرفها المتخصصون فيه، وكان من نتيجة إدراكى هذه الحقيقة هو أننى بعد أن توليت الإشراف على دار الكتب والوثائق المصرية (فى الفترة من 7/7/1997 إلى 4/3/1998) كان أول ما فعلته أننى طلبت من صديقى المرحوم رؤوف عباس إعداد مشروع عن استكمال ما لم ينشر من ميراث طه حسين، وما لا يزال موزعا بين الدوريات المختلفة، سواء فى الصحف والمجلات المصرية وغير المصرية. وأسعدنى قبول رؤوف عباس ذلك، وبالفعل توالت المجلدات للأعمال غير المنشورة عن فى دار الكتب المصرية، واستمر المشروع حتى بعد أن تركت الإشراف على دار الكتب للمرحوم ناصر الأنصارى الذى لم يتردد ومن جاءوا من بعده فى إكمال المهمة وآخرهم الزميل صابر عرب الذى أوكل مهمة الإشراف على استكمال تراث طه حسين المجهول بعد وفاة رؤوف عباس، رحمه الله، إلى زميلنا العزيز أحمد زكريا الشلق، فواصل الرجل العمل الذى توقف لسبب لا أعلمه إلى اليوم. وكان من المنتظر أن تصدر المجلدات الخاصة بالأدب، سواء الإنشائى أو الوصفى إذا استخدمنا مصطلح طه حسين. ورواية «خطبة الشيخ» تنتسب إلى الأدب الإنشائى الذى كتبه طه حسين متابعا وداعيا إلى الأفكار والمبادئ التى تبنتها «السفور» والتى تحمس لها مؤسسوها مع صديقهم عبد الحميد حمدى. هذه كلها معلومات معروفة وميسورة كان يمكن أن يصل إليها الأستاذ سيد محمود أو الدكتور محمود الضبع لو ترويا أو التزما الأمانة فى أدائهما للرسالة، ولكنهما للأسف تسرعا ونسيا الأمانة العلمية التى حاول جيلى والجيل السابق على جيلى أن يؤسساها فى ضمائر أساتذة هذا الجيل. وهكذا وجد الدكتور محمود الضبع خمس عشرة رسالة هى مفتتح رواية لم يكملها طه حسين، وتتوقف على نحو مفاجئ بعد ثلاثة أو أربعة أعداد من الشهر الأول من إصدار الجريدة الأسبوعية. وهى رواية تسخر بالتأكيد من طمع الأزهريين، ومنهم ذلك الشيخ الذى بحث عن زوج ثرية شابة ومتعلمة ولم يشغله عقلها بقدر ما شغله ما تملكه من أفدنة، ميراثا عن والدها بالاشتراك مع أخوين لها. فأقبل على زواجها حتى من غير أن يراها. ورغم أن أباها سمح لها بأن تتبادل معه الرسائل كى يتعارفا، فإن ذلك لم يثنه عن غرضه الذى لا نعرف هل استمر أم لم يستمر، فالخمس عشرة رسالة المنشورة فى «السفور» لا تنبئ عن الموقف كله، وإنما هى تمهيد للموقف وأفكارها المضمرة فيما يشبه أن يكون فصلا أوليا لرواية، ورفضها أخلاق الشخصيات الأزهرية هو ما يلفت الانتباه إلى طبيعتها النوعية، موضوعا وشكلا. وأظن أن بعض هذا شغل الدكتور أنور مغيث عندما كتب عن «روايات السفور». لكن السؤال الذى لم أجد له إجابة: لماذا تجاهل الأستاذ الدكتور محمود الضبع مراجعة المجلدات التى استكملت نشر غير المنشور من كتابات طه حسين فى الدوريات الموجودة فى دار الكتب التى أصبح رئيسا لها؟! ولو فعل لاكتشف أن عليه استكمال المشروع الذى بدأ قبله بسنوات طويلة، بدل التسرع بادعاء اكتشاف (مهول) وعدم أمانة فى الإشارة إلى جهود السابقين عليه؟!. بقى الآن أن نحلل هذه الرسائل تحليلا تفصيليا ونقديا بعيدا عن التسرع وعدم الأمانة. وكل ما أرجوه من الصديق حلمى النمنم وزير الثقافة- وأنا أعلم حرصه على إكمال نشر ميراث طه حسين من ناحية، وعلى استجلاء الصفحات المجهولة من فجر الرواية العربية، خصوصا فى أعمال زينب فواز التى نشر روايتها منذ سنوات- أن يعيد تشكيل اللجنة المعنية بجمع المجهول من تراث طه حسين وغيره من أعلام النهضة كأحمد لطفى السيد ومصطفى عبد الرازق والعقاد وغيرهم من أصحاب التراث العظيم الذى لا يزال أغلبه متناثرا، غير منشور، وموزعا فى الدوريات المصرية والعربية لكى تكون عندنا للمرة الأولى نسخة كاملة من أعمال طه حسين غير تلك الأعمال الكاملة التى سبق أن أصدرها المرحوم حسن الزين، صاحب دار نشر الكتاب اللبنانى المصرى، وهى أعمال، للأسف، غير كاملة. وأرجو أن يستجيب وزير الثقافة إلى ندائى، حفاظا على تراثنا الأدبى والفكرى الحديث. اللهم إنى قد بلغت، اللهم فاشهد.