تسمى الامبراطورية الأمريكية نفسها بأسماء أخرى، ولا تسمى المستعمرات والتوابع بأسمائها الحقيقية. ولا يقف الأمر عند التسمية، فالولاياتالمتحدة تتكلم عن اختلافها مع الأسلوب الاستعمارى الأوروبى التقليدى فى ممارسة القوة، فهى تدعى أنها فوق التجسس والمؤامرات الدبلوماسية وتدخل الجيوش النظامية وأنها تفضل الكلام عن الحلول القانونية وعن التحكيم. ولم يكن ما دفع الولاياتالمتحدة إلى الاشتراك فى الحرب العالمية الثانية تهديد مباشر يفرضه الألمان واليابانيون على أرض الولاياتالمتحدة ولا واجب تأمين أسواقها العالمية لأن اقتصادها فى الأربعينيات كان مرتكزًا عمومًا على النمو والاستهلاك المحليين. وكان الدافع الرئيسى وراء دخول أمريكا الحرب أن قادتها تحققوا أن ذلك سيكلفهم أقل نسبيًأ فى تحويل العالم إلى الاتجاه السياسى الذى يريدون (وفى المقدمة بالطبع هزيمة ألمانيا واليابان). وكانوا يهدفون كذلك إلى تقسيم الامبراطوريات الأوروبية إلى دول قومية منفصلة كل منها ذات نظام ليبرالى متعدد الأحزاب وانتخابات دورية منتظمة، وكل منها ترتبط سوقها بالدولار. ووفق هذا التصور كان نظام الوصاية فى هيئة الأممالمتحدة يصلح حاضنة الأمم فى مرحلة التكوين وينقلها من الحكم الاستعمارى إلى الدولة المستقلة، وتتحول بعض المستعمرات الأمريكية إلى منطقة رمادية بين المستعمرة والقاعدة العسكرية، فذلك يضمن للولايات المتحدة أن يظل الكرملين أكثر ارتياحًا مع نظام مناطق نفوذ يستمر مدة أطول. ولا يقتصر ذلك على الروس بل يشمل كذلك «حكماء» غربيين يفضلون عالمًأ من مناطق النفوذ الملتزمة قانونيًا على عالم من الدول القومية. ولكن عند نهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن أحد فى وضع إنكار اتساع نطاق النفوذ الأمريكي. وصورة الامبراطورية عن نفسها فى سياستها الخارجية عند بعض نقادها ترتكز على مكونين غير مستقرين فى سنوات بعد الحرب الحاسمة، المكون الأول هو فكرة الاستثنائية أى أن أمريكا تختلف عن أوروبا. وفكرة الكونية، أى الاستثنائية الراجعة إلى العناية الإلهية، نشأت عن محاولة الأطهار البيوريتانيين بناء مدينة فاضلة على تل تحكم امبراطورية أمريكية أخلاقية تنشر الحرية بأن تتجلى ثمارها حيث لا ضرورة قدرية لتبرير النهب. وكانت عقيدة “القدر الجلي” فى القرن التاسع عشر قائمة على أن توسع الولايات المحدة فى كل أراضى القارتين الأمريكيتين مبرر وحتمي، فهى المهيمن الذى لا ينافَس. ولكن الكونية الأمريكية التى نشرها وودرو ويلسون الرئيس الأمريكى بعد الحرب العالمية الأولى عند نقادها أكثر خطورة. رأى وودرو ويلسون العالم كله وعاء لقيم أمريكا ودعا الباعة الأمريكان أن يحملوا الحرية والعدالة ومبادئ الإنسانية مع بضائع تجعل العالم أكثر راحة وأكثر سعادة وتحوله إلى النفوذ الأمريكى بغير وسائل الإكراه. فقد فتح ثراء أمريكا المادى الزائد إمكانات طازجة لما يسميه بعض المفكرين فاعلية للخلاص. وثانى المكونات هو التوتر بين حاجات التفوق الأمريكى وحاجات الرأسمالية المعولمة. وطريقة موازنة أمريكا احتياجات الرأسمالية العالمية والمصلحة القومية هى دراما السياسة الخارجية الأمريكية. وفى السبعينيات المبكرة اتضح أن رأس المال العالمى لم يكن يخدم الولاياتالمتحدة بالكفاءة نفسها التى تخدمه الولاياتالمتحدة بها. لقد دعمت انقلابات فى جواتيمالا وجرينادا، ولكن التدخل فى إيران والكونغو اتخذ للصالح العام لرأس المال العالمى والنظام العالمي. وبدلا من افتراض خيرية أمريكا ينتقد تشومسكى ممارستها الفعلية لقوتها التى لا تبارى ويؤكد بشاعة السياسة الخارجية الأمريكية فى حرب فيتنام، وخليج الخنازير، وغزو العراق وسباق الأسلحة النووية، والفارق الكبير بين ما تدعى الولاياتالمتحدة أنها تناصره وما تفعله. وآراء تشومسكى يتفق معها الكثيرون حول العالم، فقوة الولاياتالمتحدة العسكرية تعتدى عليهم ولا تحميهم. ويذكر تشومسكى أن الولاياتالمتحدة ناصرت انقلاب بينوشيه فى شيلى الذى أعدم قرابة ثلاثة آلاف من الناس وأسقط حكومة الليندى الشعبية المعروفة بانتهاج الطريق البرلمانى إلى اشتراكية ديمقراطية. ووجهت الولاياتالمتحدة العسكريين فى أمريكا اللاتينية بعيدًا عن الدفاع ضد عدوان الخارج إلى الأمن الداخلى بحروب قذرة وتعذيب وإعدام واختفاء قسرى واستخدام نظريات لتبريرها. كما أيدت الولاياتالمتحدة بحماسة مذبحة إندونيسيا فى 1965 و1966 التى راح ضحيتها نصف مليون، وتم الكشف بعد ذلك عن علاقة عمل بين المخابرات الأمريكية والقوات الإندونيسية التى كانت تقوم بالقتل. وتتحالف الولاياتالمتحدة مع دكتاتوريات ترحب بعلاقات حارة مع الغرب طالما أنها تستطيع أن تسيطر على الحكم. وفى الشرق الأوسط يركز تشومسكى على نفاق الولاياتالمتحدة تجاه اسرائيل وخرقها للقوانين الدولية وعلى تعذيب الولاياتالمتحدة للمعتقلين أو إرسالهم للتعذيب على يد وكلائها. ولا يرى تشومسكى أى دور إيجابى يمكن أن تلعبه أمريكا بحكم مصالحها، ولكنه يدعو إلى إدخال بعد مبدئى متسق على علاقات أمريكا بالعالم. ولا أمل فى أن تتبنى السياسة الخارجية الأمريكية بعدًا مبدئيًا فى وقدة الأزمة الاقتصادية الخانقة، بل ربما تندفع فى مزيد من المواقف العدوانية للحفاظ على مكاسبها المهددة فى العالم. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى