ها هو المفكر والمثقف الأمريكى الكبير نعوم تشومسكى يحرك الساكن من جديد بكتابه "صنع المستقبل" الذى يحظى كالعادة باهتمام واسع النطاق سواء داخل الولاياتالمتحدة أو على مستوى النخب الثقافية فى الغرب ككل وهو يتحدث بضمير المثقف الشريف عن شرعية المقاومة لعمليات الغزو والاحتلال وأوهام الامبراطورية الأمريكية . ويحوى الكتاب تحليلا ثقافيا - سياسيا بالغ الثراء للخطاب السياسى للمحافظين الجدد الذين هيمنوا على ادارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش وكانوا وراء سلسلة من القرارات الكارثية لأمريكا والعالم. وفى هذا الكتاب الجديد يتناول نعوم تشومسكى قضايا بالغة الأهمية للعالم العربى على وجه الخصوص ويحلل طبيعة الدوافع والقوى التى كانت وراء قرارات خطيرة مثل غزو العراق ويسلط أضواء كاشفة على مواقف قيادات وزارتى الخارجية والدفاع ووكالة المخابرات المركزية "سى آى ايه". والغريب أن بعض القيادات الاحترافية فى الخارجية الأمريكية والبنتاجون والمخابرات اعترضت على عملية غزو العراق لكن هذه الاعتراضات، كما يكشف تشومسكى، ذهبت أدراج الرياح أمام النفوذ العاتى للمحافظين الجدد الذين أحاطوا بجورج بوش وشغل كثير منهم مواقع نافذة في إدارته. وإذا كان بعض المعلقين والنقاد في الصحافة الغربية من أصحاب النزعة أو التوجهات اليمينية قد تحدثوا عن مخاطر"شيطنة أمريكا" واعتبر بعضهم أن تشومسكى وقع فى فخ الشيطنة مثل المحافظين الجدد الذين يهاجمهم بضراوة فإن هذا المثقف الكبير يؤكد من جديد فى كتابه على مواقفه المبدئية الرافضة لدعاوى الحروب التوسعية والأوهام الامبراطورية معيدا للأذهان أنه عارض الحرب الأمريكية على العراق منذ البداية . ويسخر تشومسكى من صلف وعجرفة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الصغير وهو يتحدث عن صنع الإمبراطورية وفرض الواقع الأمريكى بما يتضمنه من حقائق ومعطيات على العالم كله، فالأمريكيون هم ممثلو التاريخ وهم الذين يصنعونه كما اعتقد بوش الصغير. والكتاب الجديد مجموعة طروحات ومقالات للمفكر الأمريكى الكبير نعوم تشومسكي الذي لم تكن علاقته ودية بأي حال من الأحوال مع الرئيس السابق جورج بوش وما كان لهما أن يتفقا أبدا على أي شيء . ويعتبر تشومسكي أن القرار الأمريكي بغزو العراق كان واحدا من أسوأ القرارات الكارثية للمحافظين الجدد بقدر ما كانت الحرب الأمريكية في هذا القطر العربي حربا بلا معنى رغم بشاعتها وآثارها المأساوية على جيل بأكمله من الأمريكيين أنفسهم. ويضرب نعوم تشومسكي المثل على ضمير المثقف الحق عندما ينتقد في كتابه الجديد بشدة أولئك الساسة الأمريكيين المنتمين للتيار الليبرالى الذين عارضوا الحرب الأمريكية على العراق ليس بسبب الخطأ المبدئى لهذه الحرب وإنما بسبب تكاليفها الكبيرة ومخاطرها الجسيمة أو لأن بعضهم اعتبرها "غير ضرورية وغير مضمونة النجاح". ومن هؤلاء الساسة الذين انتقدهم تشومسكى بشدة بسبب هذا الموقف الانتهازى وغير المبدئى الرئيس الأمريكى الحالى باراك اوباما والرئيس السابق بيل كلينتون، فيما يتوغل فى عملية التحليل لطبيعة الحرب الأمريكية على العراق ليخلص إلى أن هذه الحرب تعبر بجلاء عن الامبريالية بقدر ما تكشف عن جوهر الطابع الاجرامي والشرير لنظام يحلو له أن يضع للآخرين معايير الديمقراطية. إنه كتاب يأتى فى وقت تعانى فيه الرأسمالية الأمريكية من أزمة عميقة استدعت الكثير من المراجعات للنموذج الأمريكى الذى يراهن البعض على أنه يتجه للأفول بين ارتباكات الداخل وشماتة الخارج أما الدال والطريف فهو "حالة الانكار" التى تعترى بعض سدنة المحافظين الجدد بنمط تفكيرهم وثقافتهم التى تكاد تودى بالحلم الأمريكى ككل. وإذا كانت القوة الأمريكية قد بلغت ذروتها عام 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصارها الكبير فى هذه الحرب الكونية كما يذهب البعض فإن نعوم تشومسكى يرى أن هذه القوة تتراجع الآن أمام كل ذى عينين . غير أن الأمل لأمريكا والعالم يكمن فى الناخب الأمريكى إن تمكن عبر صندوق الانتخابات من إسقاط ما يسميه المفكر الكبير نعوم تشومسكى "نمط ثقافى أفضى لحالة من الاختلال العقلى الحاد فى المجتمع الأمريكى". فهل يفعلها الأمريكيون ويصنعون حقائق جديدة أفضل لمستقبلهم ومستقبل العالم ككل بعيدا عن حقائق المحافظين الجدد وثقافة الصلف والزج بالدين فى السياسة؟. من وجهة نظر تشومسكى فإن الوقت قد حان ليدافع المواطن الأمريكى عن حلمه فى السعادة ويلحق الهزيمة بثقافة سادت على مدى ال 20 عاما الأخيرة ولم يتمكن باراك اوباما من هزيمتها بصورة جذرية.