اتفقنا أو يجب أن نتفق على أن تجديد الخطاب الدينى ليس مجرد وثيقة تكتب، أو بيان يصدر، وإنما هو اجتهادات فى الإجابة على أسئلة الواقع المعاصر تتعدد مجالاتها، وتتراكم لتصبح ثقافة جديدة تنقلنا من عصور الظلمة والعبودية والتخلف، إلى هذه العصور الحديثة التى استرد فيها البشر عقولهم، وعرفوا طريقهم إلى العلم والحرية والرخاء. هؤلاء الذين سبقونا إلى العصور الحديثة، وأنا أتحدث عن الأوروبيين، سبقونا أيضا إلى تجديد خطابهم الديني، فإذا كان علينا أن ننتفع بما حققوه من تقدم فى جميع المجالات، فعلينا أن ننتفع قبل كل شيء بتجربتهم التى خاضوها فى تجديد خطابهم الديني، هذه التجربة التى حققوا بها نهضتهم، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن. الأوروبيون مثلنا عاشوا عصورهم الوسطى فى ظل الإمبراطوريات المقدسة، التى كانت فيها الكنيسة سلطة حاكمة، وكان فيها الملوك والأباطرة يحكمون رعاياهم بتفويض من الله، أو هكذا كانوا يزعمون. ونحن مثلهم عشنا عصورنا الوسطى فى ظل هذه الإمبراطوريات الدينية التى اختلفت أسماؤها، وأشكالها عندنا بعض الشيء، لكن جوهرها واحد، فهى دول دينية يتولى أمورها عندنا خليفة يسمى نفسه أمير المؤمنين، ويجمع فى يده بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وبهذا كانت الحكومة الدينية عندنا أسوأ من الحكومة الدينية فى أوروبا، لأن اقتسام السلطة بين القيصر والكنيسة كان يسمح بشيء من الاختلاف، وبالتالى بشيء من الحرية، على حين كان الجمع بين السلطتين فى الدول الإسلامية والانفراد بهما طغيانا مطلقا، عبر عنه الشاعر حين مدح واحدا من الحكام المسلمين فجعله إلها، وجعل له مشيئة تغلب مشيئة القدر: ما شئت، لا ما شاءت الأقدار فاحكم، فأنت الواحد القهار هذا الطغيان المطلق كان يستند عندنا وعند الأوروبيين إلى خطاب دينى واحد يكره الدنيا، ويعتبرها شرا مطلقا لابد أن يعبره الإنسان إلى الآخرة، وليس معه فى هذا العبور إلا النص الدينى الذى حل محل العقل وأصبح مرجعا فى كل أمر من أمور الحياة. كيف تحرر الأوروبيون من هذا الطغيان؟ وكيف جددوا خطابهم الديني؟ الجواب بكل بساطة أنهم أعادوا للعقل اعتباره، وللحياة اعتبارها، فأعطوا الدنيا حقها، وأعطوا الدين حقه، وجعلوا للعقل مكانه، وللنص الدينى مكانه. العقيدة الدينية جواب على أسئلة لا جواب لها إلا فى الدين، والعلم جواب على أسئلة أخرى يطرحها علينا الواقع، ويحفزنا للإجابة عنها بما نملك من حواس وعقول وخبرات استطاع بها جاليليو أن يثبت أن الأرض هى التى تدور حول الشمس وليس العكس كما يفهم من النصوص الدينية، كما استطاع كولمبس أن يعبر بحر الظلمات إلى العالم الجديد، ومن كولمبس فى القرن الخامس عشر، وجاليليو فى السابع عشر حتى نصل إلى داروين وأينشتين، وإلى غزو الفضاء والهبوط على سطح القمر، ومن ثورة مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية، إلى الثورات الإنجليزية والأمريكية والفرنسية مرت قرون نهض فيها الأوروبيون، وجددوا خطابهم الديني، وجددوا حياتهم كلها، فإذا كنا نريد أن ننهض كما نهضوا، فليس أمامنا إلا الطريق الذى سلكوه، أن نعرف للدين مكانه، وللدنيا مكانها. نعرف الدين من الديان، ونعرف الدنيا من أنفسنا، وفى هذا الطريق نسير ونواجه الأسئلة والمشكلات التى لابد أن نواجهها ونردها إلى أسبابها فى الواقع، ونجيب عليها بما نملك من طاقات عقلية لا تستطيع أن تعمل إلا بشرط هو الحرية. نعم، حرية التفكير والتعبير شرط جوهرى لتجديد خطابنا الديني، كما أن مصادرة الرأي، وتكميم الأفواه، والعدوان الدائم على حرية التفكير والتعبير، هى الأسلحة التى استخدمها الحكام الطغاة وأذيالهم من الفقهاء المتخلفين، وأذيال أذيالهم من الرعاع المتطرفين، وهذا ما جربناه طيلة القرنين الماضيين اللذين تعرضنا فيهما لأخطار ماحقة حاولنا فيهما أن نخرج من عزلتنا، ونوقظ ملكاتنا، ونستنهض قوانا، وهذا ما لم يكن ممكنا إلا بتجديد الخطاب الدينى الذى لم يكن ممكنا إلا بحرية التفكير والتعبير التى كانت هدفا دائما للعدوان من جانب السلطة الحاكمة، ومؤسساتها الدينية، ومن هنا تعثرت النهضة المصرية وترددت وضلت طريقها، وفقدت ثقتها فى نفسها، وإيمانها بأهدافها لأنها كانت محرومة فى معظم المراحل من الحرية، والنتيجة أننا لا نزال أسرى للخطاب الدينى القديم المتهالك، ولا نزال بالتالى نعيش فى العصور التى أنتجت هذا الخطاب، أو فى عصر هجين نصفه ماض ونصفه حاضر، شكل ولا جوهر، وأقوال وأسماء تتناقض مع الأفعال والمسميات، ومع أننا بدأنا مسيرة النهضة منذ قرنين، واجتزنا فيها عقبات وقطعنا أشواطا، فنحن لا نزال نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى وكأننا نتعرف على حاجة لم نتعرف عليها من قبل، ولم نسر فى طريق التجديد خطوة واحدة. ونحن نعرف أن الدعوة لتجديد الخطاب الدينى بدأت مع الجبرتى والعطار، ونعرف ما قام به محمد عبده وتلاميذه فى هذا السبيل، ونعرف ما قام به مثقفون آخرون ذكرت بعضهم فى حديث الأربعاء الماضي، وبوسعى ومن واجبى أن أضيف لهم اليوم أسماء أخرى لا يحسب أصحابها ضمن من يتحدثون فى الخطاب الديني، لأنهم ليسوا كلهم من رجال الأزهر، ولأنهم لا يتناولون هذا الخطاب من حيث هو قضايا مطروحة على الفقهاء المختصين، وإنما يتناولونه كمثقفين مهمومين بالنهضة، وبما يجب لها من خطاب دينى جديد يسهم فى تجديد الحياة الوطنية فى صورها المختلفة، كما نجد فى كتابات قاسم أمين، ومنصور فهمي، وخالد محمد خالد، وعبدالرزاق السنهوري، وسيد القمني، وأشرف دهشان.. وسواهم.ولأن تجديد الخطاب الدينى لم يبدأ اليوم، ولأنه مسيرة ممتدة. واجتهادات مختلفة، رأينا الأزهر يشارك أخيرا فى هذه المسيرة بالوثيقة التى حررها صلاح فضل، ونشرت قبل ثلاثة أسابيع، وأثارت ما أثارته من تعليقات أظن أنها كانت إيجابية فى معظمها، لأن الأزهر يشارك هذه المرة فى تجديد الخطاب الدينى كمؤسسة، بعد أن كان الأزهريون أو بعضهم يشاركون فى هذا التجديد باجتهادات فردية يقف منها الأزهر موقف الرفض والمعارضة والاتهام. ثم إن الأزهر كان حريصا فى هذه الوثيقة على أن يشرك معه بعض المثقفين، فالوثيقة تعبر إذن ولو بطريقة غير مباشرة عن رغبة الأزهر فى التصالح مع نفسه من ناحية، ومع المثقفين المصريين من ناحية أخري. غير أن المشكلة التى تواجه الأزهر هنا وتواجهنا معه تتمثل فى المبدأ الذى تتحقق على أساسه هذه المصالحة، أن يتصالح الأزهر مع نفسه ومع المثقفين، معناه أن يتصالح مع محمد عبده، وعلى عبدالرازق، وطه حسين، وخالد محمد خالد، وجمال البنا، وفرج فودة، ونصر حامد أبوزيد، وإسلام بحيري، وأن يتصالح الأزهر مع هؤلاء معناه أن يتصالح مع حرية التفكير والتعبير، وأن يشتغل بالعلم وحده بعيدا عن السلطة والسياسة. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي