يبدو أن وضعيات الثقافات العربية فى مراحل الاضطراب السياسى، والمشكلات الاقتصادية الهيكلية، وانتشار العنف الأصولى، والإرهاب، تحتاج إلى درس تحليلى معمق لكل حالة على حده فى عديد القطاعات والمناشط الثقافية، حتى يمكن أن تسهم الثقافة والإبداع فى إنتاج حالة من الحيوية الفكرية والإبداعية فى تكوين «المواطنين» داخل كل بلد، تساعده على التعامل النقدى مع خطابات العنف والإرهاب والغلو الدينى. من ناحية أخرى أن ينهض الإبداع الثقافى فى مختلف أشكاله وتعبيراته وسروده، بدوره فى إضفاء الجمال الداخلى على تكوين الإنسان العربى، من خلال الموسيقى، والغناء، والسينما والمسرح، ومختلف الفنون التى تنمى الحس المرهف والذائقة الجمالية المجافية للقبح. من هنا لابد من دراسة تحليلية للتظاهرات الثقافية المنتشرة كالفطر والتى تتمدد، وتقوم بها جمعيات أهلية، أو الحكومات العربية، من مثيل مهرجانات السينما والمسرح، والموسيقى والغناء، ومعارض الفنون التشكيلية، وأشكال الاستعراض الأخرى المتمثلة فى اختيار بعض المدن العربية سنويا لتكون عاصمة للثقافة العربية. الأشكال التنظيمية السابقة وغيرها تحتاج إلى معرفة ما الذى حققته من إنجازات وانعكاسات على الحالة الثقافية الوطنية والعربية، وما هى التعقيدات التى واجهت منظمى هذه التظاهرات الثقافية، ودرس نفقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية على هذه المدن العربية، وعلى المواطنين فيها.. إلخ. ما دفعنى إلى ضرورة درس التجارب الناجحة ما شهدته فى العام الماضى فى مدينة صفاقس التونسية الشقيقة التى استطاعت أن تجعل منها مدينة مشرقة بالإبداع والأنشطة الثقافية. فى عديد المجالات: السينما، والمسرح، والفنون التشكيلية، وفن الحكى، والموسيقى التقليدية وغيرها، والفرق الاستعراضية والشعبية، والغناء، والمحاضرات، والشعر وإصدار الكتب. كانت أبرز دروس هذا النجاح الفعلى ما يلى: 1- توظيف فائض الحيوية والاجتماعية فى ثقافة الصفاقسيين التى ترتكز تاريخياً على المبادرات «الفردية»، وعدم الاعتماد على الدولة، وبعض المفكرين والمبدعين والفنانين الكبار من أبناء ولاية صفاقس. 2- دراسة بعض المثقفين فى المدينة للحالات السابقة فى المدن العربية، ومساحات النجاح والفشل فيها، وذلك لتجاوزها فى أثناء تقديم ملف ترشيح مدينتهم لتكون عاصمة للثقافة العربية. 3- أن تنتقل التظاهرات الفنية من مركز المدينة إلى الأحياء، وإلى بعض الجزر والشواطئ، وبحيث تكون الأعمال الفنية متاحة لأبناء المناطق الشعبية، أى الوصول إلى الفئات الاجتماعية رقيقة الحال، وليس فقط إلى المقيمين فى المدينة من الفئات الوسطى – الوسطى، والوسطى - العليا، من أهالى صفاقس. هذا الاتجاه الحميد فى التخطيط التنظيمى للفعاليات، وفى الأهداف المتغياه، هو ما سبق أن كتبنا عنه منذ سنوات وهو سياسة الثقافة من أسفل الرسمية والطوعية، على نحو ما ثم فى منتدى دندرة الثقافى الذى أسسته العائلة الدندراوية العريقة وشبابها ومثقفيها. من هنا لابد لمنظمى تظاهرات الأقصر عاصمة الثقافة العربية أن يدرسوا بعناية شديدة تجربة صفاقس المتميزة، والأكثر نجاحاً، والتى اعتمدت على جهود المتطوعين ومبادرات المجتمع الأهلى، ومساندة وزارة الثقافة التونسية، وما بين صفاقس والإسكندرية عديد الصلات الثقافية، بل وفى الهجرات، ومن ثم لابد من إيجاد صلات تنظيمية وتوأمه بين كلا المدينتين العريقتين. أحد أهم الأهداف التى يتعين إقرارها والعمل على تنفيذها فى التخطيط وإدارة الفعاليات الثقافية هو ما يلى: 1- الأنشطة الثقافية للمواطنين الأقصريين، وفى جنوب الوادى، حيثما وجدوا فى القرى الصغيرة والكبيرة، والأحياء، وتمتد إلى محافظة قنا، ولا تقتصر على الأقصر فقط. أى تركيز على مدينة الأقصر والمواقع الأثرية فقط يعنى أن هذه الأعمال لا تعدو أن تكون سياحية الطابع والدلالة، ولا وزن ولا قيمة لها قط، وتكشف عن خيال ثقافى فقير، وكسل فى الإرادة البيروقراطية التى لا تعدو أن تكون نمطية فى أدائها. الفعاليات الثقافية للناس والبسطاء وانتقاء ما يسهم فى إعادة الحيوية والجمال إلى حياتهم اليومية، والتوازن النفسى لهم، فى ظل ضغوط اقتصادية صعبة، وتوترات نفسية واجتماعية قاسية، ومن حق هؤلاء أن تصل التظاهرات الثقافية إلى مواقع إقامتهم ومجتمعاتهم فى القرى والمقاهى والأسواق والشوارع، وملاءمة الاختيارات لأذواق الجمهور مع تعديلات تسهم فى الارتقاء بالذوق والحس الجمعى. على الأجهزة المخططة والمنظمة أن تبتعد عن سياسة الاستعراض التى ترمى إلى محُض الحضور الشكلى للفعاليات، ونقلها عبر القنوات الفضائية، والصحف، دون وجود فعلى للجمهور فى مركز المدينة الأثرى والسياحى. فى هذا الإطار يمكن لوزارة الثقافة أن تتعاون فى الأقصر عاصمة للثقافة العربية مع بعض الجمعيات الأهلية فى دندرة، وفى الأقصروقنا، وبعض محافظات صعيد مصر الجنوبية، للتنسيق والمشاركة فى نقل الأنشطة الثقافية إلى القرى والمدن، وفى توظيف الإمكانات الأهلية فى تنظيم الفعاليات الفنية والثقافية، وفى مشاركتهم فى الاختيارات، وفى تقديم بعض الفرق المحلية والحرف والفنون التقليدية، ومنها تظاهرات للمزمار البلدى، ولعبة التحطيب والموسيقى الصوفية الروحية، وغيرها من إبداعات الشعب المصرى. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح