لدى الكثير من الدلائل على أن انتشار الأمية قد يكون أقل خطرا من انتشار انصاف المتعلمين. قارن بين حالة المناخ الثقافى فى مصر (بل وفى العالم العربى كله) فى النصف الأول من القرن العشرين، وبينه الآن. نجد أن الأعمال الثقافية كانت أكثر رقيا منذ مائة عام، وكذلك مستهلكو الثقافة، من قرار الكتب والصحف والمجلات، إلى مرتادى المسرح. كانت الأمية حينئذ أكثر انتشارا بكثير منها الآن، ولكن أنصاف المتعلمين كانوا أقل وأضعف أثرا. خلال المائة عام الماضية شهدت مصر والبلاد العربية تطورات سياسية واقتصادية كبيرة، من بينها ثورات ونظم جديدة للحكم ترفع شعارات التوسع فى التعليم والقضاء على الأمية. كان المطلب نبيلا بلا شك، ولكنه انتهى للأسف بارتفاع كبير فى نسبة أنصاف المتعلمين. كانت السرعة فى نشر التعليم أحد الأسباب، إذ لم يكن من الممكن ان نحصل على العدد الكافى من المدرسين القادرين على القيام بالمهمة بالكفاءة اللازمة. ولكن الحراك الاجتماعى السريع، الذى جلبته هذه الثورات والانقلابات، أدى إلى تولية كثيرين من أنصاف المتعلمين مناصب مهمة لم يكن يحتلون مثلها من قبل. فإذا بهؤلاء يمنحون فرصة للتحكم فى المتعلمين والأميين، وأنصاف المتعلمين على السواء، فانتشر نفوذهم وزاد خطرهم. نحن مازلنا نشكو من أن الأمية مازالت موجودة، إذ لم ننجح فى محو أمية نحو ربع السكان، ولكننا نادرا ما نلتفت إلى أن حولنا كثيرين من الأميين إلى أنصاف متعلمين ليسوا أقل خطرا. من أين بالضبط يأتى خطر أنصاف المتعلمين؟ إنه يأتى أولا من جهل أنصاف المتعلمين بحقيقة ما حصلوه من تعليم وما لم يحصلوه، ومن ثم فهم أقل تواضعا من الأميين الذين يعرفون قدر أنفسهم وحقيقة موقعهم فى المجتمع بل إن أنصاف المتعلمين كثيرا ما يكون لديهم من الغرور والتعالى ما يزيد عما لدى الأميين أو المتعلمين على السواء، إذ يحاولون اقناع الناس (وإقناع انفسهم أيضا) بما لا يتوافر لهم فى الحقيقة، أو اثبات جدارتهم بمناصب ليسوا جديرين بها، أو الحصول على ثروة لا يستحقونها. آثار التعليم الناقص كثيرة، من بينها ما لاحظته من كثرة استخدام وصف كاتب بأنه كاتب كبير، أو حتى بأنه مفكر كبير، مع أنه قد يكون فقط كثير الكتابة. وهى ظاهرة نادرا ما توجد فى البلاد الأكثر منا حظا فى التعليم والديمقراطية. فتكرار ظهور أسماء بعض الأشخاص، فى الصحف وسائر وسائل الاعلام، قد يخدع كثيرين فى مجتمع ينتشر فيه أنصاف المتعلمين، فيظنون أن هذا الظهور المستمر دليل على اتساع الثقافة أو قدرة نادرة على التحليل، مع أنه قد يكون دليلا فقط على التمتع بالنشاط الجسمانى وحب الشهرة. لاحظت أيضا أن بعض هؤلاء الكتّاب المشهورين يعرفون بالضبط مدى تواضع قدراتهم ودرجة الخداع التى تنطوى عليها هذه الشهرة، إذ سرعان ما يظهرون التواضع فى بعض المجالس التى لا تحمل لهم كل هذا التقدير، فيقللون من غلوائهم ريثما تنفرج الضائقة ويعودون إلى التعامل مع «انصاف المتعلمين» ممن وقعوا ضحية لهذا الخداع. الأخطر من هذا ما تسمح به هذه الظاهرة من نجاح للحكام المستبدين فى عالمنا قليل الحظ من الديمقراطية، فالشعارات السياسية المزيفة، وما يقدم من وعود لا ينوى تنفيذها، أكثر فعالية فى العادة فى مجتمع يكثر فيه أنصاف المتعلمين. ولكن دعنا لا نبالغ فى هذا الأمر. فالحقيقة أنه حتى فى الدول قليلة الحظ من التعليم كثيرا ما يكون إدراك الناس لما فى حياتهم السياسية من تزييف، وفهمهم لمقاصد حكامهم، أقرب إلى الحقيقة مما نتصور، ولكن أنصاف المتعلمين كثيرا ما يؤدون لهؤلاء الحكام وظيفة لا يستطيع تأديتها لا المتعلمون ولا الأميون. فأنصاف المتعلمين عادة أكثر ميلا للتزلف، وأكثر تسرعا فى محاولة الصعود على السلم الاجتماعي، ربما لقلة ثقتهم باستحقاقهم لهذا الصعود (بالمقارنة بالأميين). هكذا تزيد فرص أنصاف المتعلمين فى الصعود والترقى فى بلاد العالم الثالث المليئة بالحكام المستبدين. من بين الآثار المؤسفة أيضا لانتشار أنصاف المتعلمين، أثرها على اللغة القومية، لقد ظلت اللغة العربية الفصحى مثلا قرونا كثيرة تتمتع بحصانة وحماية طالما استمر المجتمع منقسما إلى شريحة ضئيلة للغاية من المتعلمين تعليما راقيا، وبحر واسع من الأميين. نعم، كان المنتمون إلى هذا البحر الواسع بعيدين عن استخدام لغة قريبة من الفصحي، ولكنهم أيضا لم يكونوا يهددون هذه اللغة الفصحى مثلما اصبح يهددها أنصاف المتعلمين الذين يدأبون على استخدام كلمات غريبة (وكثيرا ما تكون قبيحة)، ويتجرأون أكثر فأكثر (بحكم ما يتولونه من مهام ومناصب فى وسائل الاعلام) على إقحام هذه الكلمات على اللغة المستخدمة فى الاعلام بل وحتى فى المقررات الدراسية. هكذا أدى التقدم الاقتصادي، أو ارتفاع مستوى المعيشة لشرائح واسعة من المجتمع، إلى الاضرار باللغة القومية، كلما كان هذا التقدم بعيدا عن ميدانى الثقافة والتعليم. فقد أدى هذا التقدم الاقتصادي، للأسف، إلى ارتفاع نسبة أنصاف المتعلمين، فراحوا يعيثون فسادا، ولو بغير قصد، فى استخدامهم للغة القومية، وكأن النهضة الاقتصادية لابد أن تتعارض مع النهضة الثقافية، أو كان هذان النوعان من النهضة ينتميان إلى عالمين منفصلين، لا يمكن الجمع بينهما، ولكن هذه هى للأسف طبيعة العالم الذى نعيش فيه: عالم متعجل قليل الصبر، وهو فضلا عن ذلك يعلى أكثر من اللازم من شأن الأهداف الاقتصادية، ولو على حساب كل شىء آخر. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;