لم تكن حركة التنوير التى انبثقت بمصر فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر حركة عشوائية أو وليدة فراغ، بل سبقتها جهود مضنية ودؤوبة، بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر عندما قاوم المصريون بضراوة نابليون وحملته العسكرية الفرنسية، والمقاومة فى حد ذاتها كانت عملًا تنويريًّا، إذ ولدت فى قلب هذه المقاومة عقول وطاقات وطنية شجاعة مثل السيد عمر مكرم، والشيخ حسن العطار، حتى أراد المصريون تنصيب القائد الألبانى محمد علِى الذى اعتلى عرش البلاد وبدأ الاستجابة لهذه النهضة العارمة التى راحت بذورها تنبت فى المجتمع المصرى رويدًا رويدًا، وكلنا يعلم جهود الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى، الشيخ الذى أرسله محمد علِى إلى فرنسا مع البعثة المصرية ليكون خطيبًا لأعضاء البعثة، ولكنه عاد من باريس لينشر أنوارها الباهرة فى القاهرة الفتية، ويكتب كتاباته الفكرية والتنويرية التى مدّت بظلها على قرابة القرنين من الزمان، وبعد ذلك سعى المصريون للتعلم من كتابات هذا الرائد الكبير، فناضلوا من أجل الحرية والديمقراطية، وأنشؤوا مجلس الشورى، ووضعوا بنودًا دستورية، ثم جاءت الثورة العرابية لتواكب نهوض المصريين، وتبرز أسماء كبيرة فى مجال الثقافة والفكر والفن والسياسة، مثل الشيخ محمد عبده والشاعر محمود سامى البارودى وحفنى بك ناصف وأحمد لطفى السيد والزعيم مصطفى كامل، وغيرهم، وفى ظل هذه النهضة وُلد محمد حسين هيكل، ابن العائلة الميسورة بالمنصورة، وبعد أن نال الشهادات التمهيدية الأولى، ذهب إلى موطن النور كذلك فرنسا، ليحصل على شهادة الدكتوراه فى الحقوق، ولكنه لم يحبس نفسه داخل جدران القوانين ورسالته العلمية المهمومة باللوائح والتشريعات والحقوق الدولية والمحلية والدساتير وهكذا، بل راح لينهل من مدينة النور الثقافة والفن والأدب والحياة كلها، وكتب روايته الرائدة الأولى «زينب»، هذه الرواية التى صنَّفها الباحثون بأنها أول رواية عربية مكتملة المواصفات الطبيعية للرواية، ونشرها هيكل مسلسلة فى إحدى الصحف المصرية، ولكنه كان ينشرها بتوقيع «فلاح مصرى»، وكان هذا التوقيع لأن الأدب فى ذلك الوقت لم يكن له التقدير الكافى الذى يدفع واحدًا من عائلة محترمة مثل محمد حسين هيكل، ودارسًا للقانون، ويؤهّل نفسه للدفاع عن حقوق الناس، وهذا اضطره للتوقيع ب«فلاح مصرى»، وبعد رواج الرواية والترحيب بها من الحياة الثقافية والنقدية، بدأ هيكل يعلن عن نفسه كأديب، ولكنه لم يغادر موقعه ككاتب سياسى فاعل مشارك فى الحياة العامة السياسية المصرية، ويكتب فى الصحف والمجلات كل ما تعلمه فى الغرب، وتأثر به من التعاليم الليبرالية العظيمة، وكان أستاذه المصرى أحمد لطفى السيد الذى تبناه منذ بزوغه الأول بعد حضوره من بلدته المنصورة، وكتب أولى مقالاته ونشرها فى صحيفة «الجريدة»، وتعلم الكثير والكثير من أستاذه، وكان أول تطبيقات الليبرالية فى ظل لطفى السيد، إذ حدثت خلافات وحوارات ومناقشات بين الأستاذ وتلاميذه الكثيرين، وكان حسين هيكل أولهم، وكانت رحلته البحثية إلى باريس تطويرًا علميًّا وفكريًّا وأدبيًّا لما عاش بعضه فى مصر، وعندما عاد بدأ ينشر ويمارس ترويج ثمراته العظيمة التى نبتت فى حياته، فترجم مذكرات جان جاك روسو، واختلف معه رفيقه وصديقه الدكتور طه حسين، واحتد طه حسين فى نقده للترجمة، ونشر هذا النقد فى جريدة «السياسة الأسبوعية» التى أسسها وترأس تحريرها محمد حسين هيكل نفسه، وعندما سأله البعض: كيف يسمح لطه حسين أن ينتقده بهذه الحدة فى جريدته؟ كان رده «هكذا علّمنا أحمد لطفى السيد»، واكتفى بهذا الرد ليبقى عبرة للأجيال التى أتت من بعده، ولم يمنع طه حسين من الكتابة فى الجريدة، ولم يخاصمه، ولم يوقف مرتبه، ولم يؤنّبه أو يعاتبه، حتى تصبح هذه الواقعة ووقائع كثيرة أخرى، قرينة دامغة لهؤلاء الرواد النبلاء الذين قهروا ذواتهم من أجل رفع قيمة الاختلاف والحوار والصراع الفكرى الحقيقى، ليت رؤساء التحرير الأشاوس فى عصرنا هذا يتعلمون من الآباء العظام مثل هذه القيم والتقاليد، وبقدر ما كان عصر الليبرالية المصرية الأول مفعمًا بمثل هذه الوقائع الرائعة، بقدر ما تتكدّس صحفنا بوقائع يجللها السواد، هذه الصحف التى تركع تحت تعاليم السلطات السياسية الشرسة، والتى تعاقبت علينا، وانبثقت من الكهوف الشيطانية المقيتة، ولم تكن فضيلة محمد حسين هيكل فى إدارته لصحيفة السياسة فقط، والتى لعبت دورًا سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا كبيرًا فى النهضة المصرية آنذاك، واستقطبت كتّابًا من طراز مى زيادة وعبد العزيز البشرى ومصطفى عبد الرازق ومحمود عزمى وعزيز ميرهم ومحمد عبد الله عنان وغيرهم، ولكن راح هيكل يصدر كتاباته الأدبية والفكرية العظيمة، مثل «ثورة الأدب» الذى رصد فيه كل الخطوات التنويرية والليبرالية فى مصر على المستوى الفكرى والثقافى، ثم كتابه «يا ولدى» بعد فقده الفاجع لابنه، والكتاب عبارة عن مشاهداته وملاحظاته عبر رحلاته الأوروبية العديدة، وكذلك كتاباته الإسلامية المهمة حول شخصيات قيادية فى العصر الإسلامى الأول، بداية من محمد عليه السلام، ثم الفاروق عمر، وبعده عثمان وأبو بكر وهكذا، ولم تشغله هذه الكتابات الفكرية عن مواصلة إبداعه الأدبى، بل ظل ينتج ويبدع وينشر حتى رحيله عام 1956، وكتاباته ما زالت مدرسة سخية فى إظهار الجانب المضىء فى ثقافتنا المصرية والعربية، هذا ما دفع المستشرق الألمانى الشاب باير هانزون أن يعد رسالة دكتوراه عنه وعن مسيرته الفكرية والسياسية، وقد أجرت صحيفة «أخبار اليوم» حوارًا معه فى العدد الصادر فى 13 أكتوبر عام 1962، قال فيه باير: «رأيى الشخصى أن كتب الدكتور هيكل من أهم الوثائق التاريخية بشأن موقف الشرق من أوروبا والآمال التى كان هيكل وعدد من زملائه يعقدونها فى أوروبا ثم خابت».