«القاهرة التراثية» أصبح هو الاسم الفنى لعاصمة مصر، يميزها عن العاصمة الأخرى «الإدارية»، ويضع عليها بصمة ثقافية خاصة تجعلها ذات علامة تميزها. بشكل ما، ولو سارت الأمور حسب ما هو موضوع لها من خطط، فإن فصلا ما سوف يجرى بين العاصمتين كذلك الذى جرى مع فجر الدولة الأمريكية بين العاصمة «واشنطن» التى كانت ومازالت عاصمة إدارية للدولة الفيدرالية، ومدينة «نيويورك» التى كانت العاصمة التجارية والثقافية والصناعية أيضا. ومع توسع الدولة من 13 ولاية عند مولد الجمهورية الأمريكية إلى خمسين ولاية الآن، فإنه سرعان ما باتت فيها عواصم متعددة لكل منها مميزاتها الخاصة، فصارت «شيكاغو» عاصمة الغرب الأوسط علامة تجارية وخدمية فى منطقة حزام القمح والحبوب الأمريكي، بينما أصبحت «لوس أنجلوس» عاصمة للغرب والفنون والثقافة، و«دالاس» ليس فقط عاصمة للجنوب وإنما أيضا للنفط والطاقة فى عمومها. بالطبع فإن هناك فارقا كبيرا بين الولاياتالمتحدة ومصر، فالأولى فيدرالية تجرى ولاياتها بين المحيط الأطلنطى والمحيط الباسفيكي، وعدد سكانها يتجاوز 300 مليون نسمة؛ فإن الثانية تقع بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وسكانها يقتربون من 100 مليون، وبينما مساحتها لا تزيد على عشر مساحة الأولى فإن عدد سكانها يقترب من الثلث فى أمريكا. الفارق الكبير لا يجعلنا نتجاهل طبيعة العمران فى الدولتين، والذى يجعلنا نواجه حقيقة كيف ابتلعت «القاهرة» مصر كلها حتى تسمت باسمها أحيانا، وبات فيها على مدى تاريخ طويل مقعد السلطة المصرية المركزية التى يراها بعضنا نعمة على مصر حافظت عليها من التفكك، ومن يراها نقمة لأنها جعلت من «المركزية» صنوا للسلطوية والتحكم. ولكن أيا كان الموقف من العاصمة التاريخية «القاهرة» فإن الحقيقة التى لا يمكن تجاهلها هى أنه بات لدينا الآن مشروعان للعاصمة الإدارية والعاصمة التراثية، ومن يعلم ربما يكون لدينا لا مركزية فى العواصم فننفخ فى روح الإسكندرية مرة أخري، ويكون للإسماعيلية المكان الذى يليق بها على قناة السويس، والمنيا فى منتصف طريق الصعيد، والغردقة على ساحل البحر الأحمر كما هو حال «العلمين» ومرسى مطروح على ساحل البحر الأبيض. بعث هذه العواصم المختلفة فى أرجاء مصر سوف يعطيها نكهات متنوعة ثقافية إلى جوار سمات اقتصادية صناعية أو خدمية متعددة. هذا على الأقل هو ما يبدو ظاهرا من القرار الجمهورى الذى صدر أخيرا لتنفيذ خطة واسعة لبعث «القاهرة التراثية» من مرقدها التاريخى إلى مستقبلها فى القرن الحادى والعشرين. الخطة يشرف عليها المهندس إبراهيم محلب، ومعه باقة تمثل خبرات مختلفة، ومسئولين، وبنوك، وغيرهم. ولكن مهمة الجماعة هذه سوف لن تقل عن «البعث» الذى ينفخ فى تاريخ عميق ويحضره مباشرة إلى الحياة المعاصرة. ولكن نقرب مسافات الفهم، فإن أقرب تجاربنا إلى الموضوع كانت حينما أقمنا مكتبة الإسكندرية فى نهاية القرن الماضي، والتى كانت بعثا حقيقيا لمكتبة الإسكندرية التاريخية والتى عادت مرة أخرى لكى تشع بالفكر والحضارة على مصر والعالم. وأيا كان الرأى فى الرئيس السابق محمد حسنى مبارك فإنه سوف يذكر له دوره فى بعث المكتبة مرة أخري، ومعه كان الدكتور إسماعيل سراج الدين والمهندس الدكتور ممدوح حمزة. مثال آخر فى تاريخنا الحديث جرى عندما قام الفنان فاروق حسنى وكتائبه فى وزارة الثقافة ببعث شارع المعز لدين الله الفاطمى لكى ينتقل من تحت تراب القرون المتوالية مباشرة إلى القرن الحالي. بنفس الطريقة فإنه سوف يحسب للرئيس عبدالفتاح السيسى أنه وضع الأساس ليس فقط لعاصمة جديدة، وإنما أيضا بعث عواصم قديمة وكثيرة فى مصر. هنا على المحك سوف يكون نجاح تجربة «القاهرة التراثية» التى وإن بدأت كما عرفت بما هو معروف بالقاهرة «الخديوية»، أى منطقة وسط القاهرة، فإنها سوف تمتد إلى القاهرة الفاطمية، وتلك الأيوبية، والثالثة القديمة حول الفسطاط القبطية الإسلامية، والرابعة الفرعونية حول أهرامات الجيزة. التراث المصرى هنا ليس مجرد آثار، أو أشكال للعمارة فقط، وإنما معها تراث فكرى ومكتبات وجامعات مضيئة لمصر وللعالم. الأمر المهم هنا أنه بقدر ما أن الخيال مطلوب حتى نصل إلى أعماق الجمال المدفون فى العاصمة، فإن الواقعية ضرورية حتى لا ينتهى الأمر إلى شارع آخر للمعز لا يمتد بعده إلى مكان آخر، والأخطر أن تسقط عليه السنون فيصير على ما كان عليه من قبح. هناك بالفعل أدوات اقتصادية جرى التفكير فيها لكى يتم استغلال الأبنية الحكومية التى سوف ترحل إلى العاصمة الإدارية لكى تكون مصدرا للتمويل، والتنمية المستدامة للمناطق التى سوف يجرى بعثها. ولكن ربما لن يكون ذلك كافيا، وسوف يكون من الضرورى البحث عن مصادر تمويل إضافية تأتى من القطاع الخاص المصري، والاستثمارات الأجنبية. فالحقيقة هى أن القاهرة التراثية فيها الكثير مما يغرى بالتنمية الثقافية والسياحية التى تبعث عصورا مختلفة لأن «المحروسة» تحتوى بين ثناياها أكثر من خمسة آلاف عام من التاريخ تضمنت عصورا فرعونية ورومانية وهيلينية وعربية إسلامية ومسيحية قبطية، ولما لا حديثة أيضا، يعرف من يسافرون من المصريين أن أجزاء من القاهرة كانت كما لو كانت شقت من قلب أحياء فى باريس وروما. بعث القاهرة التراثية سوف يعطى القاهرة الإدارية (اقترحنا أكثر من مرة من قبل أن يكون لها اسم هو طيبة، عاصمة مصر القديمة التى يجرى بعثها مرة أخري) معنى ومكانة، ولا يجعلها مجرد توسع عمراني، وإنما جزء من خطة إستراتيجية لبعث مصر كلها ووضعها مرة أخرى على خريطة العالم. هل نستطيع ذلك؟ وماذا نفعل حتى يمكن تنفيذ هذه الإستراتيجية فى أثناء حياة هذا الجيل؟ لمزيد من مقالات د. عبد المنعم سعيد