تشتد الانتقادات لشيخ الجامع الازهر بين الحين والآخر كلما ازدادت حدة المواجهات مع جماعة الإخوان المسلمين. فلقد جزعت قلوب وعيون المصريين للأحداث المفجعة والمقصودة والمرتبة لابتزاز البلاد فى الأسابيع الأخيرة. فمَن مِن المصريين يستطيع أن يتجاهل العمل السياسى الذى تم حول الكنائس المصرية. واستخدام تعبير عمل سياسى هو استخدام مقصود وليس زلة لغوية. فما تم هو عمل سياسى يقصد به كسر إرادة المصريين وابتزازهم بألا هدوء ولا سكينة فى مصر مادام الإخوان المسلمون مستبعدين. ولقد لخصت تغريدة التعزية التى وجهها البرادعى للمصريين الأمر، ففى التغريدة الانذارية أوصى الرجل المتقمص لدور الحكيم (بضرورة عدم استبعاد الآخر) وتركت كلمته المنحوتة بعناية الناس يخمنون: ماذا يقصد؟ فهل يقصد بالتعبير استبعاد الإخوان المسلمين؟! فالرجل لا دور له إلا الوساطة، فقد كان ومازال (جنرالا بلا جنود)، وهو نموذجٌ متكررٌ لرجالٍ مثله يظهرون وسط الأزمات السياسية، يلعبون أدواراً للسمسرة وسط الصراع. فلقد انتهى دوره كوسيط مع تصفية اعتصام رابعة المسلح. فهل تغريدته تلك هى إشارة إلى أن مسلحى الإخوان وأحداث طنطاوالإسكندرية تفتح بوابات الوساطة من جديد؟ لا يستطيع المرء تجاهل الإخوان المسلمين رغم أنهم لا يتبنون العمليات العسكرية فى مصر، خشية التصنيف بالإرهاب فى اوروبا وشمال أمريكا. فالإخوان لم يكونوا أبداً تنظيماً مصرياً فقط، فالتنظيم الدولى للإخوان المسلمين يمتد عبر العالم، وكان لوقت قريب مدعوماً من معظم دول النفط ومازال حتى اليوم تدعمه قطر وتركيا. فالمعركة الدائرة اليوم على الأراضى المصرية لإسقاط الدولة وكسر إرادتها تعنى الإخوان المسلمين بالأساس قبل غيرهم. فمن العريشلطنطا للإسكندرية والقاهرة تدور معركة الإخوان المسلمين، وحتى إن كانت قياداتهم فى السجون فتنظيمهم الدولى حى ويتحرك من سوريا لليبيا للسودان لغزة وتركيا. وهذا التنظيم بانتحارييه يأتمر بالجسد الإخوانجى فى البلاد ويدعمه ويغض البصر عن المتعاطفين معهم بمقولة (ومين جاب سيرة الإخوان دلوقتي؟!) أو بالادعاء بأن ما يطلق عليه اسم “داعش” هو شيء مختلف عن الإخوان وليس تنظيماً منبثقاً منهم متحالفا معهم يرتدى طاقية للإخفاء. إحساس الأقباط المصريين بالألم عظيم وكبير، حتى وإن كان عدد ضحاياهم أقل من مجموع عدد ضحايا المسلمين، وإذا كان الإخوان المسلمون قد وقعوا وثيقة إعلان انتحارهم باستخدام العنف ضد المصريين والشرطة والقوات المسلحة، فلقد وقعوا وثيقة خروجهم النهائى من التاريخ الوطنى للجماعة المصرية باستهدافهم الأقباط المصريين. فحادثا الكنيستين كانا ككل أحداث الاعتداء على الدولة حدثين دقيقتين ومرتبين أعدتهما خلايا إخوانجية فى (مناطق مظلمة أمنيا) وهو تعبير عن تصاعد وتغيير فى استراتيجية العنف ضد الدولة للضغط عليها ولتركيعها وسط أزمات اقتصادية عاصفة وضغوط إقليمية من الجهات الأربع. فالفرق بين حوادث اغتيال النائب العام ورجال الأمن والشرطة لحوادث الاعتداء على العزل لمجرد أنهم أقباط جد عظيم! فهو تطور خطير يدل على ما هو قادم من أحداث شرسة مروعة قد تجابه مصر، فلقد وصل الفُجر بجماعة الإخوان حدود الجنون. ففى عالم تتشكل قواه وانحيازاته من جديد كانت مصر من طلائع التغيير. فمواقف المصريين فى ال 30 يونيو كانت من أهم معاول تصفية عالم القطب الواحد. ولهذا فإن الصراعات بين الأجنحة الأمريكية والأوروبية ذاتها قد تدور على الأراضى المصرية؛ فلقد كان الإخوان المسلمون أحد رهانات أطراف اوروبية وبريطانية وأوروبية عديدة. وسط كل هذا وقبله - وربما بعده - تشتد الضغوط على شيخ الجامع الأزهر، فالناس تنتظر منه الكثير. والأقباط لا يسعهم إلا النظر إلى منصبه الرفيع فيعلقون عليه وبين يديه كل ما تعانيه الأمة المصرية من آلام لمخاض جديد، وما يصاحبه من فزع وقلق ودماء. إلا أن مصر فى حقيقة الأمر محظوظة بالرجل، فشيخ الأزهر له تاريخ واضح من التسامح والانحياز للإنسانية، وربما فإن حديثه الموثق والمسجل عن عظة الجبل للسيد المسيح وما تحتويه من خلاصة للعبر الإنسانية، وما كتبه عن السيدة مريم العذراء وموقف الإسلام منها هو تجسيد رفيع لرجل صادق أمين. ولعل المطالبين بتغيير الأزهر لا يتزيدون فى الضغط، ويدركون أن هناك مؤسسات لا تستطيع التغيير بين عشية وضحاها، ولا تستطيع التغيير ومجتمعاتها لم تنعم بالتغيير بعد، وهذا واضح فى تاريخ الأزهر ذاته. فانتقادات طه حسين للأزهر لم تغيره رغم ضرورتها، ولكن ما غير البلاد بالفعل كان مجانية التعليم الإلزامى وما تبعها من انتشار التعليم الحديث. هذا الترابط بين تطوير المجتمع وتطور المؤسسات الدينية واضح أيضاً فى أوروبا؛ فمواقف الكنيسة ورجال الدين المسيحيين الكاثوليك تتباين وتختلف عن نظرائهم من المذهب نفسه والديانة تبعا لتطور المجتمعات بين أيرلندا لانجلترا واسبانيا وألمانيا. يحتد ويغضب الكثيرون من تباطؤ شيخ الأزهر فى إعلان أن الدواعش كفار! والحقيقة هى أن فى تردده وبطئه حكمة. فلعل مصلحة الوطن كله أن نتباعد جميعاً عن عصر الفتاوى، فإطلاقها ضرر، بل والأهم أنها يجب ألا تفرق كثيراً. فالمجتمع المصرى كان وسيظل مجتمعاً متعدداً وسيزداد تعدده، وسيكون بداخل كل قطاعاته قناعات وإيمان وممارسات متباينة يجدر احترامها. الأمر هو كيف يتم تنظيم حياة الجميع بالقانون - إن لم يكن الدستور؟ وهنا مربط الفرس؛ فالقانون فى مصر لا يمكن تفعيل بعض مواده لأن به مواد دستورية تعلن أن الإسلام هو (المصدر الأساسى للتشريع). ولعلنا لم ننس كيف أنه فى أعوام مضت كان هناك من يتحدى رجال القضاء، ويعلن أن أحكامهم غير قانونية لأنها تتناقض مع المادة الثانية من الدستور والتى تنص على أن المصدر الأساسى للتشريع هو الإسلام. هذا النص تم وضعه كجزء من صفقة فى حكم السادات وكان ما سبقه فى عصر عبد الناصر أكثر رحابة، ولعلنا نعود إليه وهو أن (الإسلام أحد المصادر الأساسية للتشريع). هذا الفارق البسيط يعطى المجتمع الفرصة للحراك مع قوانين تبتزها قوى سياسية مسلحة بعينها كالإخوان المسلمين. وقد يكون الحديث عن المادة الثانية من الدستور عبثياً، فى مناخ تحتشد فيه الجماعات المسلحة المنبثقة من جماعة الإخوان والمتحالفة معها والمؤتمرة بأمر مكتب إرشادها ضد الدولة والشعب فى مصر. وقد يكون هذا الحديث هو حديث حالمين فى وقت تنهمر فيه أموال البترودولار على الإسلام السياسي، وقد يكون حديثاً متهاوناً فى وقت تتفجر فيه القنابل فى المصريين فى سيناء، وقد يكون مغامراً فى وقت يتم فيه تهديد بابا الإسكندرية بتفجيرات على أبوب الكنائس، ولكنه قد يكون أيضاً دقيقاً فى عالم تعرفت فيه أمريكا والغرب على مغبة استخدام المرتزقة المسلمين فى سوريا كما استخدمتهم فى أفغانستان. فحقائق الهجرة وسيولة الأفكار وثورة المعلومات قد تجبر العالم على الاعتراف بأنه لا طريق أمام سلامة الشمال إلا استقرار مصر. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;