«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
البروفيسور.. مكان جيمس هنري برستد
نشر في أخبار اليوم يوم 26 - 08 - 2014

«كثيراً ما كنت أمر أمام هذا المقر الجميل في الأقصر وأسأل نفسي: ما العلاقة بين شيكاغو وهذا البيت، لماذا يسمي ببيت شيكاغو؟..»
شخصيتان تنتميان إلي جامعة شيكاغو سعدت بوجودي في المجال الذي ارتبطا به وعاشا فيه، الأول معروف للمثقفين في مصر، جيمس هنري برستد، أحد أعظم علماء المصريات في العالم عُرف في مصر عندما قررت وزارة المعارف العمومية في الثلاثينيات تدريس كتابه الذي صدر عام 1905 وترجم إلي العربية «تاريخ مصر القديم» علي طلاب المدارس الثانوية، وأحتفظ بنسخة أصلية من هذا السفر القيم الذي كان يعتبر وقت صدوره من أدق ما كُتب في تاريخ مصر حتي وقت صدوره، وفي عام 1955 ترجم الدكتور سليم حسن كتابه الذي بصرنا بروح مصر القديمة المفتري عليها نتيجة انتصار الرؤية التوراتية في التاريخ وسيادة رؤيتها السلبية لمصر وهذه مشكلة ثقافية عميقة تشكل شرخاً في الشخصية المصرية وتحتاج إلي جهد كبير لتصحيح المفاهيم، أهم منطلق في هذا التصحيح هو الحقيقة المؤكدة من خلال النصوص والآثار، أن المصريين القدماء لم يكونوا وثنيين، إنما كانوا يؤمنون بإله خالق للوجود، وأن الفرعون لم يكن طاغية علي الإطلاق، إنما كان رأساً للدولة، والفرعون المذكور في القرآن الكريم هو فرعون واحد فقط وليس الفرعون علي إطلاقه، كلمة فرعون تعني (البيت الكبير) أي رمز السلطة، كما نقول الآن «البيت الأبيض» ونعني بذلك رئيس الولايات المتحدة، «فجر الضمير» كتاب يجب أن يقرر علي المدارس الثانوية حتي يعرف النشء حقيقة الحضارة التي ينتمون إليها. لبرستد كتاب آخر عن الديانة المصرية القديمة وترجمه إلي العربية الدكتور زكي سوس، صدر عن دار الكرنك عام 1961، ويعتبر من الكتب الرائعة في فهم وشرح العقيدة المصرية القديمة والتي خرجت منها العقائد التالية لها التي ظهرت في الشرق كله، قال أندريه مالرو أديب فرنسا العظيم إن مصر هي التي اخترعت الأبدية، مشيراً إلي رفض المصريين لفكرة العدم النهائي، واعتبارهم أن الحياة جسر يعبر، وأن الموت بوابة لطريق لا نهائي يبدأه الإنسان بعد الحساب في المحكمة الأوزيرية، بعدها إما أن يمضي إلي حقول يارو أي الجنة في مفهوم المصريين القدماء أو إلي الجحيم، من الكتب الرائدة في العقيدة المصرية «الديانة المصرية القديمة» لأدولف أرمان، صدر عام 1904 في ألمانيا وترجم إلي العربية عام 1955 في مشروع الألف كتاب الذي أسسه طه حسين، لقد ظهرت حقائق عديدة عن مصر وعقائدها وتاريخها ويعتبر العالمان الألمانيان أريك هورننج، ويان اسمان، من أعظم علماء المصريات المتخصصين في الديانة المصرية القديمة، قرأت لهورننج كتبه المترجمة إلي اللغة العربية مثل «أفق الأبدية» عن عقيدة العالم الآخر، و«الوحدانية والتعدد» في الفكر المصري القديم، وأسهمت في التعريف بكتاب رائع نشر في أخبار الأدب مسلسلاً عندما دفعت به إلي المترجم القدير حسن حسين شكري ليترجمه من الانجليزية وصدر في مشروع الألف كتاب الثاني من الهيئة العامة للكتاب، أما يان اسمان فقد ترجم إلي العربية عدد من مؤلفاته، منها «ماعت» رمز الحق والعدل، و«مصر القديمة» الذي طبع في دار الجمل، وعن نفس الدار أيضاً صدر «التمييز الموسوي» بترجمة ويعتبر من أهم ما قرأت لأنه يفسر مسئولية الديانة الموسوية في اعتبار مصر القديمة وثنية، ورغم أنني حساس جداً فيما يتعلق بذكر ديانات الأشخاص إلا أنه لابد من الإشارة إلي يان اسمان وجيمس برستد، فكل منهما أنصف العقيدة المصرية والحضارة المصرية التي انبثقت عنها رغم معتقدهما الإيماني «اليهودية» لقد كانا عالمين جليلين متجددين، لا أعرف مثيلاً لهما في علماء المصريات من المصريين، صحيح هناك أسماء جليلة ونزيهة مثل محرم كمال وسليم حسن وجودت جبرة وأحمد فخري وعلي رضوان وجاب الله علي جاب الله وعبدالمنعم عبدالحليم وعبدالحليم نور الدين، لكن يظل دور علماء المصريات الأجانب أهم وأعمق، رغم ظهور مدرسة مصرية ماتزال في طور التكوين والنشوء، لأن رؤية الحضارة المصرية من داخلها أمر مختلف، لجيمس هنري برستد مؤلفات عديدة لم تترجم بعد من الانجليزية، وأثمن ما عدت به من شيكاغو كتاب نادر طُبع عام 1948 عن الخدم في مصر القديمة وقد عثرت عليه في مكتبة متخصصة في بيع الكتب المستعملة، تقع في نطاق الجامعة وقرب البيت الذي نزلت فيه، وكتاب آخر عن برستد نفسه، ترجمة لحياته كتبها «جفري أبت» وصدرت العام الماضي قبل وصولي بشهور، لم أتردد في شراء نسخة عندما لمحته معروضاً في المكتبة الملحقة بمتحف الحضارة الشرقية الذي أسسه وأنشأه برستد، في مبني القاعة الشرقية والذي يوجد فيه مكتبه وغرفة التدريس التي كان يُلقي فيها دروسه، والتي خصصت لي لكي ألقي فيها دروس شيكاغو، من هو برستد إذن وماذا يعني عندي؟
برستد
خلال المرحلة الطويلة مع البشر والكتب، علمتني التجربة أن ثمة صلات عميقة تقوم بيننا وبين الذين لم نلتق بهم ويفصلنا عنهم قرون عديدة، صلة من خلال النصوص، ذلك أن الإنسان يكون في جوهره من خلال ما يكتبه، إذا أتيحت الفرصة لمعرفته نصاً وشخصاً، كما جري لحسن حظي مع نجيب محفوظ، فيا للسعادة أما أولئك الذين عرفناهم من خلال كتبهم وآرائهم فما أقربهم بالنص، بما نضمنه من زفرات ورسائل مبثوثة، جيمس هنري برستد أنصف حضارة الأمة التي أنتمي إليها، أول حضارة في تاريخ الإنسانية، ولكم ظلمت هذه الحضارة حتي إن من حماها ورعاها وأقام العدل أصبح رمزاً للطغيان بسبب سوء الفهم، عندما وُلد برستد عام 1865 لم يكن هناك علم للمصريات في الولايات المتحدة، كانت فرنسا هي مركز علم المصريات بعدها ألمانيا، بدأ برستد تعليمه في كلية الصيدلة، وكان قد وُلد لأبوين هما شارلز وهاريت برستد، أنجبا أربعة أطفال ترتيبه الثالث بينهم، كان نشيطاً ذكياً، يهوي الصيد والرحلات الخلوية ولعبة البيسبول الكرة الأمريكية كان والده تاجراً ناجحاً ويمتلك معرضاً في وسط مدينة شيكاغو، غير أن برستد كان قد قرأ العهد القديم وأثار خياله ما عرفه من أحداث في مصر وبين النهرين، بدأ يتعلم اللغة العبرية، ثم بدأ يهتم بتاريخ مصر وحصل علي درجة علمية من جامعة ييل، إلا أن علم المصريات في الجامعات الأمريكية لم يرو ظمأه إلي معرفة تفاصيل هذه الحضارة، حصل علي منحة دراسية واتجه إلي ألمانيا للدراسة، وتتلمذ لواحد من أكبر علماء المصريات في التاريخ، أدولف أرمان وقد منحه درجة الدكتوراه في المصريات، حتي وجوده في ألمانيا لم يكن قد لمس أرض مصر، ولكن بعد زواجه جاء إليها ليمضي شهر العسل، كان ذلك عام 1894، بالطبع أستطيع تخيل حالته الروحية عندما لمس تراب البلد الذي عرف حضارته القديمة عبر النصوص والمراجع، عاد إلي الولايات المتحدة ليعمل بوظيفة إدارية بمتحف هاسكل Haskl للآثار الشرقية التابع لجامعة شيكاغو، تدرج في العمل الإداري ولم يتوقف عن البحث، أصبح أول أستاذ أكاديمي لعلم المصريات، شغل أول كرسي ينشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا يعتبر أول أستاذ للمصريات ومؤسس العلم بمصر في أمريكا، كان مجال تخصصه النصوص القديمة، ولذلك عندما شرع العلماء الألمان في وضع قاموس برلين للغة المصرية القديمة والذي مازال مرجعاً أساسياً، بل الأول في العالم، استدعاه الألمان وكلفوه بنسخ النصوص المكتوبة والمحفوظة في جميع متاحف أوروبا، وقد أنجز المهمة بدقة، خلال هذه المرحلة قرر أن يرحل إلي مصر فلن تكتمل دراسته إلا إذا زار النبع الأصلي، خاصة أن آلاف النصوص منتشرة في مصر، هذا العمل العظيم الذي قام به لاستنساخ النصوص المصرية قام به وأصدره بالانجليزية وبعد حوالي مائة عام أقدم مجموعة من المثقفين المصريين من غير المتخصصين في المصريات علي ترجمته إلي العربية في خمسة مجلدات ضخمة وقد أشرت إليه في حينه، ترجمه أحمد محمود وراجعه الأستاذ الجليل جاب الله علي جاب الله رحمه الله وتشكلت هيئة النشر من رضا الطويل مشرفاً عاماً، وكمال رمزي الناقد السينمائي المعروف ورفعت السيد علي ومحمود الطويل وخالد الشلودي، لقد أنجزوا عملاً رائعاً عجزت عن مثله مؤسسات وزارتي الثقافة والآثار والأخيرة كان إنشاؤها نكبة علي الآثار من خلال التجربة العملية والمستمرة حتي الآن ولهذا حديث طويل أبسطه فيما بعد، وقد أصدر المشروع عدة كتب مهمة غير أنه في حدود متابعتي توقف الآن، عاد برستد إلي أمريكا، بعد توقف الحرب العالمية الأولي، استطاع إقناع روكفلر الملياردير الأمريكي بإنشاء المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو، وهذا هو المبني الذي أقيم فيه الاحتفال التذكاري لتأبين الدكتور فاروق عبدالوهاب، وفيه جلست في غرفة برستد للتدريس، في الطابق الأول متحف يضم آثاراً من وادي النيل ومن بين النهرين، ومكتبة متخصصة في المصريات، اقتنيت منها ذلك الكتاب الضخم عن جيمس برستد، وفي حدود ما أعلم يعتبر الترجمة الوحيدة الدقيقة لحياته وإنجازه العلمي، في المتاحف، في المعاهد العلمية، في المستشفيات أقابل أسماء أفراد عائلة روكفلر، نموذج للدور الاجتماعي الذي يمكن أن يقوم به الرأسماليون في إطار نظام حقيقي له أصوله وقواعده وهذا ما نفتقده حتي الآن في مصر، يقول برستد عن الهدف من إنشاء هذا المركز:
«.. لكي يساهم في فهم الحياة الإنسانية عن طريق مسيرة التطور ومراحلها العديدة التي وصلت بنا إلي ما نحن عليه الآن، وتحفزنا هذه الغاية إلي الكشف عن دور حضارات الشرق الأدني المفقودة وهي الحضارات التي أرست أسس حضارة الغرب»..هذا المعهد الذي أسسه برستد في أمريكا يعتبر الآن أحد أهم مراكز دراسة التاريخ المصري في العالم، غير أن برستد أسس معهداً مهماً في مصر أيضاً.
بيت شيكاغو
منذ أن بدأ ترددي علي الأقصر عام 1960 وأنا أمر بمبني اسمه «بيت شيكاغو» معروف وله شهرة في المنطقة، كثيراً ما كنت أسأل نفسي: ما علاقة شيكاغو بالأقصر؟، لم أسأل ولم ينشأ ظرف يؤهل لدخوله أو للاستفسار عن إنشائه ومعرفة حقيقة عمله، إلي أن عرفت صلة برستد به فهو الذي أنشأه، عندما جاء إلي مصر عام 1924 بعد إنشائه لقسم في جامعة شيكاغو متخصص في نسخ الرسوم والكتابات الموجودة في المعابد الكبري والمراقد الأبدية بمنطقة الأقصر مع استخدام أحدث الوسائل التكنولوجية لتحقيق هذه الغاية، بعد أن بدأ القسم عمله في شيكاغو، جاء إلي مصر، بمنحة من روكفلر أيضاً، وفي عام 1931 أنشأ علي البر الشرقي معهداً أصبح معروفاً «بيت شيكاغو» قريباً من معهد الكرنك، ومن خلاله تتم جميع الأعمال العلمية في المنطقة، ويحتوي علي أماكن للإقامة ومكاتب ومراسم ومعامل تصوير ومخازن وورش، كما أنه يضم مكتبة نادرة ربما تكون الأغني في المصريات، وأتمني ألا يكون الإهمال قد امتد إليها كما جري في المكتبات المصرية التي تولاها موظفون معظمهم منعدمو الضمائر للأسف، لبيت شيكاغو مطبوعات مهمة منها وصف دقيق لمعبد هابو الذي بناه رمسيس الثالث ومعبد الكرنك وبعض مقابر البر الغربي، أشير هنا إلي مطبوعات المعهد الفرنسي بالمنيرة المعروف بالفاو، وقد قام العلماء فيه بنسخ جميع اللوحات والنصوص الموجودة في معبد، ولو أن في مصر حركة ثقافية حقيقية لتم ترجمة ما أنجزه برستد، والعلماء الفرنسيون وترجمة ما قدموه خدمة للحضارة المصرية من داخل مصر، من الأقصر وقنا وسوهاج وسائر المواقع، كتب المعهد الفرنسي تباع في المعهد الفرنسي بالمنيرة، ولكن لم يتم مشروع لذلك، أما ما يصدر في عواصم العالم فلن أتحدث عنه، لقد كنت أقف يومياً في المكتبة الملحقة بالمتحف المصري وأتأمل العناوين الرائعة للأبحاث المنجزة وأتمني لو اشتريتها كلها وأهديتها إلي المركز القومي للترجمة لكي ينجز ترجمتها، لكن كيف أنقل هذا كله، وإذا كان ذلك ممكنا لأن مصر للطيران قد تجاملني في بعض الوزن، فالأمر مستحيل في الطيران الداخلي الأمريكي الذي يحاسب الراكب علي أي جرام زائد عن الوزن المقرر عشرين كيلو جراماً اخترت هذا الكتاب الضخم يقع في حوالي ستمائة صفحة عن سيرة حياة برستد الذي توفي عام 1935 ودفن في مقابر جرين وود، روكفورد، ايلو نوي، علي بعد ثمانية أميال جنوب مدينة شيكاغو، مكان جميل جداً، غابة خضراء فسيحة يتوسطها حجر من جرانيت أسوان الوردي الذي نحتت منه المسلات الشهيرة، تحتها ترقد قارورة تحوي الرماد المتخلف عن جثمان جيمس هنري برستد الذي أوصي بحرق جسده، مكتوب عليها بالانجليزية ما ترجمته:
تحت حجر الجرانيت الأسواني المصري
يرقد رماد جيمس هنري برستد
المؤرخ
عالم المصريات والحفريات
وُلد في روكفورد إلينوي
27 أغسطس 1865
توفي في مدينة نيويورك
2 ديسمبر 1935
إلي الحجر الأسواني ذهبت، وقفت خاشعاً في الغابة وأديت التحية..
لماذا برستد؟
جيمس هنري برستد أول عالم مصريات يكشف المضمون الروحي الكوني العميق للحضارة المصرية القديمة، اكتشف من خلال دراسته للنصوص أن المصريين أول من أسس لفكرة الضمير، وأن عقيدتهم كانت تدور حول إله واحد له تجليات عديدة، ومن خلال النصوص أثبت ان الدين المصري كان أساسا للديانات التالية، قسم صفحة لكتاب في «فجر الضمير» إلي نصفين، اناشيد اخناتون في ناحية ومزامير داود في الناحية الأخري، الثانية تتطابق مع الأولي ولست في حاجة إلي القول بأسبقية النصوص المصرية فتلك حقيقة علمية وتاريخية، في فجر الضمير أورد نصوصا من حكم المفكر المصري «امينوبي» الذي يعتبر من أقدم الحكماء في تاريخ الإنسانية، وأورد نصوصا من سفر الأمثال في التوراة الذي يحمل القيم الأخلاقية للديانة الموسوية، وإنني أورد بعض أجزاء المقارنة التي أجراها برستد متوالية وليست متقابلة لأن ظروف الطبع في الجريدة لا تسمح.
يقول امينوبي الحكيم:
«أمل أذنيك لتسمع أقوالي
وأعكف قلبك علي فهمها
لأنه شيء مفيد إذا وضعتها في قلبك
ولكن الويل لمن يتعداها»
ويورد برستد ما جاء في سفر الأمثال العبراني:
«أمل أذنيك واسمع كلام الحكماء
ووجه قلبك لمعرفتي
كأنه حسن ان حفظتها في جوفك
إن ثبتت جميعا علي شفتيك..»
«سفر الأمثال: 22- 17 18»
قال امينوبي المصري:
«لا تزحزحن علامات حدود الحقول
ولا تكونن شرها من أجل ذراع
أرضي ولا تتعدين علي حدود أرملة
«امينوبي 7، 12 15»
جاء في سفر الأمثال العبراني:
«لا تنقل التخم القديم. ولا تدخل حقول الأيتام..»
سفر الأمثال 23 : 10
قال امينوبي المصري:
«الفقر في يد الله خير
من الغني في المخازن
وأرغفة تحصل عليها بقلب فرح
خير من ثروة تحصل عليها في تعاسة»
«امينوبي 9 : 5 - 8»
جاء في سفر الأمثال العبراني
القليل من مخافة الرب خير
من كنز عظيم مع هم
أكلة من البقول حيث تكون المحبة
خير من ثور معلوف ومعه بغضة
«ترجمة سليم حسن في فجر الضمير»
هكذا، كنت عامراً بذكري برستد عندما اتجهت يوم الاثنين الحادي عشر من سبتمبر إلي القاعة الشرقية، إلي الطابق الثاني فوق المتحف المصري حيث الحجرة التي اعتاد برستد التدريس فيها، تقع في مواجهة المصعد، كان البروفيسور مايكل سيلز ينتظرني، مجموعة من طلاب الدراسات العليا يبلغ عددهم حوالي أربعة عشر، سبورة ضخمة خضراء اللون في صدارة القاعة الصغيرة. بدأ مايكل بتقديمي إلي الطلبة، ثم استأذن منصرفا وبدأت حديثي الأول إليهم معرفا بي وبمن أكون وكيف كانت رحلتي الطويلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.