تستمر تصريحات وقرارات الرئيس الأمريكى فى إثارة جدل كبير حول العالم، فقراره بفرض القيود على سفر مواطنى الصومال وليبيا وغيرهما من مناطق توطن المرتزقه المسلمين كان من تلك القرارات والتى يبدو أنها تتعمد تحدى المألوف والمعلن فى السياسة الأمريكية. فلقد سبق قراره الأخير قرارات تبيح (بعد المنع) النشاط فى مشروعات غير صديقة للبيئة، ثم تحديه بل وإهانته العلنية للإعلاميين والصحفيين واتهامهم بترويج أخبار كاذبة، ثم أخيراً إعلانه التشكك فى جدوى حلف الأطلنطى وتوجيهه لقيادات المخابرات المركزية بمواجهة وهزيمة الإسلام الراديكالي. تظل المخاوف والآمال والتوقعات بشأن الرجل مجرد تخمينات إلا إذا عرفنا سبب ظهوره والقوى التى دفعته للمقدمة. فترامب يبدو أنه قائد اختير لدرء هزيمة مركبة واجهت الولاياتالمتحدة. هزيمة واجهت فيها بزوغ عالم متعدد الأقطاب ومعاناة قطاعات أمريكية كبيرة من العولمة اقتصاديا وتشككهم فى قيمها. فروسيا التى كانت قد تم إخراجها من الشرق عادت إليه وسط سلسلة من الحسابات السياسية الأمريكية الخاطئة. فلم تعد روسيا لاعباً سياسياً فحسب بل عادت بقواتها وصواريخها للاذقية وبغواصاتها وبحاملة طائراتها الوحيدة للبحر المتوسط. السياسة الأمريكية التى ابتغت محاصرة إيران انتهت بارتباك وتشوش كبير؛ فالولاياتالمتحدة أفرجت عن الودائع الإيرانية بل وأجبرتها إيران على تسليم مئات الملايين من الدولارات كنقود كاش حملتها الطائرات الأمريكية إلى طهران. والسياسة الأمريكية التى خاضت حرباً ضروسا لنزع صواريخ حزب الله وإيران فشلت كذلك؛ فالصواريخ مازالت تلقى بظلالها على الشرق كله من الخليج إلى تل أبيب فتحولت إيران وحلفاؤها إلى قوة إقليمية لا راد لها. فقدت السياسة الأمريكية كذلك أى غطاء أخلاقى لها؛ فما عرف بنهج تونى بلير الذى حدده فى خطابه فى شيكاجو عام 1999 وهو ما أسماه بواجبات (الأممية الليبرالية) قد تلطخ بالدماء.. سواء بغزو العراق أو بتداعياته. فهذا المشروع الذى اعتبر أن على (العالم الحر) تغيير العالم ليكون على النسق الليبرالى حتى لو كان غزو الدول ضروريا قد سقط. فالفوضى الدولية التى نجمت عن مشروع (الليبرالية المتدخلة) نزعت عنها أى قيمة أخلاقية وهى ما نطلق عليه هزيمة الغرب. تلك الهزيمة ليست مبالغة بلاغية؛ فها هى السيدة رئيسة الوزراء البريطانية تلقى خطاباً فى 26 يناير 2017 فى فيلادلفيا تعلن فيه أن نهج تونى بلير قد مات أو دفن. هذه الهزيمة تتم بينما أمريكا تعانى أزمة اقتصادية ضخمة وكبيرة تتتابع مكوناتها: ففى الأعوام الثلاثين الماضية تبنى الفلاسفة ورجال السياسة تعبير العولمة، وهو يعنى ازدياد التقارب بين الدول وكسر الحواجز الجمركية والتجارية بينها. وتواكب هذا مع ظهور الشبكة العنكبوتية حول العالم تفتح الأبواب للتسويق والإدارة الاليكترونية عن بعد. فهذه العولمة المتصاعدة ضاعفت من ربحية المنتجات والبضائع، فاليد العاملة الرخيصة فى جنوب شرق آسيا أو الهند تتضافر مع تسويق ذات المنتجات فى شمال العالم بأسعار تضمن أرباحاً هائلة. ولم تكن تلك العولمة حدثاً جديداً فى تاريخ الرأسمالية. فالرأسمالية سعت منذ ظهور الثورة الصناعية إلى خلق سوق واحد. وما تاريخ البشرية والحروب فيها إلا صراع دائم بين المجتمعات الصناعية لإسقاط الحواجز الجمركية بين المجتمعات. الولاياتالمتحدة وأوروبا - رغم كل عمليات التجميل للأرقام والمؤشرات - تواجه كساداً وصراعاً اجتماعياً يتصاعد؛ فالعولمة خلقت تقسيماً جديداً للعمل. فتفاقمت اللا مساواة وانتقلت مراكز الصناعة وفرص العمل من قلب أوروبا والولاياتالمتحدة إلى بلاد أخرى غيرها. وتحركت العمالة الرخيصة فى ظلال العولمة من شرق أوربا وآسيا والمكسيك إلى مراكز صناعية تتنافس على فرص العمل وتدفع العمالة المحلية خارج المنافسة. ظهرت أيضاً صناعات جديدة وتكلست قطاعات صناعية أخرى تقف عاجزة عن ملاحقة ما تلقيه التكنولوجيا الجديدة عليهم من تحديات. العلاقات المتباينة فى قلب العولمة خلقت أزمات بين الدول والمشرعين والشركات المتعددة الجنسية؛ فبسبب التزايد المستمر فى إنتاجية العمل وإمكانية تحقيقه عن بعد تعرضت الرأسمالية فى مراكزها الكبيرة إلى أزمات بنيوية حادة وما نراه من تفجر للسوق الأوربية المشتركة والدعايات المناهضة للأجانب إلا بعض مظاهر هذه الأزمة الكبيرة. وصاحب ظهور العولمة والشبكة الدولية للاتصالات اندماج أسواق المال والعقارات والعملات مما أدى إلى تفجر فى المضاربات النقدية والعقارية تخلق ثروات ضخمة دون ازدياد حقيقى فى الإنتاج. تعقدت الأزمة الأمريكية أيضاً بصعود التحالف الروسى الصينى وهو تحالف مالى وسياسى وعسكري. تحالف يمتد من بحر الصينالجنوبى وتخوم اليابان للشرق الأوسط. هذا التحالف استطاع أن يرد على شراسة العسكرة الأمريكية بعد أن بدا أن روسيا فقدت أى إرادة سياسية وعسكرية منذ سقوط الاتحاد السوفيتى عام 1990. أتى التحول النوعى فى قدرات روسياوالصين بالتلويح الغامض بحروب السكتات الاليكترونية. حروب قد تصيب المؤسسات المالية والمصرفية والإعلامية بتوقف مفاجئ يؤثر على مسارات الأموال وتدفق حياه الناس فى غرب أوربا وأمريكا. هذا التحول هو فى حقيقته انقلاب فى توازن القوى الدولية، ويثير التشكك عن جدوى منظومات عسكرية متكاملة فى شمال العالم. فبين عشية وضحاها اتضح أن الغرب قد يمتلك (القوة) ولكنه بلا (قدرة) على حماية مجتمعاته؛ فحروب السكتات الاليكترونية تهدد قلب الحياة الحديثة فى شمال العالم، وتجعلها عارية مهددة بالقصف الاليكتروني. لقد تحولت وتصاعدت المجابهات حول مشروع الصقور الأمريكيين فى شرق المتوسط إلى خطر وعبء سياسى وعسكرى كبير. وصارت لا أخلاقية تناغمهم مع المرتزقة المسلمين فضيحة تاريخية تتكشف مع الزمن. لقد قررت أمريكا وحليفتها بريطانيا الانسحاب من العولمة ، لبناء أخرى تتلافى شروخاً وشقوقاً فى العولمة الحالية بشقيها المالى والاليكترونى وتلك تستدعى تغييراًَ فى الخطاب السياسى والشعارات والتحالفات وتتطلب مراجعات ضرورية لأولويات وبؤر الصراع حول العالم. عندما سقط الاتحاد السوفيتى عام 1990 كان له ما تبعه من زلازل. فهل نحن وسط زلزال غربى مشابه؟ لقد انتصر ترامب لأنه كان من الحتمى أن يأتى رئيس ببرنامج مختلف، حتى ولو كان ثمن مجيئه هو أن يستخدم كل الكروت، ومنها كروت العنصرية والتمرد على دعايات النسق الفكرى الليبرالي. ترامب هو مرشح الجيش المهزوم والعولمة العارية. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;