مع اكتشاف 17 من المومياوات مؤخرا في مصر لم يكن بالأمر الغريب أن نرى اهتماما عالميا وأمريكيا هائلا حولنا بما تم الكشف عنه وأيضا بما قد يتم التوصل اليه في المستقبل. طوفان من الفرحة والانبهار يعكس الجنون بما هو مصري قديم. ومن ثم انطلق الحديث المتكرر والمتجدد عن عالم المومياوات الحقائق والخرافات والأساطير. صحيفة «نيويورك تايمز» العريقة لم ترد أن تفوتها الفرصة كما جرت العادة على ابراز هذا الحدث الأخير والاهتمام بالحديث الدائر حوله ونشر الصور التي تتحدث بآلاف الكلمات. ............................................................... الولع بمصر غالبا قائم ومستمر وليس له صلة فقط بالأحداث والاكتشافات. منذ فترة ليست ببعيدة اهتمت صحيفة «واشنطن بوست» وسط عالم يشغله ويربكه هذه الأيام قضايا وأزمات عديدة بنشر تقرير صحفي من القاهرة يتناول نقاشا دار في العاصمة المصرية مؤخرا بين علماء مصريات من دول عديدة حول السبل الأفضل لنقل مقتنيات المتحف المصري (الحالي) من كنوز توت عنخ آمون الى المتحف المصري الكبير الذي ينتظر العالم افتتاحه خاصة عشاق مصر القديمة. الملك توت اسم ساحر للشاب الملك الذي عاش من 33 قرنا والحديث عنه وعما نعرفه وأيضا ما لا نعرفه عنه ينتظره الآلاف من كل الثقافات. وبالطبع يسأل في هذا الأمر الأثري الشهير زاهي حواس وكل من يتعامل مع هذا الملك الأشهر. مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» المميزة في عددها الأخير شهر مايو الحالى والمخصص «لما هو العبقري؟» خصصت صفحات ل «اخناتون»واصفة والد الملك توت بأنه أول ثوري في مصر. تتناول فيها حياة اخناتون وانجازاته وبصماته وآثاره الباقية في ذاكرة البشر أينما كانوا. و«بيتر هيسلر» في مقاله عن «اخناتون» أشار الى أنه ألهم كلا من توماس مان ونجيب محفوظ والفنانة فريدا كاهلو بحيث أنه صار جزءا من ابداعهم الفني. كما أن الموسيقي فيليب جراس عندما كتب ثلاث أوبرات عن مفكرين لهم رؤية فان ثلاثيته ضمت البرت أنشتاين والمهاتما غاندي واخناتون!!. مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» سوف تحتفل بعيد ميلادها ال130 العام المقبل 2018 وكل ما هو مصري قديم تصدر صورة الغلاف عشرات المرات على امتداد تاريخها المجيد. وكما يؤكد أكثر من مسئول بها أن هذه الأعداد وعلى غلافها «الملك توت» أو ما هو مصري قديم هي الأكثر مبيعا. ويقدر عدد مشتركي المجلة الأمريكية الدولية بأكثر من ستة ملايين مشترك. ويشهد المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي بنيويورك في الوقت الحالي عرضا للمومياوات وفنون التحنيط في كل من مصر وبيرو وأيضا للأجهزة والتكنولوجيا الحديثة المستخدمة في كشف أسرارها. العرض مستمر حتى يوم 7 يناير 2018 وبالطبع صار منذ افتتاحه في شهر مارس الماضي مزارا لطلاب المدارس وعشاق المومياوات من كل الأجيال. ولا شك أن عشاق ما هو مثير ومرعب وجذاب في عالم المومياوات ينتظرون فيلما جديدا في بداية شهر يونيو المقبل باسم «المومياء» من بطولة النجم توم كروز. وهذا الفيلم يأتي في سلسلة أفلام أمريكية تناولت المومياء بشكل أو آخر.وكان أول فيلم «المومياء» تم انتاجه عام 1932. وسينما هوليوود منذ بداياتها اهتمت بمصر القديمة ومومياواتها وأسرارها وأساطيرها .. الملكة «كليوباترا» كان لها نصيب الأسد. ومن يمكن أن ينسى «اليزابيث تايلور» وتجسيدها لهذه المرأة التي أبهرت بجمالها وجبروتها الكثير من النساء والمؤرخين عبر السنوات في فيلم «كليوباترا» (1963). وقد شاركها في التمثيل «ريتشارد بيرتون». والفيلم (مدته 4 ساعات و8 دقائق) أخرجه «جوزيف مانكيفتش». وبلغت تكاليف انتاجه نحو 44 مليون دولار. ...................... ما تم الاشارة اليه والتذكير به في السطور السابقة يرسم ملامح هذه الحالة الانسانية التي تلفت الانتباه وتثير الاهتمام مهما تباينت الآراء حول توصيفها أو تسميتها .. هل هو «جنون» أو«هوس» أو «وله» أو «ولع». فهي في كل الأحوال تعكس عشق كل ما هو له صلة بالمصري القديم صاحب الحضارة الانسانية. وفي رأى الكثير ممن رصدوا هذا الهوس يظل اكتشاف مقبرة «توت عنخ آمون» المحطة الفارقة والمحورية في مسار الوله الأمريكي بالمصري القديم. ولذلك نرى مع هذا الاكتشاف مثلا تشكيل المعمار خاصة بناء دور للسينما في أمريكا في تلك الفترة وكأنها معابد مصرية. البعض من هذه الأبنية مازالت قائمة .. ويتم الاهتمام بها وصيانتها. القضية التي تثير اهتمامي في هذه المحطات التي أقف عندها ولو لفترة قصيرة ليست فقط تأريخ هذا العشق بمصر وتسجيل هذا الوله بما هو مصري قديم بل تأمل أثرهما وتلمس بصماتهما في النفوس والذاكرة رغم مرور مئات بل آلاف من السنوات. هذا العشق الذي لا يعرف الخرائط وحدود الجغرافيا. وهذا الوله الذي لا يعترف بمرور الزمن وتوالى الأجيال. اللحظة أو اللقطة التي تسحرك وتأسر خيالك و«تأخد عقلك» غالبا تبقى معك.. مهما كانت المسافات المكانية والزمانية التي قد تبعدك فيما بعد عنها أو قد تقربك منها. كنت هناك معها في تلك اللحظة.. وهي معك الآن في هذه اللحظة. الملك الأمريكي في مصر في مثل هذه الأيام من 140 عاما وتحديدا يوم 17 مايو 1877 وبعد أن انتهى من فترة ولايته الرئاسية بدأ الرئيس الأمريكي رقم 18 «يوليسيس جرانت» جولته في دول العالم بصحبة زوجته. وكانت مصر احدى محطاته. خلال الرحلة بكل محطاتها كان معه جون راسل يونج صحفي بجريدة «نيويورك هيرالد». ولذلك فان محطات جرانت وجولاته وكتابات يونج عنها تم جمعها فيما بعد في مجلدين تحت عنوان «حول العالم مع الجنرال جرانت» صدرا عام 1879 وقد حرص الكثير من الأمريكيين وقتها وبعدها على الحصول على الكتاب بجزءيه في محاولة منهم للتعرف على العالم البعيد منهم والغريب عليهم أحيانا. الجنرال والرئيس السابق «جرانت» وصل الى الاسكندرية يوم 5 يناير 1878 على متن السفينة الحربية الأمريكية «فانداليا». وكانت مصر في ذلك الوقت في عهد الخديو اسماعيل. وقد تم استقبال الرئيس الأمريكي السابق بترحاب وتم استضافته في أحد قصور الأسرة الحاكمة. في مصر تجول جرانت بصحبة «ايلبرت ايلي فارمان» القنصل العام الأمريكي. و«فارمان» من جانبه أيضا قام بتسجيل ذكرياته مع هذه الزيارة في كتاب له صدر عام 1904 تحت عنوان «على امتداد النيل مع الجنرال جرانت». على مدى شهر كامل وعلى امتداد النيل أخذه فارمان الى أغلب المناطق السياحية المعروفة حينذاك. وما لاحظه «فارمان» وكتبه أن المصريين في القرى المصرية كانوا يرحبون ب«جرانت» باعتباره «ملك أمريكا». أو هذا ما كانوا يقولون. ويجب الاشارة هنا أن «فارمان» ذكر أيضا أن«جرانت» أبهره المصريون والآثار المصرية وتحديدا أبو الهول. وأنه قال لابنه فريد: «لقد رأيت في مصر ما أثار اهتمامي أكثر من أي مكان آخر في جولاتي». ولا شك أن باقي رؤساء أمريكا من قبل ومن بعد «جرانت» لديهم لمصر مكانة خاصة في ذاكرتهم وفي خيالهم. هذه المكانة تحتاج الى رصد وتسجيل واحتفاء يحفظ الذاكرة من الاهمال والنسيان. برستد .. و«فجر الضمير» أما الحديث عن «جيمس هنري برستد» فهو حديث يبدأ ولا يعرف من يبدؤه كيف وأين ينهيه؟!. بالتأكيد سأقوم بتكرار زياراتي لحياته وآثاره في القريب العاجل. برستد عالم آثار أمريكي ولد يوم 27 أغسطس 1865.ويعد واحدا من أوائل علماء المصريات الأمريكيين. هو الأول منهم ممن حصلوا على درجة الدكتوراه في هذا المجال ( ذهب الى ألمانيا للحصول عليها). وهو أول أستاذ لعلوم المصريات في الولاياتالمتحدة في جامعة شيكاجو. وهو الذي قام عام 1919 بتأسيس أول مؤسسة علمية تعليمية أمريكية معنية بالآثار المصرية المعهد الشرقي في شيكاجو. وبالطبع وراء كل محطة من محطات حياته حكايات وحواديت وذكريات ذات صلة بمصر وأهلها وآثارها وحضاراتها. كتابه «فجر الضمير» نشره عام 1933. وهو كتاب فريد ومتميز. وقد ترجمه الى العربية عميد الأثريين المصريين سليم حسن عام 1956. وقد أشاد في مقدمته كمعرب للكتاب بفصاحة الكتاب و«بيانه وانسجام عباراته وقوة منطقه وأخذه بتلابيب القارئ حتى ليجعل مجاهل التاريخ المصري القديم المقفر من المعلومات كأنها رياض وحدائق غناء لا تسأم النفس قراءته، ولا يمل النظرتصفح فصوله». كما حرص سليم حسن على أن يكتب أيضا: أحب أن أذكر أن الأستاذ «برستد» قد قال في مقدمة كتابه: «انه يجب على نشء الجيل الحاضر أن يقرءوا هذا الكتاب الذي يبحث في تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير في العالم المصري» لذلك رأيت أنه اذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربي أن يقرءوا هذا الكتاب فانه يكون من ألزم الواجبات على كل مصري مثقف أن يستوعب ما احتواه لأنه تاريخ نشأة الأخلاق في بلاده التي أخذ عنها كل العالم. اذن الأمريكي برستد وجه نصيحته عام 1933 والمصري حسن نبه لأهمية الكتاب عام 1956.. وهيئة الكتاب أصدرت طبعة جديدة له عام 2015.. هل المؤسسات الثقافية والتعليمية في مصر عام 2017 راغبة وقادرة على تبني هذه النصيحة وتلبية هذه الدعوة والعمل بها. ...................... الوله بمصر قائم ومستمر .. وعلينا أن نذكر ونتذكر حكاياته