لماذا تراجعت القوة الناعمة والسلطة الثقافية الفكرية والإبداعية فى الآداب والفنون الجميلة والموسيقى والغناء والفلسفة والعلوم الاجتماعية؟ كيف يمكن تجديدها واستعادة عافيتها؟ تشكلت القوة الناعمة المصرية من فوائض تاريخية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحركة الإصلاح وبناء الدولة الحديثة، وكنتاج لعديد من التجارب والإنجازات يمكن رصد أهم معالمها فيما يلي: 1- صدمة المواجهة مع الغرب، وطرح سؤال محورى لايزال مستمرًا، وهو كيف تقدموا ولماذا تخلفنا؟ منذ مدافع نابليون، والتنظيم العسكرى الحديث، وتخطيط ميادين القتال والاختلاف النوعى فى تقنيات السلاح المستخدم، من أسلحة تقليدية وأداء مواكب لها، وأسلحة متطورة ومعها أساليب جديدة فى القتال، وكانت النتائج حاسمة، وهى هزيمة عقلية ونمط القتال التقليدى وأسلحته وتكتيكاته، فى المواجهات. 2- بدايات ظهور بشائر النزوع النسبى للفكرة القومية المصرية المتمايزة عن الإطار الدينى الجامع لمصر والمصريين مع دولة الخلافة، وهو ما كانت بداياته الجنينية مع على بك الكبير، وهى أفكار تطورت تدريجيًا مع دولة محمد على وإسماعيل باشا، وتأطرت فى إطار الثورة العرابية والحزب الوطنى القديم، ومصر للمصريين كشعار مركزى للحركة الوطنية، وفى التعليم، حتى تأسيس النظام شبه الليبرالي. 3- حركة الترجمة للكتب والروايات والقصص والأفكار الحداثية عن اللغات الأجنبية الإنجليزية والفرنسية، فى إطار تشكل مدن كوزموبوليتانية حديثة، وبنية اجتماعية متعددة الأديان والمذاهب، والثقافات فى إطار تشكلات وتحولات الثقافة الواحدة، وخصوصياتها المتفاعلة مع الثقافات الأوروبية الأخرى، وهو ما أدى إلى حركة وحيوية فى القيم، وفى أنماط السلوك المدني، والإنتاج الثقافى والرمزي. 4- تحول مصر إلى مركز حاضن للمثقفين والمفكرين العرب – لاسيما المسيحيين الشوام من لبنان وسورية أساسًا – ومن المشرق العربي، وبعض الفنانين التوانسة، لاسيما منذ ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ووجدوا فى مصر ملاذًا آمنًا، وبيئة مواتية للإنتاج الفكرى والموسيقى والغنائى والمسرحى والسينمائى فى المرحلة شبه الليبرالية، وبعدها فى ظل ثورة يوليو 1952 وقيادتها لحركة التحرر الوطنى العربية والعالم ثالثية. كل هذه الأسباب والتحولات أدت إلى تشكيل قوة ناعمة ثقافية، جعلت من مصر والقاهرة مركزًا للثقافات العربية على اختلافها إبداعًا وتأليفًا وتلحينًا وتمثيلاً... إلخ، ونشرًا وإنتاجًا؛ وقبلة للمفكرين والمبدعين فى مختلف المجالات، وشكلت مرجعية فى كل المجالات الثقافية، وتمنح الاعتراف والتكريس للمبدعين العرب. لماذا تراجعت قوة مصر الناعمة؟ يمكن تحديد بعض أسباب هذا التراجع المستمر فيما يلي: 1- ثورة عوائد النفط، وهجرة عديد من المثقفين والصحفيين للعمل فى السعودية ومنطقة الخليج، وتراجع مستويات بعضهم فى التكوين والمتابعة، ومنهم بعض أساتذة الجامعات، واكتسابهم سلوكيات استهلاكية وقيما مغايرة للنظام القيمى المصري. 2- حركة البعثات الجامعية من دول النفط إلى أمريكا وأوروبا، وتشكل نخب جديدة هناك، فى ظل تراجع حركة البعثات المصرية على نحو أثر سلبياً على مكانة الجامعات المصرية العريقة، ولم تعد قبلة لطلاب العلم العرب. 3- بروز ثقافة النفط، واستعراضاتها المتعددة، من خلال المجلات والجرائد والقنوات الفضائية، ومهرجانات السينما والمسرح، والجوائز الأدبية الرسمية والأهلية، ومعارض وأسواق الفن التشكيلي، وهى هياكل متعددة، والإنفاق المالى على هذه الأنشطة كثيف، على نحو باتت جاذبة للمبدعين والكتاب والمثقفين من جميع البلدان العربية، وهو ما أثر على مكانة عديد من المراكز الثقافية العربية التقليدية كالقاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، لاسيما فى ظل انهيارات للدولة والحروب الأهلية والمذهبية، والهجرة القسرية للمثقفين و"المواطنين" إلى دول الجوار العربية وتركيا وإيران، أو إلى أوروبا وأمريكا واستراليا، على نحو أدى إلى إفقار هذه المجتمعات من بعض حيويتها الثقافية التاريخية. السؤال ما العمل؟ لابد من إرادة ووعى سياسى لدى النخبة الحاكمة بأهمية دور الثقافة فى الإصلاح أو التجديد السياسى والديني، ومن ثم أهمية المؤسسات الرسمية الثقافية فى تنشيط الإبداع والإنتاج الثقافي، فى إطار إصلاح سياسى موازٍ، يتيح مساحات من حريات الرأى والتعبير والإبداع بجميع أشكاله. من ناحية ثانية إصلاح تشريعى يحمى حرية المبدعين، من الدعاوى القضائية ذات الدوافع والمسوغات الدينية المحضة والتأويلية الوضعية، التى تربكُ المبدعين والمثقفين وتكبح خيالهم الإبداعي. من ناحية ثالثة: ضرورة التعاون بين الأجهزة الثقافية الرسمية والجمعيات الأهلية ودعمها وإتاحة الحرية أمامها للمبادرات والفعاليات المستقلة. من ناحية رابعة: فتح أبواب النشر الإبداعى والتأليفى للمثقفين والمبدعين العرب فى مصر، ودعم الدولة لهذه الأنشطة، ورفع قيمة الجوائز العربية وإنشاء جوائز فى عديد المجالات مع إعادة النظر فى الأنشطة الحالية، فى ظل مبدأ أن لا إصلاح أو تجديد ثقافيا أو دينيا دون تجديد سياسى فى الرؤى والسياسات والآليات، والكوادر. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح