العودة للصندوق لا تعني أبدا الخضوع لمشروطية لا تناسبنا..(1) مبادرة الرئيس محمد مرسي بالإتصال بمديرة صندوق النقد الدولي يجعل مباحثات مصر والصندوق تعود علي مسرح الأحداث المهمة, ويدشن لحوار بناء بين مصر ومؤسسات التمويل الدولية وهو ما يدعونا اليوم لنشر مقال قيم للسفير جمال بيومي حول علاقة مصر بالصندوق ننشره علي جزئين بمشيئة الله. يقول السفير جمال بيومي في مقاله:' في سنة1969 كانت مديونية مصر للولايات المتحدة قد بلغت290 مليون دولار. وكان المبلغ يفوق قدراتنا علي السداد. ونصح' ديفيد روكفلر' رئيس بنك' تشيز مانهاتن' الرئيس جمال عبد الناصر بمحاولة سداد25 مليون دولار من تلك المديونية. وطلب' إعادة جدولة' باقي الدين علي آجال أطول. ولم يكن المبلغ متاحا في خزانة مصر في ذلك الوقت. وتعاملت وزارة الخارجية مع هذا الملف. حيث قابلنا لأول مرة مصطلح إعادة الجدولة. وبعثنا ببرقية إلي سفيرنا في الكويت نطلب منه نقل رسالة من الرئيس إلي سمو الأمير يطلب فيها المساعدة بالمبلغ المطلوب. وجاء رد السفير بأن الأمير وجه بتحويل المبلغ علي الفور وقبلها كان مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في أغسطس عام1967 قد قرر دعم قدرات مصر الاقتصادية وتعويضها عن إغلاق قناة السويس نتيجة عدوان.1967 وقد حكي لنا مؤخرا الصديق السفير هشام الناظر, سفير المملكة العربية السعودية( السابق) قصة هذا الدعم وكيف دبرت المملكة إسهامها. ففي الطائرة المتجهة إلي الخرطوم لحضور القمة العربية( قمة اللاءات الثلاث) طلب جلالة الملك فيصل من مرافقيه أن تقدير ما يمكن أن تسهم به بلاده لمساندة مصر. في وقت كان برميل البترول يباع بنحو دولارين. ورأي مستشارو الملك إمكانية الإسهام بالكاد بمبلغ15 إلي20 مليون دولار. ثم فوجئوا بالملك يتعهد في اجتماع القمة بمبلغ45 مليون. وفي الطائرة داعبهم الملك قائلا' لقد أرحت ضميري تجاه مصر.. وتركت لكم معاناة تدبير المبلغ.' وبعدها ودعما لانتصار مصر التاريخي في حرب التحرير في أكتوبر سنة1973 قررت دول الخليج العربية مساندة قدرات مصر الاقتصادية بوسائل شتي منها إيداع مبالغ في البنوك المصرية. ومن بينها إنشاء صندوق دول الخليج للتنمية في مصر. ورصدت له مبلغ2200 مليون دولار. وكان أمام مصر طريق طويل لإصلاح ما أفسدته الحروب من تراجع البنية التحتية والخدمات. ولعلنا نتذكر من كان منا يستطيع إجراء مكالمة تليفونية في القاهرة في السنوات1981/1974, أو يمكنه الحصول علي كيلو من السكر أو الأرز, أو بعض من صابون الغسالات, أو مصباح كهربائي, أو دجاجة, أو دستة بيض.؟؟ وفي تلك الفترة جرت تطورات خارجية وداخلية, عالمية وإقليمية ووطنية أثرت إيجابا وسلبا علي أداء الاقتصاد المصري: فإيجابا جذبت سياسة الانفتاح الاقتصادي تدفقات مالية كبيرة ساعدت علي سد جانب من الثغرة بين قدرتنا علي الادخار والتي لم تتجاوز15% من الناتج القومي, وما يلزمنا استثماره لنصل لمعدلات نمو تقترب من8%. والذي كان يتطلب أن تبلغ نسبة المدخرات نحو25-30% من الناتج القومي. لكن مصر توسعت في الاقتراض الخارجي في وقت أدت سياسة الرئيس الأمريكي ريجان- بالتوسع في الإنفاق العسكري علي أبحاث مبادرة الدفاع الاستراتيجيSDI أو ما سمي بحرب الصواريخStarWar- إلي جعل بلاده- إلي الآن- أكبر مقترض وأكبر دولة مدينة في العالم, ودفعت بأسعار الفائدة لتبلغ22%. ورفعت سعر الدولار لأكثر من الضعف. فتهاوت مراكز الذين اقترضوا بالدولار, ومنهم في مصر. حيث أصبح عليهم سداد340 قرشا عن كل دولار اقترضوه بسعر80 قرشا. وكانت مبادرة السلام المصرية قد تخطت سنوات الحرب وجمعت وراءها قوي وطنية وعالمية كثيرة عملت علي أن تحظي مصر بنتائج إيجابية لهذه الخطوة. لكن مصر وأشقاءها من الدول العربية أخفقوا في التوافق مع هذه الخطوة, فانقسم العالم العربي ومرت به أطول فترة قطيعة في العصر الحديث. تعقبت فيها الدول العربية مصر محاولة طردها من كل محفل دولي وإقليمي. وأثر ذلك علي قدرة مصر علي سداد مديونياتها, وبدأت تتخلف بالفعل عن الوفاء بالتزاماتها المالية. ونصح أصدقاء مصر بالآتي: طلب مساندة البنك وصندوق النقد الدوليين لبرنامج يقوم علي رؤية للإصلاح الاقتصادي. بحكم أن مصر عضو مؤسس في المؤسستين وتمتلك حصة في رأس مال كل منهما. طلب عقد اجتماع لنادي باريس الذي يضم الدول الدائنة لمصر للنظر في أوضاع المديونية وإعادة ترتيب جداول السداد. وقد حاولت الحكومة وقتها تجنب هذا المقترح لحساسية المعني وراء اللجوء لنادي باريس والذي كان مرادفا لإعلان الإفلاس. ووقتها عندما ذهبنا للتشاور مع ألمانيا شجعنا الاقتصادي المرموق' تيت ماير' نائب وزير المالية- وقتها- بقوله: احمدوا الله, فأنتم علي الأقل في موقف يسمح بالتفاوض. فألمانيا عندما ذهبت لباريس- بعد الحرب الثانية- وقعت علي الاتفاق الذي قدمه لها الحلفاء دون أي نقاش أو مفاوضات. ويجب أن يتذكر المصريون وخاصة الشباب أن المجتمع الدولي قدر وزن مصر ووفر لها أفضل اتفاق لتخفيف المديونية بشطب50% منها. فهبطت من52 مليار إلي أقل من26 مليار دولار. بينما أبت الدول العربية أن تتعامل مع مصر الشقيقة كغريب في نادي باريس, وأسقطت مباشرة كامل المديونية عن مصر(100%) فيما بلغ أكثر من11 مليار دولار. ولعلنا نتذكر أن الدول العربية البترولية لديها فوائض مالية كبيرة, لكنها ليست بالغني الذي يتصوره البعض, ويتصور معه أنها تستطيع أن تلبي كل طلبات مصر الكبيرة. فإجمالي الناتج القومي للدول العربية مجتمعة(355 مليون نسمة) في عام2010 بلغ2027 مليار دولار بمتوسط ناتج للفرد العربي5708 دولار في السنة. وهو ناتج يقل عن إجمالي ناتج دولة أوربية واحدة كبريطانيا(61 مليون نسمة) والذي يبلغ2230 مليار دولار. وللفرد43.785 دولار. وهذا حتي لا يرتفع سقف المطالب من الدول العربية ذات الفوائض. وإنما يجب أن يرتفع سقف العرفان. وفي أعقاب حرب تحرير الكويت في الفترة من1990 إلي1993 تكونت مجموعة دول إعلان دمشق( مصر وسوريا ودول الخليج العربي) وقررت دعم قدرات مصر وسوريا. ووفقا لما أعلنه البنك المركزي المصري مؤخرا قدمت هذه الدول منحا لمصر بلغت4.6 مليار دولار. أودعت بالبنك المركزي المصري في حساب باسم المبالغ الواردة من الدول العربية. وبإضافة الفوائد وصلت قيمة الوديعة في نهاية2011 إلي9.2 مليار دولار, تضاف للاحتياطي النقدي المصري الذي هبط إلي أقل من النصف( من37 مليار دولار) لتمويل مدفوعات الواردات ولسداد أقساط الديون وغيرها. وبالتالي لا محل لقول البعض باستخدام المبلغ بدلا من الاقتراض من صندوق النقد الذي تصب مساندته لمصر في صالح تصنيفها الائتماني. فهي بمثابة شهادة صلاحية بحسن أداء الاقتصاد المصري. ومع ذلك حدثت حملة تشويش غير عادلة ضد الحكومة والبنك المركزي في هذا الشأن. وليس من الحكمة أو من المصلحة الوطنية إلقاء التهم جزافا رغم هذا الموقف الواضح. البقية الأسبوع القادم بمشيئة الله. المتتبع لتصريحات ولقاءات الرئيس محمد مرسي منذ لحظة إعلان فوزه بمقعد الرئاسة وحتي حلفه اليمين أمس سيدرك علي الفور أولويات الرئيس وترتيب هذه الأولويات. ففور فوزه أول لقاء تم ترتيبه كان مع أسر الشهداء بما يعني أن حقوق الشهداء إلتزام له الأولوية المطلقة. اللقاء الثاني كان بالإعلام بما يؤكد إدراكه لمكانة الإعلام وتأثيره في وجدان الامة, اللقاء الثالث مع رؤساء الأحزاب للتأكيد علي التوافق مع مختلف التيارات السياسية, اللقاء الرابع كان مع الثوار ممثلا رمزا في معتصمي التحرير حيث أدي اليمين أمامهم مؤكدا أن الشعب هو صاحب السلطة ومصدر الشرعية, ثم حلف اليمين أمام المحكمة الدستورية بما يؤكد حرصه وتأكيده علي إحترام القانون وتوقير القضاء والإلتزام بأحكامه, أتبع ذلك لقاء موسع مع رموز الأمة ومؤسساتها المختلفة بجامعة القاهرة حيث حدد في خطابه الخطوط العريضة للسياسات الداخلية والخارجية التي سيلتزم بها. وإختيار جامعة القاهرة تأكيد أخر علي أهمية التعليم كملف من ملفاته العاجلة. وبالأمس إتصل هاتفيا بمديرة صندوق النقد الدولي لبحث كيفية دعم الصندوق للإقتصاد المصري, وأكد في خطابه بجامعة القاهرة تذليل العقبات أمام الإستثمار, وسرعة تفعيل السياحة. كلمات الرئيس طمأنت الجميع, كما كان شكره للقوات المسلحة وللمجلس العسكري علي دوره الوطني خلال الثورة وحتي تسليم السلطة لها وقع طيب الأثر في نفوس جميع المصريين الذين يعتزون بقواتهم المسلحة ويدركون حجم ما قامت به لحماية هذا البلد وهذا الشعب. أيضا شكره وتقديره للمحكمة الدستورية وأعضائها وللقضاء المصري تأكيد أخر علي إحترام الرئيس لمؤسسات الدولة ومدنيتها. مصر تخطو أول خطوات مرحلة جديدة نسأل الله العلي القدير أن يسدد خطاها, ويحميها, ويبعد عنها كل سوء.