يرى تزفيتان تودوروف فى كتابه "فتح أمريكا - مسألة الآخر"، الصادر فى القاهرة مؤخرا عن دار العالم الثالث، أن عام 1492 هو "عام قمع الآخر"، بغزوه وإبادته واستبعاده، بتصفيته جسديًا وحضاريًا، بنفيه وإزاحته بعيدًا، هو عام القضاء الرسمى على التعددية فى إسبانيا، وعام بداية اختراق الآخر عالميًا، هذا الاختراق الذى أدّى إلى توزيع العالم الثالث إلى ممتلكات أوروبية، وأحيانًا ممتلكات خاصة وفردية لملوكها. وباسم الحضارة وباسم التمدن وباسم التبشير بالرفيع والسامى استمر - وفق صحيفة "العرب اللندنية" - لأكثر من خمسة قرون نهب العالم نهبًا أوروبيًا منسقًا ومخططًا ومتصاعدًا، مجمّلاً بالإعلام المزيف والادعاءات المشوّهة والمغالطات التى روّج لها المنظرون فى كافة الحقوق المعرفية، وكان فى مقدمتهم المستشرقون. يقدم تودوروف بكتابه صفحة من صفحاته المعتمة التى كتبت بالدم فى المكسيك فى القرن السادس عشر الميلادي، متسائلا: كيف تمّ هذا الإنجاز الجهنمي؟ كيف يمكن أن تغلب فئة ما هذا المجتمع الآخر الراسخ بحضارته الثرية والمعقدة كما كان فى المكسيك؟ . الكتاب يهدف إلى كشف المستتر والمسكوت عنه فى فتح أمريكا كشفًا علميًا دقيقًا تفصيليًا، وذلك بتشريح عملية الإزاحة والهيمنة كى لا تتكرر، وكى يتعلم المغلوبون مقاومة تفكيكهم وسحقهم، كما يتكشف للعالم ثمن الغزوة الأمريكية. وعرب اليوم أحوج من غيرهم إلى هذا الدرس، وقد اخترقتهم الهيمنة الأوروبية أولاً، والأمريكية حاليًا بشعارات تجميلية ومغالطات تنميقية. فباسم التحرير يتم التدمير وباسم الإنسانية يتم الحصار والتجويع، والتركيع للنساء والأطفال والشيوخ، وباسم حقوق الإنسان تتم إبادة الشعوب، وباسم الديمقراطية يتم رفع لواء المحتل الصهيونى بعنصريته الفجّة! كل هذا الافتراء وازدواجية المعايير فى التعامل، واختلاق الأسباب لنسف البنية الحيوية للشعوب؛ باتت أمرًا سافرًا إلى درجة أن الجماهير تعوّدت هذا القبح، وتبدو وكأنها قد استكانت له، ولكن الفوران الداخلى سيطفو، وسيرفض الإنسان هذا الهدر لآدميته فى لحظة تاريخية حاسمة؛ إذا ما تعلّم من التاريخ، كما يدعو تزفيتان تودوروف. يكشف تودوروف ، وفق "العرب اللندنية" ، أن حضارة الآخر، حضارة السكان الأصليين، لم تكن أقل غنى من حضارة القادمين إليها، ولكنها كانت حضارة عاكفة على الذات تهتم بالشعائرية الشكلية أكثر من اهتمامها بالتواصل الحي، أضعفتها التناحرات الداخلية والانقسامات فى الذات الجماعية؛ مما أدى إلى وجود ثغرات سمحت بالولوج الإسبانى إلى داخلها. ويؤكد تودوروف أن النصر الإسبانى لم يكن نتيجة حتمية للتفوق التكنولوجي، بل كان لتضافر أسباب عديدة، أحدها التفوق الآلي، وهو يعزو اندحار السكان الأصليين، لا إلى تخلف، بل إلى عدم قدرتهم على الربط بين مكونات فوزهم، فبقيت نقاط قوتهم كون المعركة تدار على أرضهم، وكثرتهم العددية، وعمقهم الحضارى غير متقاطعة وغير معبأة لصالحهم.