رجل أفاق من الخديعة على صدمة، سبح زمنا بحمد ماركس وستالين، توهم أنه فى جنة العدل والمساواة، قبل أن يتلظى بجحيم الاستبداد الشمولى والايديولوجيا العقيمة. ذات مساء هرب من بلغاريا إلى فرنسا، بلاد فولتير وديكارت، بحثا عن النور والحرية، لكن الفاجعة لاحقته فى باريس، تبخرت أوهامه عن ليبرالية الغرب وإنسانيته فى ظل الأطماع الاستعمارية اللامنتهية. على وقع الأحلام المتكسرة والمرارات الطافحة، صار الناقد والمفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع تزفيتان تودوروف لسان الضمير الإنسانى، يفضح خيانات المثل والقيم فى غرب العالم وشرقه، خلال سنى عمره (1939-2017)، باحثا عن “البوصلة الضائعة” للحضارة الحقة، يدا بيد مع أمثال إدوارد سعيد، جمعتهم قرابة معرفية، تزاوج في إهابها الفكرى بالأخلاقى، وتماهى العلمى بالسياسى. منذ أيام قليلة رحل تودوروف، بعد أن عاش رحلة عطاء معرفى فذة، بدأها على هدى إشعاع دراسات الشكلانيين الروس، تبدى ذلك بكتاباته فى حقول اللسانيات والنقد والشعرية والانثروبولوجيا، شكل تودوروف مع كريستيفا و بارت وجينيت وباختين وياكوبسون وامبرتو ايكو وفوكو.. علامات مهمة في تاريخ النظرية الأدبية، أجيال عربية نهلت من مؤلفاته: “الأدب والدلالة”، “الشعرية”، “ما البنيوية”، وغيرها. دراية تودوروف الفائقة بفنون النقد والخطاب الأدبى وأسرار اللغة قادته إلى الإيمان بالحوارية وتعدد الأصوات فى بنية الحضارة الإنسانية، وإعطاء الكلمة لمن سلب حقه أو خبا صوته، ارتحل إلى نوع من “الإنسية الجديدة”، متصديا لدعاة “موت الإنسان” من بنيويين وتفكيكيين ومابعد حداثيين.. استصفى أن جوهر الحضارة يكمن في الاعتراف بالكرامة الإنسانية وبالتعدد الثقافي للآخرين، لأن الحضارة تقوم على الانفتاح لا التقوقع، لذا تصادم مع نظرية “صراع الحضارات”. كان يقول عن نفسه: “أنا أساسا إنسان ولست فرنسيا سوى بالمصادفة”، انحاز بشجاعة وشرف إلى الشعوب المقهورة، كالشعب الفلسطينى، ودحض دعوات التناحر والحروب على أساس دينى أو عرقى، مؤكدا أنه لايمكن العثور على جذور الخلاف بين الشعوب فى “الدين”.. أسباب الخلاف اجتماعية، اقتصادية، سياسية، فلا داعى للبحث فى الكتب المقدسة، لفهم هذا السلوك العدائى أو ذاك، والذى ينبع غالبا من شعور بالخوف أو الاحتقار، داعيا إلى التفرقة بين الدينى والدنيوى أو بين الدين والدولة. يدعو، في كتابه “الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات”، إلى التحلي بالتسامح مع الآخر وإزاء الأقليات التي تعيش داخل الغرب، والتعايش مع الثقافات جميعا، ويهاجم في الوقت نفسه الشعبوية اليمينية المتطرفة في الغرب، التي استقوت وتوطدت، بسبب خطابها المعادي للآخر فى عصر العولمة.. خشى تودوروف من هيمنة “الخوف” على المشاعر العامة والعقل الاستراتيجي الغربى، حتى أنه أصبح عنوانا للمرحلة الراهنة. نبوءة تودوروف صارت واقعا: خوف هوياتي وأيديولوجي من الآخر، وخصوصا الإسلام وأتباعه، يتفرع منه الخوف من الإرهاب، وخوف اقتصادي واستراتيجي من القوى الناهضة، مثل الصين وروسيا. يرى البعض أن كوابيس تودوروف تجسدت بانتخاب رئيس شعبوى فى الولاياتالمتحدة، أكبر قلاع الديمقراطية الغربية، ومازال الوقت مبكرا للتنبؤ بتأثير هذه التحولات الجارفة والوثبات الجيوسياسية على أنماط العلاقات والنظام العالمى، مع بوادر تقييد الحريات أو احتمالية إساءة استخدام القوة والسلطة، بذريعة حماية الأمن القومى الأمريكى، حيث لا يكفي معرفة كيف تبوّأ زعيم ما سدة الحكم، بانتخابات حرّة أم غيرها، لتصبح سلطته شرعيّة، إنّما ينبغي مراقبة ممارسته هذه السلطة؛ انطلاقا من “قاعدة” وضعها مونتيسكيو: “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”، هذا يعيدنا إلى تقرير نشرته صحيفة ألمانية، الشهر الماضى، بعنوان “بداية الديكتاتورية فى أمريكا”، ذكر أن الرئيس الأمريكي ترامب يشن هجمات يومية على الدستور والقانون وحقوق الإنسان، وأن “ترامب” يقترف كل ذلك أمام أعين الجمهور والكاميرات وعلي تويتر..!. عمل تودوروف أستاذا فى كبرى جامعات فرنسا وأمريكا، وسعى حثيثا لمناهضة الذهنية الإمبريالية التوسعية والمركزية الأوروبية، وتجاوز منطق الهويات المغلقة، وتعصب النخب المهيمنة فى القرار الدولى وانعكاساتها الكارثية، مثلما أوضح فى كتبه “الفوضى العالمية” و”ذاكرة الشر” و”روح الأنوار”. حتى إنه دافع فى كتابه الأخير عن مواطن عراقى، مات تحت التعذيب الأمريكى فى سجن “أبوغريب”؛ بما يعيد إلى ذاكرتنا صورة “فولتير” الذى نزل إلى الشارع، ليرفع الظلم عن مواطن بسيط يسمى “كالا”، اتهمه المتعصبون- زورا- بقتل ابنه، حتى لا يعتنق الكاثوليكية. مع فارق كبير أن تودوروف يدافع عن مواطن من غير بنى جلدته أو عقيدته..!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن;