لماذا تراجعت الدعوة لتجديد الخطاب الدينى وخفتت أصوات الداعين فى هذه الأيام الأخيرة بعد أن ارتفعت عقب ثورة يونيو التى أسقطت سلطة الاخوان وبدا كأن تجديد الخطاب الدينى أصبح مطلبا يوميا وشعارا من شعارات الثورة الشعبية التى انحاز لها الجيش ممثلا فى الفريق عبد الفتاح السيسى الذى تبنى الشعار، وظل يطالب علماء الأزهر فى كل لقاء معهم بتجديد الخطاب الدينى وأحيانا بثورة دينية تتجاوز الاصلاح والتعديل، إلى الاضافة والتأسيس لخطاب جديد ينبع من هذا العصر ويلبى حاجاته، وهو موقف مفهوم من رجل عسكرى أصبح بعد ثورة يونيو رئيسا للدولة. لقد استطاع المصريون فى يونيو أن يسقطوا الدولة الدينية التى أراد الاخوان والسلفيون وحلفاؤهم فى الداخل والخارج أن يعيدوا إحياءها ويقيموها من جديد فى مصر على أنقاض الدولة الوطنية التى بنيناها خلال القرنين الماضيين اللذين حاولنا فيهما أن نخرج من ظلمات العصور الوسطى وأن ننشئ دولة حديثة نستعيد بها استقلالنا الذى فقدناه وحرمنا منه ألفى عام خضعنا خلالها لحكم الغزاة الأجانب الذين احتلوا بلادنا واستعبدونا واغتصبوا ثرواتنا باسم المسيحية مرة وباسم الاسلام مرة أخري. ولاننا كنا محرومين فى تلك العصور المظلمة من أن نحكم أنفسنا كنا محرومين فى الوقت ذاته من حمل السلاح. من هنا فقدنا حقنا فى بناء جيش وطنى حين فقدنا حقنا فى بناء دولة وطنية. ومن هنا نجحنا فى استعادة الحقين معا خلال القرنين الماضيين اللذين استطعنا فيهما أن نتحرر خطوة بعد خطوة من الغزاة والمحتلين الأتراك والأوروبيين. محمد على الذى قدر له أن يقودنا فى هذا الطريق لم ينجح فقط فى الخروج بمصر من الهيمنة التركية لتستعيد استقلالها، بل نجح أيضا فى بناء جيش وطنى حديث عدنا فيه لحمل السلاح واستطعنا به أن نسيطر على كل ما حولنا ونثأر لأنفسنا من الغزاة الذين تكالبوا علينا فى العصور الماضية، فقد دخلنا اليونان بهذا الجيش، ودخلنا الجزيرة العربية، ودخلنا السودان، واخترقنا بلاد الشام، ودخلنا تركيا ذاتها. من الطبيعى إذن أن يكون شعار ثورة يونيو هو تجديد الخطاب الديني. لأن الخطاب الموروث من الدول الدينية التى خضعنا لها لا مكان له فى الدولة الوطنية. ومن الطبيعى كذلك أن تتبنى القوات المسلحة المصرية هذا الشعار، وتطالب بتجديد الفكر الديني، لأن وجود القوات المسلحة مشروط بوجود الدولة الوطنية التى قامت على أنقاض الدولة الدينية، أى على أنقاض الخطاب الدينى القديم. وهناك من لا ينتبهون لهذه العلاقة التى تربط هذه الأطراف بعضها ببعض وتجعل تجديد الخطاب الدينى شرطا لقيام الدولة الوطنية بأسسها وأركانها المختلفة. والأساس الأول هو فصل الدين عن الدولة، لأن الدين علاقة بين الإنسان الفرد وربه، أما الدولة فهى كيان جامع يضم كل أفراد الجماعة الوطنية على اختلاف أديانهم وعقائدهم. والأساس أو الركن الآخر للدولة الوطنية هو الديمقراطية التى تتجسد بها الرابطة الوطنية وتصبح حياة مشتركة تجمع بين كل المنتمين للوطن، وتجعلهم المصدر الوحيد لكل السلطات، وتسلم لهم بحقهم المقدس فى أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. وعلى هذا الأساس تنبنى كل مؤسسات الدولة وتتشكل وتكتسب شرعيتها، وفى مقدمتها الجيش الذى ينهض بالدفاع عن أرض الوطن وحماية الاستقلال. فإذا كان المصريون قد خطوا خطواتهم الأولى نحو الدولة الوطنية منذ قرنين، أى منذ بدايات القرن التاسع عشر فقد أدركوا منذ ذلك الوقت أن الخطاب الدينى القديم لم يعد صالحا لهم، ولم يعد يلبى مطالبهم أو يجيب عن أسئلتهم، وأنهم فى أشد الحاجة لخطاب دينى جديد يكون عونا لهم فى معركتهم التى خاضوها على كل الجبهات، فى الداخل والخارج، مع غيرهم ومع أنفسهم، ومع ماضيهم وحاضرهم. معركتنا كانت مع المماليك والأتراك الذين احتلوا بلادنا وفرضوا تخلفهم علينا قرونا متواصلة باسم الاسلام. ومع المستعمرين الأوروبيين الذين تكالبوا علينا ليغتصبوا ثرواتنا ويحرسوا مستعمراتهم هنا وهناك. ومع أنفسنا لنغسلها من أدران الماضى ونخلصها من أغلاله وأثقاله. وفى هذه المعركة الضارية التى دخلناها منذ قرنين ولم نخرج منها إلى الآن أخذنا نرفع أصواتنا نطالب بتجديد الخطاب الديني. كنا نطالب بتجديد هذا الخطاب، ولانزال نطالب بتجديده لأننا فى حاجة للدين الذى أعطيناه من أرواحنا وطاقاتنا كما أعطانا. فهو ركن من أركان وجودنا فى هذه الدنيا التى نحتاج إليها بالقدر ذاته، فلابد من خطاب دينى يعطى ما للدين للدين، وما للدنيا للدنيا. لابد من خطاب دينى جديد يميز بين العقائد الثابتة والقيم الانسانية المتفق عليها، وبين الحياة التى تتطور وتتغير وتكشف لنا كل يوم عن جديد نحتاج معه لفكر جديد وخطاب جديد يتفق مع روح العصر الذى نعيش فيه، ويلبى مطالبه التى لا يمكن أن تتناقض مع روح الدين. الحرية لا تتناقض مع روح الدين. حرية الوطن، وحرية المواطن، وحرية المواطنين مجتمعين. والعقلانية لا تتناقض مع روح الدين. لأن العقلانية هى الاحتكام للعقل الذى منحنا الله إياه، وكرمنا به لنميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وهذا هو ما نطلبه فى الدين ونحتكم له فيه. والمساواة لا تتناقض مع الدين. والعدالة لا تتناقض مع الدين. والاخوة البشرية لا تتناقض مع الدين. وتلك هى القيم التى نريد أن نحييها ونجسدها فى هذا العصر بما نبنيه من مؤسسات، وبما نضعه من قوانين تلبى مطالبنا، وتمثل شخصيتنا، وتضمن لنا التقدم والرخاء، تجديد الخطاب الدينى إذن لا يلبى حاجاتنا الدنيوية وحدها، بل يلبى معها حاجاتنا الدينية التى لا نستطيع أن نلبيها على الوجه الصحيح إذا لم تتسع حياتنا لهذه القيم أو إذا كانت فيها منبوذة مضطهدة. والسؤال من جديد: لماذا تراجعت الدعوة لتجديد الخطاب الدينى ولماذا خفتت أصوات الداعين لتجديده فى هذه الأيام؟! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطى حجازى