يستطيع من شاء أن يرد حديثى اليوم عن تجديد الخطاب الدينى إلى المناسبة التى يمكن أن تستدعيه، وهى شهر رمضان الذى أُنزل فيه القرآن، لكننا لا نحتاج لمناسبة خاصة لنتذكر حاجتنا لتجديد الخطاب الديني، فالواقع الذى نعيشه منذ قرنين على الأقل، يذكرنا به آناء الليل، وأطراف النهار. الواقع الذى نعيشه يتطور كل يوم، ويتغير ويتبدل، والخطاب الدينى هو هو يعمل خارج الواقع، وخارج التاريخ، لا يتطور، ولا يتغير، ونحن بينهما نتمزق ونفقد وعينا بأنفسنا، لا نعرف لأيهما ننتمي، ماض متخيل أو متوهم يشدنا إليه أسلافنا بخطابهم الموروث، وحاضر مستعار منقول عن الآخرين نستورد مظهره، ونرفض جوهره. ننشئ دولة مستقلة لا نستطيع أن نحدد هويتها أو طبيعتها، هل هى دولة دينية أو إسلامية، كما يقول شيخ الأزهر ومن يتفقون معه؟ أم هى دولة وطنية مدنية، كما نقول نحن، أو كما نريد أن تكون؟ هل نحن مصريون كما نسمى أنفسنا أحيانا، أم نحن مسلمون فى ناحية، ومسيحيون فى ناحية أخري؟ وبصراحة أكثر مسلمون وذميون؟ والخلط الذى نشير إليه ليس مجرد خلط أو خطأ فى التعبير، لكنه خلط فى التفكير والتعبير، وهو ليس مقصورا على مجال دون مجال، وإنما هو اضطراب وتلفيق متعمد فى كل شيء، فى الدستور، وفى القانون، وفى التعليم، وفى الاقتصاد، فى التمييز بين الرجل والمرأة، وفى التعامل مع الطوائف الدينية المختلفة، ومع العالم الخارجي، مقدمات لا تؤدى للنتائج، وسلوك لا يتفق مع ما يعلن ويقال، فليس فى استطاعتنا والحال كما نرى أن نحتكم لمنطق، أو نرجع لمرجع. ولأن الخطاب الدينى السائد يتناقض مع الواقع الراهن الذى نعيشه، ولأن هذا الخطاب يحشر أنفه فى كل قضية، وفى كل مجال، فالخطوات التى نخطوها فى الطريق إلى حضارة العصر خطوات مرتبكة مترددة متعثرة، لا نتمكن فيها من تحقيق مكاسب نهائية حاسمة، وإنما هى غارات كغارات البدو نقوم بها فى بعض المراحل، أو عندما يشتد الجوع، أو تتهيأ الفرصة، ثم نتقهقر بعدها ونعود إلى حيث كنا قبل أن نخطو أول خطوة. قارنوا بين ما حصلنا عليه قبل نظام يوليو من حريات ديمقراطية فى نشاطنا السياسى والفكرى والاجتماعي، وما صرنا إليه بعد قيام هذا النظام الذى أعادنا إلى عصور الانحطاط المملوكية. وقارنوا بين ما كانت عليه المرأة المصرية حتى سبعينيات القرن الماضى من تحرر اجتماعي، ووعى فكري، وما صارت إليه فى العقود الأربعة التى مضت. وقارنوا بين ما حققناه فى التعليم الذى أصبح على يد محمد على وخلفائه تعليما مدنيا عصريا رفيع المستوي، زودنا بما نحتاج إليه فى شتى مجالات حياتنا، وما صار إليه فى هذه الأيام التى فقدنا فيها وعينا بأنفسنا، فالتعليم الدينى البائس يزاحم التعليم المدنى المتهالك، والمدارس الأجنبية تشمخ بأنفها على المدرسة الوطنية، والأجيال الجديدة لا تعرف لنفسها حاضرا يؤلف بينها، ولا مستقبلا تبنيه وتجتمع فيه، وفى هذه المتاهة تشعر بالاغتراب، ولا تجد ملجأ تفر إليه إلا الدين، وخطابه الموروث الذى لابد أن تترجمه ترجمة سياسية تستعين بها فى الحصول على مكان فى الواقع، فيتحول الخطاب فى هذه الترجمة إلى عنف وإرهاب نصلى ناره، ونتذكر معه حاجتنا لتجديد الخطاب الديني. وقد يظن البعض وقد أصبح تجديد الخطاب الدينى مطلبا ملحا، وقضية يومية مطروحة، قد يظن بعضنا أن حاجتنا لتجديد الخطاب الدينى اكتشاف جديد لم نعرفه من قبل، غير أن المهتمين بتاريخنا الحديث، وما طرح فيه من أسئلة، وما رفع من شعارات، يعرفون أن تجديد الخطاب الدينى كان مسألة مطروحة منذ أوائل القرن التاسع عشر، وباستطاعة من يريد أن يعود لمؤلفات الإمام محمد عبده وتلاميذه، وأن يرجع خاصة لكتاب عبدالمتعال الصعيدى «تاريخ الإصلاح فى الأزهر»، ليرى أن تجديد الخطاب الدينى قضية شغلت الجميع، ابتداء من حسن العطار، الذى ولد فى القرن الثامن عشر، وشهد دخول الفرنسيين مصر، وقيام دولة محمد علي، وتولى مشيخة الأزهر، إلى فرج فودة ونصر حامد أبوزيد. اقرأوا معى هذه السطور مما جاء فى إحدى رسائل الشيخ حسن العطار: «إن قصارى جهدنا النقل عنهم أى عن القدماء دون أن نخترع شيئا من عندنا، وقد اقتصرنا على النظر فى كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم نكررها طول العمر، ولا تطمح نفوسنا إلى النظر فى غيرها، حتى كأن العلم فيها، فإذا ورد علينا سؤال من علم الكلام لا نجده فيها، تخلصنا بأن هذا كلام الفلاسفة، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها فى «جمع الجوامع» فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا.. صار العذر أقبح من الذنب، وحالنا الآن كما قال ابن الجوزى فى مجلس وعظه ببغداد: ما فى الديار أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خل نجاريه!» هل تجدون ما قاله حسن العطار وهو بالمناسبة أستاذ رفاعة الطهطاوى هل تجدون ما قاله منذ مائتى عام فى نقد الخطاب الدينى مختلفا عما نقوله فى نقده الآن؟ وإذا تخيلنا أن حسن العطار عاد ليعيش معنا فى أيامنا هذه، فهل سيغير ما قاله أم سيكرره؟ من المؤكد أنه سيغيره، لكن ليصبح نقده أعنف، ورفضه للخطاب الدينى الراهن أشد، وذلك لأن المفارقة أصبحت مهولة مخيفة بين الواقع الذى تغير عما كان عليه فى أيام العطار، والخطاب الذى ظل كما هو، فضلا عن أنه هذا الخطاب الدينى لم يبق كما كان مجرد خطاب متحجر، بل أصبح بالإضافة إلى تحجره، أو بسبب تحجره، خطابا متعصبا متطرفا، ثم لم يكتف بذلك، وإنما ذهب فى دفاعه عن نفسه ورفضه للتجدد والانفتاح على العصر إلى أبعد حد، فصار إرهابا سافرا، وعنفا وحشيا. وهناك من يظن أن الإرهابيين هم وحدهم الذين يخرجون علينا وعلى الدولة بالسلاح، يلغمون الطرق، ويفخخون السيارات، ويهاجمون رجال الشرطة والجيش، وهذا ظن سييء يخلط فيه أصحابه بين الإرهاب والأدوات والوسائل المستخدمة فى الإرهاب. مؤكد أن الذى يحمل السلاح ضد الدولة والمجتمع إرهابي، لكن الذى يعتدى على قوانين الدولة، ويمتهن رموزها، ويسقط شعاراتها إرهابى كذلك. الذين ينكرون على البهائيين حقوقهم التى يكفلها لهم الدستور إرهابيون، والذين يمنعون المسيحيين من بناء كنائسهم أو ترميمها إرهابيون، والذين يخرجونهم من ديارهم ويخيرونهم بين الهجرة والموت إرهابيون يؤدون فى الإرهاب دورا معلوما هو إثارة الفوضي، وإسقاط هيبة الدولة، والخروج على القانون، وتحريض الناس، وإعدادهم للالتحاق بمعسكر العنف والإرهاب. لماذا فشلنا حتى الآن فى تجديد الخطاب الديني؟ لأن تجديد الخطاب الدينى أصبح تهمة يسمونها «ازدراء الأديان»! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي