إذا كان القرن العشرون يمكن اعتباره قرن الأيديولوجيات السياسية المتصارعة فإن القرن الحادى والعشرين هو عصر تفكك الإيديولوجيات! لقد برزت فى أواخر القرن العشرين معارك أيديولوجية ضارية بين النازية التى تزعمها «هتلر» والفاشية التى قادها «موسولينى»، وبين الديمقراطية التى كانت سائدة فى عديد من البلاد الغربية التى كانت تدين بالرأسمالية باعتبارها المذهب الاقتصادى القادر على تحقيق تنمية المجتمعات والإسراع بتطورها الحضارى. ثم ظهرت الشيوعية السوفيتية من بعد التى قامت على أساس قراءة «لينين» زعيم الثورة البلشفية عام 1917 للماركسية التى صاغ مبادئها «كارل ماركس» و «فردريك انجلز». وسرعان ما تم التحالف السياسى بين الشيوعية السوفيتية والدول الديمقراطية الغربية لمواجهة خطر النازية والفاشية التى مثلتها كل من ألمانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى اليابان بنزعتها الإمبريالية والعسكرية والتى كونت ما أطلق عليه «دول المحور». وقامت الحرب العالمية الثانية 1939-1945 واستطاعت دول الحلفاء بإسهام بارز من الاتحاد السوفيتى هزيمة دول المحور هزيمة ساحقة بعد أن طارد الجيش السوفيتى الجيش النازى الألمانى الذى حاول غزو روسيا ووصل إلى ستالينجراد حتى برلين. وانتهت الحرب بانتحار «هتلر» واستسلام ألمانيا وإيطاليا التى قتل فيها «موسولينى»من قبل معارضيه. أما اليابان فقد تكفل إلقاء الولاياتالمتحدةالأمريكية للقنبلة الذرية على هيروشيما بالاستسلام الكامل للجيش اليابانى. فى ضوء هذه اللوحة الموجزة للصراع الأيديولوجى الضارى الذى دار فى أواخر القرن العشرين يصح التساؤل المعرفى عن الأسباب التى تدفع بالنخب والجماهير للقبول الكامل بأيديولوجية سياسية ما، أو الرفض المطلق لأيديولوجية أخرى -ونعترف منذ البداية بأن الإجابة على هذا السؤال بالغة التعقيد لأنها تشير إلى نسق الإدراكات المتكاملة للأفراد المختلفين للواقع الاجتماعى والسياسى الذى يراد تغييره من خلال بنى أيديولوجية جديدة ترضى بقيمها الطموحات الفردية والجماعية للتغيير للأفضل. غير أن هذه الإدراكات المتكاملة التى تكون ما يطلق عليه فى العلم الاجتماعى «رؤى العالم» World Views والتى هى بحسب -التعريف النظرة للكون والطبيعة والإنسان- لا تعمل فى فراغ، وإنما من خلال سياق تاريخى يؤثر تأثيرا بالغا على نمط إدراكات الأفراد. وهكذا فى ضوء العلاقة الجدلية بين النص الذى تمثله الأيديولوجية المرغوبة والسياق التاريخى لها يمكن إلى حد كبير فهم لماذا انضم آلاف الألمان إلى الحركة النازية بقيادة «هتلر» الذى وعدهم باستعادة الأمجاد الألمانية حتى تصبح ألمانيا القوة الكبرى فى العالم، وكذلك لماذا انضم آلاف الإيطاليين إلى الحركة الفاشية وقدسوا زعيمها «موسولينى». وإذا كانت النازية أيديولوجية متعصبة لأنها نظرت للجنس الآرى باعتباره أرقى الأجناس الإنسانية فى الوقت الذى نظرت فيه نظرية دونية لباقى الأجناس، فإن الفاشية بجوانبها المختلفة استنفرت نزعات الفخر بإيطاليا مما جعل الآلاف ينضمون إليها. إلا أن الشيوعية فى الواقع باعتبارها أبرز الأيديولوجيات السياسية التى برزت فى القرن العشرين بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917 جذبت الملايين، وفى مقدمتهم مجموعة متنوعة من أبرز النخب الفكرية والسياسية فى الدول الغربية، لأنها فى الواقع كانت تقدم نسقا متكاملا من القيم التى تسعى إلى التحقيق الفعلى للحرية الإنسانية بعد تخليص الناس من الاستغلال الطبقى الذى عانوا منه فى ظل الدول الغربية الرأسمالية فى ضوء شعاراتها الجذابة لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن هنا يمكن القول إن الصراع الأيديولوجى فى القرن العشرين دار فى الواقع بين جبهتين الجبهة الأولى بين أيديولوجيات عنصرية هى النازية والفاشية والنزعة الإمبريالية العسكرية اليابانية وبين الديمقراطية السائدة فى المجتمعات الرأسمالية الغربية. غير أن الجبهة الثانية -التى تبين أن معاركها الفكرية أخطر من معارك الجبهة الأولى التى كان من السهل هزيمتها- هى بين الشيوعية باعتبارها أيديولوجية إنسانية عنوانها البارز هو التحقيق الفعلى لحرية الإنسان فى سياق من العدالة الاجتماعية المتكاملة، وبين الرأسمالية التى تقوم أساسا على استغلال الإنسان والقهر الطبقى لغالبية السكان بواسطة الطبقات الحاكمة المستغلة. وهكذا يمكن القول إن القبول الكامل لأيديولوجية سياسية ما أو الرفض المطلق لأيديولوجية أخرى يتم من خلال التفاعل الجدلى بين تكوين الأفراد، سواء فيما يتعلق بسماتهم الشخصية أو وضعهم الطبقى، وبين السياق التاريخى الذى برزت فيه الأيديولوجية بما يتضمنه ذلك من واقع اجتماعى له سمات محددة قد يكون أبرزها الظلم الاجتماعى والقهر الطبقى والاستبداد السياسى. فى ضوء هذه المبادئ العامة يمكن لنا أن نفسر ظاهرة برزت فى الثلاثينيات من القرن العشرين حيث انضم للأحزاب الشيوعية التى تشكلت فى البلاد الغربية -بعد اندلاع الثورة البلشفية بقيادة «لينين» عام 1917- مجموعات متميزة من كبار المفكرين والأدباء والكتاب. غير أنه بعد سنوات من موجة انضمام هذه النخب الفكرية إلى الأحزاب الشيوعية انفصلت هذه الشخصيات المتميزة عن الأحزاب الشيوعية بعدما تبين فى الممارسة السوفيتية للماركسية أنها عكس ما هو معلن نظام سياسى استبدادى يقوم فى الواقع باستخدام الحزب الشيوعى لقهر الإنسان. وقد لفتت هذه الهجرة الجماعية نظر بعض الكتاب الذين انقلبوا على الشيوعية فطلب أحدهم من مجموعة متميزة منهم كتابة فصول من سيرتهم الذاتية تحكى للقراء بكل الشفافية أسباب تحمسهم أولا للانضمام إلى الأحزاب الشيوعية بعد قبولهم الكامل للأيديولوجية الماركسية، وأسباب انفصالهم وإعلان استقالتهم من الأحزاب الشيوعية. وقد نشر كتاب بالغ الأهمية فى مجال المراجعة الأيديولوجية والتى تمثل فى الواقع نموذجا رفيعا للنقد الذاتى ضم شهادات مجموعة منتقاة من أبرز الكتاب والمفكرين من انجلترا وفرنسا وإيطاليا والولاياتالمتحدة. وقد كتب مقدمة الكتاب محرره وهو السياسى البريطانى المعروف «ريتشارد كروسمان» والذى حدد الهدف من نشر شهادات المفكرين والأدباء على أساس ضرورة تركيزهم على دراسة الحالة الذهنية لمن مروا بخبرات التأثر بالشيوعية مع دراسة المحيط الذين عاشوا فيه فى الفترة ما بين عامى 1917 و 1939 حين كان التحول إلى الشيوعية أمرا شائعا. وقد قدم شهاداته كل من «آرثر كستلر» و«إيجانزيو سيلونى» و«ريتشارد رايت» و«أندريه جيد» و«لويس فيشر» و«ستيفين سندر». والواقع أن المجموعة التى انقلبت ضد الشيوعية يمثل أعضاؤها نخبة متميزة من كبار المفكرين والأدباء الغربيين. وكان عنوان الكتاب «الإله الذى هوى» والذى ترجمه الدكتور «فؤاد حمودة» المدرس بجامعة دمشق إلى «الصنم الذى هوى» ونشره فى دمشق فى منشورات الكتاب الإسلامى عام 1960. هذه الشهادات الثرية تستحق أن نقف أمامها طويلا لكى نعرف أسرار القبول الكامل للأيديولوجيات أو الرفض المطلق لها. [email protected] لمزيد من مقالات السيد يسين