واحة سيوة بلاد النخيل والزيتون والآبار واخضرار قلب الصحراء. واحة آمون إله المصريين القدماء، ومقصد الإسكندر، وحلم عشاق الحياة، وسياحة الأحباب فوق جبل الدكرور، وبلاد الأولياء والطرق الصوفية، الذين بدأت حكايتهم مع الظرف الجغرافي الذى وضع واحتهم على طريق زوار بيت الله من بلاد المغرب، فتوقف بعضهم فيها ولم يبرحوها؛ ليضيفوا على عمقها الحضارى بعداً جديداً؛ مشبع بثقافة الأمازيغ، وثقافة لها خصائصها. وأهلها يبدعون غناءً شعبيا خاصا، يتحايلون به على غدر الزمان وجهد العمل الشاق، ورغبات النفس وتطلعات الحياة، يحلمون بالحب، ويقتربون من الله. إنه الغناء الشعبى الذى يعبر به البسطاء والطيبون فوق جسور الإبداع، إلى بر الرضا والقناعة وتحمل الأعباء. ............................................................ كان «أبو الجاسم» رحمه الله سيد المغنى، الذي ينصت إليه الجميع، لأنه يعبر عما يشغلهم، وعن عقل ووجدان الواحة، يأمل كما يأملون، ويرتاب ويتحسب ويفرح ويمرح ويحزن ويعمل. ويحكم مملكة الفن، فهو صاحب اللحن والكلام، ويمسك بتلابيب المستمعين، ويشركهم معه بالترديد والالتفاف حول الغناء، ليتذوقوا ما طاب لهم من اللحن والكلام. ويرقصون على أنغامه. ويستطيع أي مدقق فى الغناء الشعبى بواحة سيوة، اكتشاف أنه تعبير أمين عن حاجات الناس الملحة. وتجسيد لفرحتهم، ويحقق لهم المرح، والحزن. وينقسم الغناء الشعبى هناك إلى أربعة «الملالاه والأغنية والموال والقول».. كما صنفه «أبو القاسم» نفسه رحمه الله. 1- الملالاه: ويعود اسمه إلى كلمة الاستهلالة «يا لالالى يا لا لا لا لا لى.. يا ليل يا ليل يا لا لا لا لا»، التي غالبا ما يبدأ بها المغنى الأفراح مصحوبة بدقات الطبول، دون دعوة ضيوف الحفل إلى الرقص، والبداية بتلك الملالاه تعين المغنى على اختبار صوته وانخراطه التدريجي فى الغناء بالأرتام الموسيقية السريعة المتلاحقة، التى تحتاج لأداء صوتي خاص، تمهيدا لاشعال الحفل الراقص. وهذا النوع من الغناء يستدعى آلام الفراق والفقد لعزيز غاب عن المشاركة فى الأفراح، وكأن لسان حال المغنى والمشاركين يستحضر الأحباب، خاصة من ذهب إلى البعيد وغاب.. يا لا لا لى يا لا لى يا لا لا لا لا لى... يا ليل يا ليل يا لا لا لا لا وأمى خادم أبويا من الفزان يا ليل علىَّ وأمى من الفزان اللى جرالى ما جرا لبنى آدم يا عين يا ليل اللى جرالى ما جرا يا لا لا لى يا للا يا لا لى يا عين يا ليل يا للى لا يا لا لا ما تهون عليا والله ما تهون عليا يا عينى يا ليل لا لا لاه زيد الحطب للنار الكوايه يا نار عليا زيد الحطب للنار البكا ما جابه عيطت واجد (كثير) والبكا ما جابه الله إرحمه وخفف عليه ترابه يا لا لى يا عين يا ليل يا لا لا لا وعلى نفس الدرب تسير الملالاه التالية حيث تبدأ بوصف الفقيد بصفات الحسن والجمال والدلال ثم تنتهى برثائه على هذا النحو. آه يا لا لى لا لا لى يا لا لا والعيون عيونى يا عيونى وأنا الدمع دمعى ونبكى على الغُيَّاب والله كان يجونى ونبكى على الغُيَّاب يا لا لا لا لى يا لا لى يا لا لا لا لا آه لو عمرك طول، لو طول ولو كنت عشت شوى آه لو عمرك طول لو طول تسمع خبر جديد ولا هتنسى الأول تسمع خبر جديد يا للا لا لى يا عين يا ليل يا لا لا لا 2- الأغنية: وبعد التمهيد الحزين ينخرط المغنى والمشاركون بغناء راقص يتفق مع المناسبة على أنغام الطبول والمجرونة، غزلي عفيف للمحبوب الذى يتمنى القرب منه ويخاف عليه ويصف جمال هيئته وحلاوة طلته: من قبل الميعاد بساعة تستنى ع الباب تحسبنى مش واخد بالى وآنا قلبى داب من قبل الميعاد بساعة تبقى محتارة خايفة من لوم العُزاب وخايفة من الجارة وتعمل ألف حساب من قبل الميعاد بساعة تستنى المحبوب تستنى المحبوب يجيها تلبس أحلى توب تفهم ف الذوق وف المعنى تقرا فى الكُتَّاب من قبل الميعاد بساعة تستنى ع الباب وأحدثت القبائل البدوية العربية تأثيرا على الشكل الفنى للأداء، ولغتها العربية التى ارتضاها السيويون بجانب الأمازيغية التى تمثل جذرهم الحضارى، لذا يراوح الغناء بين الأمازيغية إيقاعاً ولغةً والعربية. والأغنية التالية بالأمازيغية ويعبر فيها المحبوب عن محبته، وأثر غياب الحبيبة عنه، كما يصف جمالها الذى لم ير مثله من قبل: كان شم خصتى (أنا أحبك كما تحبينى نبش اخصاخ كالخصتى وما فى قلبك فى قلبى مثله) غير يومين (غاب يومين تمل جاغاب غير يومين فقط يومين سيل أربع السفا الاثنين من الأربع حتى الاثنين) بافته جاملل. البافته جاملل (بيضاء جميلة كالبافتة البافته كانيفا جانيشابطه أتمنى أن أضمها إلى صدرى) لانظرن جينوايا (لم أشاهد هذا الجمال سينهار ناخلاق منذ بدء الخليقة لأنظرن جينوايا لم أشاهد هذا الجمال لاجيت خسيب ولا جيلفايا لا فى الشرق ولا فى الغرب سينهار ناخلاق منذ بدء الخليقة) يامه كانظريت (أنظرى يا أمى صباح سر اليفيخ ليتك رأيت ما رأيت فى حلمى) بعاد حمر عاس تتا (عندما نظرت لها ابتسمت تسن ورنو تيخصا وفهمت ماذا يريد القلب) تحط الصنت تنوب تفحفيح (تضع روائح العطر فتفوح منها الشعر نوبه ايشرتيح شعرها ناعم جميل ولاكتهمرت ولا المريخ لم أر مثله على الأرض ولا فى المريخ) ويردد شباب سيوة أغنية بدوية تحمل كلمات عامية ليبية، ويرددونها بمرح يليق بفكرتها الفكهة التى تتعلق برجل يرغب بمكايدو زوجته التى لا تطاق، والأغنية تتحدث عن رغبته فى الزواج بغيرها، ليس بامرأة واحدة بل ثلاث: نبى (نرغب) نجيب عليها دُرَّة العيشة معاها تمت (أصبحت) مُرَّه نبى نجدد شبابى نتجوز تانى مرة، تالت مرة، رابع مرة نبى نتجدد ونعيش ونرد أيام شبابى ونتجوز تانى مرة، تالت مرة، رابع مرة بدى نريح روحى شوى ونتجوز تانى مرة، تالت مرة، رابع مرة والطريف أن من يردد هذه الأغنية فى الفكاهية شباب لم يسبق لهم الزواج، وفكرتها تستهجن الحياة الزوجية غير المستقرة، والتوتر بين الزوجين، وهي تدعو لحلول لا تؤدي إلى الاستقرار ولا تثبت العلاقة الزوجية، فهي تدعو لتكرار الخطأ نفسه أربع مرات، لأن صاحبه يضطر لتكراره بلا عقل ولا تدبر، فيستغل الرخصة ويصور لنفسه أنها الحل، وهي رسالة أو وظيفة كامنة فى عمق الأغنية.. 3- الموال: يستعان بهذا الصنف من الغناء على الأعمال الشاقة فى الحقول، خاصة أثناء طلوع النخل فيقول: الصبح يا مفاتيح الأرزاق واللى قاسم لك تناله والناس يطلبوا فى المال وأنا راس مالى غالى صليت الفجر ودعيت ويا كريم هدى بالنا والناس يطلبوا ف المال وأنا راس مالى غالى وموال آخر يسير على هذا النهج والذى يرسل فيه سلاما كثيرا لمحبوبته الغالية: دزَّيت سلامى مع الريح (أرسلت سلامى مع الريح كاد حمل الزوامل ومحمل على ظهور النوق) سلم على بنت الأزواد (سلام لابنة الطيبين ياللى تسوى النجع كامل التى هى عندى كالنجع بأكمله) ويتخذ الموال فى سيوة صيغاً متعددة، منها موال العتاب الذى يسير على نهج موال اللطش في الريف المصري، حيث يتبارى إثنان من المبدعين الارتجاليين على استحضار المعانى والرد المفحم، فيقول أحدهم: الناس يحسبونى صغير وأنا عارف طريق المعانى نكويهم ستين كاوية وأنا قاعد فى مكانى ويرد الآخر: وليش يا صحاب الصوب (لماذا هذا الكيد والخطأ تدير خطأ وليش توحله وأنتم أصحاب الصواب) 4- القول هو تعليق على حدث متكرر، أو خبرة متراكمة، كثير ما يؤدى بغير صيغة لحنية. وكأنه بديل للمثل الشعبى، غير أنه قد يلجأ المغنى إليه فى بعض الأحيان، ويحمله لحنا خاصا، ويدمجه فى أدائه الغنائى عند الفرح أو المرح. الشاهى والسكر والنعناع يبطّل للراس الأوجاع الشاهى والسكر والزيت بصيرة ما خلى ف البيت (لم يترك نقودا فى البيت).