الرأى عندى أن الحضارة تسير فى مسارها من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلانى، ومن ثم يكون الحكم على أي ثقافة مردودا إلى مدى قُربها أو بُعدها من الفكر العقلانى. هذا عن مسار الحضارة أما عن الزمانين فالمقصود بهما القرن العشرون وبدايات القرن الحادى والعشرين، وماذا يمكن أن يقال عن ثقافتهما فى علاقتهما بالمسار الحضارى. وأنا استرشد فى الجواب عن هذا السؤال بما ورد فى كتابين أحدهما لفيلسوف معاصر اسمه إريك هوبزيوم. العنوان الرئيسى لكتابه " عصر التطرف" والعنوان الفرعى ( الموجز للقرن العشرين 1914- 1991) وعلى الغلاف صورة لهتلر وهو حامل الكرة الأرضية. وقيمة الكتاب تكمن فى أن مؤلفه، مهموم بمعرفة الأسباب التى تكمن فى مسار الأحداث وفى ترابطها. والرأى عنده أن العالم الذى تفسخ وانهار فى عام 1991 هو العالم الذى أسسته الثورة الشيوعية فى عام 1917 فى مواجهة نقيضتها وهى الرأسمالية الإمبريالية الأمريكية. ويخلص هوبزبوم من ذلك إلى القول إن هذه المواجهة كانت تنطوى على صراع أيديولوجى انتهى بانهيار الكتلة الشيوعية مع حدوث أزمة فى الكتلة الرأسمالية بزعامة أمريكا. والمفارقة فى هذا المسار تكمن عند هوبزبوم فى أن صعود اليمين الراديكالى إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى استجابة لصعود الثورة الاشتراكية مع قوة الطبقة العاملة بمعنى أنه دون هذه الثورة لما كانت الفاشية بقيادة موسولينى ولا كانت النازية بقيادة هتلر، ويترتب على هذا المعنى أنه من الخطأ القول إن الفاشية أو النازية هى المعبرة عن الرأسمالية الإمبريالية. كل ما هنالك أن كلا من الفاشية والنازية مجرد تأسيس لنظام اقتصادى ليبرالى لتحريك نظام صناعى. ويضيف قائلاً إن هذا النظام الاقتصادى الفاشى أو النازى كان سبباً فى نشأة ما اصطلح على تسميته «العالم الثالث» وهو العالم الذى شاعت فيه الحركات الأصولية فى دول كثيرة منه خاصة فى دول العالم الإسلامى حيث تميزت فيه الأصولية الاسلامية بأنها لم تقف فقط ضد الحداثة وما لازمها من تنوير بل وقفت أيضاً ضد الغرب باعتباره منشئ الحداثة والتنوير. وترتب على ذلك أن جزءا كبيراً من دول العالم الثالث أصيب بتغيرات عنيفة مع صعوبة التنبؤ بمسارها أو حتى وضع آليات لمنع تواصلها. ومن هنا ينتهى هوبزبوم إلى نتيجة مفادها أن القرن العشرين قد انتهى بفوضى كوكبية غامضة الهوية أو نقطة بدايتها عام 1973. ومع ذلك فإن الجدير بالتنويه هاهنا هو إشارة هوبزبوم إلى ذلك العام دون ابداء سبب اختياره له. وأظن أن عام 1979 هو بديل عام 1973، وقد كان هذا البديل هو فكرتى المحورية لكتابى المعنون " زمن الأصولية.. رؤية للقرن العشرين" (2014)، بل كان هذا البديل هو ثمرة انخراطى فى أحداث القرن العشرين إلى الحد الذى ارتأيت فيه أننى بفضل هذا الانخراط قد تكونت فى ذهنى رؤية تخيلت معها وكأننى مشارك فى تكوينها مع آخرين. ففى 30/12/2001، أى بعد ثلاثة أشهر من العمل الارهابى الذى أفضى إلى نسف مركز التجارة العالمى بنيويورك شاركت فى مؤتمر من تنظيم الفيلسوف الأمريكى ألان أولسن رئيس قسم الفلسفة والأديان بجامعة بوسطن. وفى مفتتح الجلسة الأولى من جلسات المؤتمر تساءل أولسنلماذا حدث ما حدث فى 11/9؟ ثم استطرد قائلاً: نريد جواباً بل نريد فهماً وكان جوابى هو موجز ذلك الكتاب ومحوره عام 1979. والسؤال إذن: ماذا حدث فى ذلك العام؟ قرر الرئيس الأمريكى جيمى كارتر تدعيم الأصولية الاسلامية فى أفغانستان لمواجهة الغزو السوفيتى. وفى 26 ديسمبر 1991 مات الاتحاد السوفيتى. وفى أول فبراير 1979 عاد آية الله خومينى إلى ايران بعد أن كان منفياً فى باريس لمدة خمسة عشر عاماً. وفى 12 فبراير من ذلك العام أعلن تأسيس الجمهورية الإسلامية الأصولية فدخلت المخابرات الأمريكية فى علاقة سرية مع مستشارى خمينى، والمفارقة هنا أنه فى 4 نوفمبر 1979 حوصر موظفو السفارة الأمريكية فى طهران من قِبل الأصوليين الإسلاميين واتخذوا كرهائن، ومع ذلك قررت المخابرات الأمريكية ضرورة تأسيس تحالف بين البيت الأبيض والاخوان المسلمين من أجل وضع استراتيجية سياسية لمواجهة الاتحاد السوفيتى. وفى 9 فبراير من نفس ذلك العام أصبح الشاذلى بن جديد رئيس الجزائر فقرر تدعيم الأصولية الإسلامية، وعندئذ استدعى الشيخ محمد الغزالى وعينه أستاذاً بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، وأمر بأن يكون له حديث دينى متواصل فى الاذاعة والتليفزيون. والجدير بالتنويه هاهنا أنه عندما قتل فرج فوده لرفضه تطبيق الشريعة قال الشيخ الغزالى:" مَنْ يعترض علناً على تطبيق شريعة الله فهو كافر ومرتد. وفى مارس من ذلك العام أبرمت المعاهدة المصرية الإسرائيلية فى مناخ أصولى. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول إن عام 1979 هو المدخل إلى عام 2001. وبذلك يتحدد مسار الحضارة بين زمانين. لمزيد من مقالات مراد وهبة;