لم تكشف الأعمال التحضيرية للقمة العربية الدورية الثامنة والعشرين التى ستعقد يوم 29 مارس الجارى فى العاصمة الأردنية عمّان، عن أى نية عربية جادة للتعامل مع الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة التى تستهدف إعادة هندسة خرائط التحالفات والصراعات فى الشرق الأوسط بما يحقق أعلى مكاسب لدولة الكيان الصهيوني، وعلى الأخص ما يتعلق بالمقايضات الأربع التى تشغل الإسرائيليين الآن: مقايضة دور إسرائيلى فى إعمار سوريا مقابل حصولها على هضبة الجولان، ومقايضة تمكين روسيا من الاستحواذ على إدارة مستقبل سوريا مقابل موافقة روسيا على تفكيك تحالفها مع إيران، ومقايضة إعمار غزة وتحويلها إلى «سنغافورة شرق أوسطية» مقابل تخليها عن خيار المقاومة، ومقايضة دور إسرائيلى فى الدفاع عما تسميه ب «الدول السُّنية المعتدلة» ضد الخطر الإيرانى مقابل التخلى عن القضية الفلسطينية. كما أن هذه الأعمال التحضيرية لم تكشف عن أى نية عربية للرد على المواقف الأمريكية الاستفزازية للحقوق والثوابت العربية فى فلسطين، سواء ما يتعلق بدعم الرئيس الأمريكى للموقف الإسرائيلى الرافض لخيار «حل الدولتين» أو ما يتعلق بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ودعم سياسة الاستيطان فى الضفة الغربية. فما صدر عن اجتماعات الدورة العادية ال 147 لمجلس جامعة الدول العربية (7/3/2017) من معلومات جاء تقليدياً تماماً وبعيداً عن كل ما يحدث على أرض الواقع من تفاعلات تتعلق بمستقبل النظام العربى وعلاقته بالنظام الإقليمى وبالتحديد الموقف من الأدوار والتحركات الإسرائيلية والتركية والإيرانية، أو تتعلق بإدارة الأزمات العربية الساخنة خاصة فى سوريا وليبيا واليمن إضافة إلى العراق، ناهيك عن القضية الفلسطينية التى يبدو أنها هى التى ستدفع أثمان تخاذل الأداء والأدوار العربية وازدراء، وليس فقط التخلى عن، «البوصلة الفلسطينية» التى كانت تحكم الموقف العربى إزاء جميع العلاقات مع القوى الدولية والإقليمية. فبداية لم يحضر هذه الدورة المهمة لمجلس الجامعة التى تُقر أجندة القمة غير وزراء مصر والعراق وليبيا والجزائر وتونس والأردن وسلطنة عمانوفلسطين أما باقى الدول الأعضاء فقد شاركت إما بوزير دولة أو اقتصرت مشاركتها على مندوبها الدائم لدى الجامعة العربية، وهذا مؤشر على وجود اختلافات وتباينات فى المواقف حول قضايا محورية خلافية، كان أبرزها بالطبع الأزمة السورية التى شهدت انقساماً حول موضوع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ففى الوقت الذى اعتبر فيه إبراهيم الجعفرى وزير الخارجية العراقى أن هذه العودة «أمر فى غاية الأهمية حالياً» وأن القطيعة العربية لسوريا «يجب أن تنتهي» كان موقف الأغلبية، كما عبر عنه أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية، أن «الوضع العربى الآن غير جاهز لاتخاذ خطوة بعودة سوريا إلى الجامعة». وفى الوقت الذى حظى فيه موضوعا الحرب على الإرهاب والموقف من السياسة الإيرانية العدوانية أولوية فى البحث لم تكشف أعمال تلك الدورة عن سياسة عربية واضحة من التطورات الخطيرة التى تحدث على صعيد القضية الفلسطينية سواء من جانب قادة الكيان الصهيونى أو الإدارة الأمريكية الجديدة، وكم كان ملفتاً ومثيراً دعوة أمين عام الجامعة أحمد أبوالغيط إلى «عدم استباق الوقت» فى التعامل مع مواقف الإدارة الأمريكية الجديدة حول القضية الفلسطينية، مكتفياً بالتأكيد على الموقف العربى المتمسك بحل الدولتين، باعتباره الخيار العربى الذى لا يتغير، إضافة إلى التمسك بمبادرة السلام العربية، وهي، كلها بالمناسبة، لا تساوى شيئاً أمام الإجراءات الإسرائيلية الفعلية على الأرض والمدعومة من الإدارة الأمريكية التى تنسف جذرياً خيار حل الدولتين. كما أن إصدار القمة العربية لبيان ساخن يدين ويشجب سياسة التوسع الاستيطانى أو الانتهاكات العدوانية الإسرائيلية فى القدس والقرارات العنصرية ضد العرب الفلسطينيين داخل الكيان الصهيونى وآخرها قانون «منع الأذان» لن تكون له أية قيمة فعلية ولن يتضمن فعلياً غير إشارات ضوء خضراء لحكومة الكيان الصهيونى كى تتمادى فى عدوانيتها ضد الشعب الفلسطينى مستندة إلى مجموعة من القناعات أبرزها أن الشعب الفلسطينى والقضية الفلسطينية لم يعودا أولوية عربية، وأن الخطر الإيرانى هو الذى يستأثر الآن باهتمامات الدول العربية، وأن هناك مصالح مشتركة تربط بين العديد من «الدول السُّنية» (وفقاً للتعبير الإسرائيلي) فى التعاون مع إسرائيل ضد الخطر الإيراني، وأن هذه الدول باتت حريصة على التعاون الإقليمى مع إسرائيل أكثر من حرصها على إيجاد حل للقضية الفلسطينية، لكن أخطر هذه القناعات الإسرائيلية، بهذا الخصوص، هى أن «التنازل العربى بات يولد الرغبة والرهان لدى الإسرائيليين على المزيد من هذه التنازلات، فالود العربى الزائد نحو إسرائيل بات يشجع رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو على طرح معادلة بديلة للمعادلة التقليدية التى كان قد ارتكز عليها مقترح «التسوية الإقليمية» الذى شغل أطرافاً عربية على مدى عام مضي، هذه المعادلة البديلة هى «السلام مع العرب مقابل التحالف معهم ضد إيران بدلاً من السلام مع العرب مقابل حل القضية الفلسطينية». هذه قناعات إسرائيلية تجد من يدعمها ليس فقط من أركان الإدارة الأمريكية بل ومن أطراف عربية بكل أسف، وهى التى تشجع رئيس الحكومة الإسرائيلية على أن يفرض نفسه كصاحب حق فيما يتعلق بمستقبل سوريا، وزيارته لموسكو ولقائه مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يوم الخميس الماضى (9/3/2017) أكدت هذا المعني، حيث لم يترك نتنياهو مجالاً للاجتهاد لاستشراف أهداف تلك الزيارة عندما أوضح خلال جلسة الحكومة قبيل سفره إلى موسكو أنه «سيعبِّر عن معارضة إسرائيل الشديدة لإمكانية أن يتم ضمن التسوية التى تتبلور، بخصوص سوريا، أو من دونها، محاولة إيران التموضع بشكل دائم فى سوريا، عبر حضور عسكرى برى وبحري، ومحاولة متدرجة أيضاً لفتح جبهة أمامنا فى مقابل الجولان». سياسات وإجراءات تفرض واقعاً جديداً لن يتأثر من قريب أو من بعيد ببيانات عربية تشجب أو تدين، فى حين أن الواقع العربى أكثر مأساوية لأنه يدعم ويساند، وهذا هو المأزق الحقيقى الذى تعيشه القمة العربية التى لا تملك غير أن تشجب وتدين. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;