قرأت الوثيقة التى حررها الدكتور صلاح فضل حول تجديد الخطاب الدينى ونشرتها منذ أيام قليلة صحيفة «المصرى اليوم» مع تقديم جاء فيه أن هذه الوثيقة هى الصيغة الثالثة التوافقية لما انتهت إليه نخبة من رجال الأزهر والمثقفين فى اجتماعات ولقاءات استمرت عاما كاملا، وأن «الأزهر يستعد لإعلانها خلال الفترة المقبلة بعد إلحاح الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية على ضرورة الإسراع فى تجديد الخطاب الدينى». والوثيقة تتناول المسائل المطروحة على الخطاب الدينى وتقدم فيها إجابات تتسم بسعة الصدر والانفتاح على حضارة العصر والتسليم بضرورة التجديد. لكن الوثيقة مع ذلك تثير أسئلة لابد من طرحها، وتقدم إجابات لابد من مناقشتها. ولنبدأ بالأسئلة التى تثيرها وأولها السؤال عن مكان هذه الوثيقة فى الطريق لتجديد الخطاب الدينى. هل هى الخطوة الأولى كما يمكن أن نفهم من بعض ما جاء فيها؟ أم هى خطوة فى مسيرة ممتدة سبقتها خطوات وسوف تتلوها خطوات أخرى؟ ونحن نعرف، أو يجب أن نعرف، أن تجديد الخطاب الدينى ليس مجرد إعلان أو فتوى نتسامح فيها بعض الشىء أو نحلل ما كنا نحرمه من قبل. ولكن تجديد الخطاب الدينى هو ثقافة جديدة نراجع بها ماضينا لنميز بين ما فيه من تراث حى متطور يجب أن نحافظ عليه وننتفع به وبين ما فيه من أمراض متوطنة وتقاليد بالية، ونظم فاسدة بائدة لا نزال نرسف فى أغلالها حتى الآن، وقد آن لنا أن نتحرر منها ونحتل مكاننا اللائق بنا فى حضارة هذه العصور الحديثة. تجديد الخطاب الدينى خروج من عصر مضى ودخول فى عصر جديد. ونحن نعرف أن حياتنا كلها فى ماضينا، ولا تزال إلى حد كبير فى حاضرنا، تأسست على الدين. ليس فقط على أصوله ومقاصده العابرة لحدود الزمان والمكان، بل أيضا على التفسيرات الوقتية والتفريعات الهامشية التى أنتجتها عصور التخلف والانغلاق وتحولت فيها إلى نصوص محصنة بسلطة الحكام الطغاة وفتاوى المنتفعين بهم والعاملين فى خدمتهم، أقول إن حياتنا كلها تأسست على هذه النصوص المتوارثة، حياتنا العامة والخاصة، أفكارنا وأخلاقنا، نظمنا السياسية والاجتماعية، نظرتنا لأنفسنا ونظرتنا للآخرين، فإذا كان علينا أن نجدد خطابنا الدينى فهذا لن يتحقق إلا بنهضة شاملة أو بالأحرى ثورة نجدد فيها حياتنا كلها أو نولد فيها من جديد. ونحن نعرف بعد ذلك أننا بدأنا هذه النهضة بالفعل وقطعنا فيها أشواطا بعيدة ثم توقفنا وتراجعنا لنفتح عيوننا اليوم على ما نحن فيه وندرك أننا فى أشد الحاجة لتجديد الخطاب الدينى، أو بالأحرى لاستئناف النشاط الذى بدأناه فى تجديده. أريد أن أقول إن الوثيقة التى يستعد الأزهر لإعلانها حول تجديد الخطاب الدينى يمكن أن تكون خطوة فى الطريق علينا أن نرحب بها ونناقش ما جاء فيها، لكنها ليست الخطوة الأولى، وإنما سبقتها خطوات يجب أن نستحضرها هى الأخرى ونعرف لها مكانها ودورها فى النهضة التى لا تتحقق إلا بتكامل الخطى وتضافر الجهود. هذه الخطوات السابقة أشارت إليها الوثيقة الجديدة إشارة سريعة حين ذكرت أسماء بعض الذين أسهموا فيها كرفاعة الطهطاوى، ومحمد عبده، ومصطفى عبدالرازق، وعلى عبدالرازق، والعقاد، وطه حسين، والشيخ شلتوت. وهى إشارة يبدو كأن الأزهر يراجع فيها نفسه. فمحمد عبده الذى وقف مع عرابى ضد الخديو المستبد، وطالب بتحرير الفكر من قيد التقليد، وأعلن أن الشرائع تتغير بتغير أحوال الأمم، محمد عبده كان يقف ضد الأزهر الذى عاصره فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، كما كان الأزهر يقف ضد محمد عبده وضد تلاميذه الذين تبنوا أفكاره ومنهم على عبدالرازق الذى دافع فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم» عن الدولة المدنية وعارض ما قامت به هيئة كبار العلماء ومعها الأزهر لنقل الخلافة التى ألغيت فى تركيا إلى مصر ومبايعة الملك فؤاد خليفة، فعقد له شيوخ الأزهر محاكمة انتهت بسحب شهادته وفصله من وظيفته فى القضاء الشرعى. وكنت فى لقاء مع الدكتور أحمد الطيب قد اقترحت عليه أن يراجع الأزهر موقفه من المثقفين الذين تبنوا أفكارا عارضها الأزهر وحاربهم بسببها ثم تبين لنا جميعا أنهم كانوا على حق مثل على عبدالرازق، وطه حسين، اقترحت على الدكتور الطيب أن يقوم الأزهر بهذه المراجعة ويفتح بها صفحة جديدة فى موقفه من حرية التفكير والتعبير وفى علاقته بالمثقفين المصريين كما قام الفاتيكان بمراجعة موقفه من زعماء النهضة الأوروبية ومفكريها الذين قدموا لمحاكم التفتيش وتعرضت أعمالهم للمصادرة وتعرضوا هم للسجن والموت من أمثال الفلكى البولندى كوبرنيكوس، والإيطالى جاليليو. غير أن الوثيقة لم تذكر شيئا عن خطوات أخرى كثيرة تحققت فى الطريق لتجديد الخطاب الدينى، بالسلب أحيانا، أى بنقد الخطاب التقليدى الموروث، كما فعل نصر حامد أبو زيد فى كتابه «نقد الخطاب الدينى»، وبالإيجاب أحيانا، أى بتقديم ما يتفق مع منهج العقل وروح العصر وقوانين التطور وحقوق الإنسان من ناحية، ومع روح الإسلام ومبادئه ومقاصده من ناحية أخرى، كما نجد فى كتاب محمود الشرقاوى «تقويم الفكر الدينى» وكتاب أمين الخولى «المجددون فى الإسلام» وفى رسائل شكرى عياد التى ناقش فيها دعوة جماعات الإسلام السياسى لتطبيق الشريعة وعلاقة الدين بالسياسة والعلم والمجتمع. وكما نجد فى مؤلفات جمال البنا التى دافع فيها عن مدنية الدولة وعن الديمقراطية وحرية الرأى والعقيدة، وأعلن أن الشريعة قابلة للتعديل والتصحيح لأنها أحكام تتعامل مع الحياة البشرية التى تتغير وتتطور. وهذا ما تعرض له أيضا خليل عبدالكريم فى كتابه «الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية». أما طه إبراهيم فهو فى «مساهمته فى حل أزمة العقل العربى المسلم» يناقش الخطاب الدينى التقليدى ويكشف عيوبه الخطيرة ويقترح بديلا عقلانيا يجسد روح الإسلام. وأنا لا أملك إحصاء لما قدمه المثقفون المصريون فى مجال تجديد الخطاب الدينى، ولا أظن أن أحدا يملكه. لأن تجيد الخطاب الدينى كان أمرا منسيا أو مرفوضا، وكان فى بعض الأحيان ولا يزال تهمة تسوق إلى السجن وربما إلى الموت كما حدث لإسلام بحيرى وفرج فودة، فإذا كانت هذه التهمة قد أصبحت مطلبا تتبناه الدولة وتدعو إليه بإلحاح، فأول ما يجب أن نقوم به الآن فى تجديد الخطاب الدينى هو أن نعرف ثروتنا من الأعمال التى قدمت فيه ونسهر عليها بالبحث والمناقشة. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي