تمثل «الإيديولوجيا» نسقا تراتبيا للأفكار، ينتظم فى هيكل واضح، وظيفته تفسير العالم، كما تمثل بنية رمزية معدة للاستخدام، تنطوى على صفتى الإنتقائية والإختزال، التى تلعب من خلالهما دور الدرع الواقية ضد نزعات الشك والقلق الناتج عن تضارب المعاني، وتعدد المعايير وسيولة الأحداث، حيث تمد الفرد الذى يعتنقها بأجوبة مريحة وجاهزة على الأسئلة التى يواجهها من دون عناء التفكير الدقيق، ومشقة البحث المضنى عن الحقيقة، عبر العمليات المعرفية المركبة والتحليلية المرهقة، حيث يسود التفكير الإيديولوجى تفسير أحادي، أو ضيق، للتاريخ: اقتصادى أو ثقافي، أو دينى.. الخ. ولا شك فى أن هيمنة الواحدية والاجتزاء على حساب الحقيقة المركبة والمربكة فى آن، إنما يجعلان تلك الحقيقة قابلة للإدراك، سهلة التداول والاستخدام. وهكذا تعفى الإيديولوجيا معتنقها من تهمة الجهل، وتشعره بأنه يعرف، بل ويعرف كثيرا، بدليل امتلاكه تصورا جاهزا، وربما كاملا، للحقيقة، وإن كان هذا الإدراك اختزاليا أو حتى زائفا. الإيديولوجيا بهذا المعني، هى التى بدأ الحديث عن (نهايتها) مطلع خمسينات القرن العشرين، عندما وضع ه. ستيوارت هيوز مصطلح «نهاية الايديولوجيا السياسية» استنادا إلى مظاهر تراجع الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى بنهاية عهد ستالين، وهى الفكرة التى راجت بعد سنوات قلائل لدى علماء اجتماع، وكتاب أمريكيين مثل شيلز وبيل وليبست وشيلزنجر وواكسمان ووالت روستو. ففى مؤتمر ضخم عقد فى ميلانو بإيطاليا عام 1955 حول (مستقبل الحرية) تم الإعلان عن اختفاء أسباب الصراع الإيديولوجى فى العالم وإعلان نهاية عصر الإيديولوجيا، قاصدين (الشيوعية) بالطبع. ستبطن هذا الطرح فكرة أن المجتمعات الصناعية المتطورة تمكنت من حل أغلب قضاياها الكبرى وكل المشاكل الاجتماعية الأساسية ومن ثم أخذ الجدل داخلها يدور حول مسائل إدارية، تنفيذية وتقنية بدلا من القضايا الثقافية «الإيديولوجية». وهكذا تصبح الإيديولوجيات الكلية أو حتى المثالية فى تعارض حقيقى مع التنظيم العقلانى للمجتمع الحديث، ومن ثم غير قادرة على تفسير ما يجرى فى جنباته. وهكذا ينتهى دورها عمليا، وإن بقيت فهى مجرد شكل بسيط جزئى، يفتقد أصحابه للحماس بعد أن فقدت قدرتها القديمة على الإقناع. فى مقابل هذا الطرح الرأسمالى لنهاية الإيديولوجيا، وبعده بسنوات قلائل، كان ثمة طرح اشتراكى لدى عدد من المفكرين الماركسيين على رأسهم هنرى لوفيفر، جوهره أن الإيديولوجيا لا توجد إلا فى مجتمع طبقي، مجتمع فى حاجة إلى تبرير انقسامه (ايديولوجيا)، أى إلى عنصر تضليل يغطى على عملية الاستغلال الاقتصادى والسيطرة السياسية، ويبرر شرعية النظام القائم أو، حسب ميشيل فوكو، يصوغ منطق هيمنته. وبما أن المجتمع الإشتراكى المنشود هو مجتمع خال من الطبقات، فلا حاجة له إلى التضليل، أى إلى الإيديولوجيا، المفارقة التاريخية أن روافد الرأسمالية لم تصب فى نهر الاشتراكية، بل حدث العكس حيث عادت أغلب روافد الاشتراكية لتصب فى المجرى الرأسمالى، مطلع تسعينات القرن العشرين، على ذلك النحو الذى أنهى فعليا الحرب الباردة الإيديولوجية، وادعى بنهاية التاريخ. وإذا كان لنهاية التاريخ حديث قادم، فما نود التأكيد عليه هنا أن الإيديولوجيا لم تنته، وأن القول بنهايتها هو نفسه ادعاء (إيديولوجى)، يمكن مواجهته بإدراكين أساسيين: أولهما : هو أن ثمة فارقا رئيسا بين القول بنهاية إيديولوجيا بذاتها، والقول بغياب مفهوم الإيديولوجيا نفسه. فذبول هذه الإيديولوجيا أو تلك ليس دليلاً على نهاية المفهوم بالمطلق، كآداة للوعى والممارسة والتوظيف. وإذا ما نظرنا حولنا اليوم لوجدنا أن جل الصراعات التى يزخر بها عالمنا ليست إلا صراعات إيديولوجية من مستويات مختلفة، بعضها مباشر كالعولمة التى تمثل محض تبرير لنزعات التغلغل الاقتصادى والسياسى فى المجتمعات الأخري. وبعضها الآخر غير مباشر، على منوال مقولة صدام الحضارات، خصوصا بين العالم الغربى المسيحي، والعالم العربى الإسلامي، والتى تنضح الروح الإيديولوجية حتى من تسميتها نفسها. فالقول بعالم إسلامى موحد، له طابع كلى وشمولي، رغم التفاوت الهائل على كل الأصعدة بين مصر وأفغانستان مثلا، أو بين السعودية وإيران، هو قول إيديولوجى محض. وعلى المنوال ذاته يأتى القول الإيديولوجى بعالم مسيحى غربي، تنضوى فيه روسيا التى تمثل (شرق الغرب) مع الولاياتالمتحدة التى لا تزيد عن كونها (غرب الغرب)، كما تنضوى كوبا (جنوب الغرب) مع بريطانيا واسكندينافيا (شمال الغرب). إنهما ليسا إلا قولين إيديولوجيين يغطيان على طبيعة الصراع الاستراتيجى حول الهيمنة العالمية، والذى يراد لمعالمه أن تظل خفية ومضمرة. وثانيهما : أن القول بنهاية الإيديولوجيا إنما يدور حول الوظيفة التبريرية لها، الأكثر بروزا لها، وتعبيرا عنها، متجاهلا الوظائف الأخري. فهناك الوظيفة الاجتماعية للإيديولوجيا، إذ تضع الفرد فى مركب واحد مع المجموعة البشرية التى تشاركه الاعتقاد نفسه، لتصنع من الجميع تكتلا بشريا متناغما يزداد شعوره بالتضامن، نتيجة امتلاكه لحمية فكرية تنتظمه مع الآخرين، كما كانت القبيلة تنتظم الفرد فى روح جمعية طوال العصور القديمة. فالإيديولوجية إذن، خصوصا المتطرفة فى أحاديتها وجذريتها، ليست إلا النزعة القبلية المضمرة فى فكر الحداثة، القادرة على صهر الجماعات البشرية فى تضامنات فعالة. وهناك أيضا الوظيفة (التعبوية)، التى تختلط داخلها الأبعاد السلبية مع الإيجابية، خصوصا عندما تصبح الإيديولوجيا طريقا للحفاظ على شرعية نظام حكم قائم فى مواجهة الجماهير، وهو أمر يتوقف على طبيعة هذا النظام، وهل هو نظام حكم تعددي، عادل وفعال، يرفع إيديولوجيا تقدمية، أم أنه نظام إحادى إقصائي، يتسم بالإستبداد والظلم، يستخدم أفكارا بالية، ويحتمى بمفاهيم تقليدية مذهبية أو عرقية. وهكذا تكتسب الإيديولوجيا أشكالا مختلفة، لتقوم بوظائف متناقضة، بحسب كل مجتمع، ما يعنى أنها لم تنته فعلا، وربما لن تنته أبدا، بل تبارح دورا ما فى سياق تاريخى وسياسي، لتلعب دورا آخر فى سياق مغاير، وهكذا فى عملية جدلية لا تقبل مقولة النهاية وإن خضعت لمبدأ التحول.. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم