يبقى العقل الإنسانى قاصرا عن إدراك الحقيقة الكاملة، ولذا يظل الوجود الإنسانى أقرب إلى معاناة فى مواجهة الجهل وإلى مباراة فى طلب المعرفة، وهو طلب يستعصى دوما على الاكتمال، ولا يشرف أبدا على التمام، ومن ثم يثير فينا شعورا دائما بالألم ينجم عن شعور عميق بالمسئولية. وهكذا يبدو الوعى حليفا للألم و«التفكير» قرينا «للشقاء» فمن زادت معرفته زاد ألمه نتيجة كفاحه المضنى من أجل بلوغ حقيقة عصية على الإدراك، والوصول إلى يقين لا يمكن الوصول إليه فى هذا العالم، مع ما يسببه هذا العجز عن البلوغ والوصول من ألم، فالإنسان الذى يتعقل وجوده غالبا ما يتألم ونادرا ما يفرح، إذ يسعى دوما إلى فهم الحياة واكتشاف مغزاها بدلا من أن ينعم بها، عبر التجاوب مع تلقائيتها الظاهرة وطلاقتها المريحة، إذ يفرض علينا الوعى أن نراقب أنفسنا، أن نقومها طالما أدركنا قصوراتها، يصيبنا ذلك بالقلق والحزن لأننا ربما فشلنا فى مهمتنا أو لأننا نجحنا فيها جزئيا فقط، فى وقت يمرح فيه الآخرون رغم أن قصورهم أعمق، وجهلهم بحقائق الحياة أكبر. وهنا تطالعنا ظاهرة واقعية كاشفة، فالإنسان البسيط غالبا ما ينجح فى نسج علاقات طبيعية ودافئة مع الآخرين، على شتى الأصعدة: فى الصداقة والحب والجيرة والزمالة وغيرها من أنماط التفاعل الإنسانى المختلفة، فالتلقائية البسيطة تمكنه من التعامل مع الآخرين كما هم بطبائعهم التى قد تنطوى على تناقضات غير مفهومة له ولكنه لا يكترث بها، أو تحتوى على عيوب لكنه لا يتوقف عندها ولا يحاول أن يسائلها، قدر ما يتكيف معها ويستمتع بمفارقاتها، فيما يفرض الوعى على أصحابه مساءلة تلك العيوب، والكشف عن مصادر تلك التناقضات التى يواجهونها فى تكوين الآخرين، الأمر الذى يجعل من هؤلاء الآخرين موضع تأمل بارد، وتساؤل مندهش إن لم يكن موضع اتهام بالقصور والدونية، ويفرض حاجزا يحول دون التعاطف التلقائى الودود والبسيط معهم. بل إنه قد يفرض على ذلك الإنسان الواعى إذا ما كان «باحثا أو متفلسفا» تجاوز فردية المحيطين به إلى محاولة تعميم المغزى الكامن فيهم على الإنسانية كلها، ساعيا من ثم إلى تجريد نظريات علمية أو قوانين معرفية حيال الطبيعة الإنسانية، ما يزيد من شعوره بالوحدة والعزلة، والترقب، وجميعها مشاعر تصير معلما على ألم الوعى والمعرفة. ولعل هذا هو المغزى الذى يكاد يلامسه أو يعبر عنه شاعر الرومانسية الإنجليزية اللورد «بايرون» فى أبيات خالدة قائلا: لأسف معرفة.. فأولئك الذين يعرفون الأكثر يتفجعون أعمق تفجع على الحقيقة المحتومة، إن شجرة المعرفة ليست هى شجرة الحياة. فى هذا السياق تكمن أهمية الإيديولوجيا فى حياة المجتمعات الإنسانية، كونها عدسة مجمعة «مقعرة» من منظور المعرفة، ومفرقة أو «محدبة» من منظور الألم المصاحب لها. فعلى مر العصور، وإزاء حالة التعدد والتناقض التى تسم مظاهر الطبيعة فى هذا الكون الواسع، كما تسم جوانب الحقيقة فى بنية المجتمعات داخل هذا العالم الممتد، كانت هناك حاجة دائمة لآليات ذهنية تعطى الكون تفسيرا شموليا، كما تمنح عالمنا ومجتمعاتنا فهما ممكنا. وبينما لعبت أنساق مثل الأساطير والسحر دورا أساسيا فى تفسير الكون لعصور طويلة تمتد فى طفولة الوعى الإنسانى، سواء كان وضعيا طبيعيا أو سماويا توحيديا، فإن «الإيديولوجيا» هى التى ورثت هذا الدور، بمعنى ما من المعانى، فى عصرنا الحديث الذى اتسم بسيادة نوع من الشك الذى كاد يقضى على كل ضروب اليقين التقليدى فى جل المجتمعات المتمدينة، وهكذا لعبت الأيديولوجيا ولا تزال دور حائط الصد فى مواجهة نزعات الشك واستعصاء الحقيقة عبر القيام بوظيفتين أساسيتين سهلتا من عملية إدراك العالم، وتخفيف حدة الألم الناجم عن تناثر الوعى الإنسانى، وقصوره، وعجزه فى مواجهة الحقيقة المطلقة أو الشاملة: الوظيفة الأولى إدراكية / معرفية؛ ذلك أن الأيديولوجيا بما تمثله من نسق معين ومتراتب للأفكار، وبنية ذهنية / رمزية جاهزة ومعدة للاستخدام إنما تلعب دور الدرع الواقية للفرد ضد نزعات الشك والقلق الناتج عن تضارب المعانى، وتعدد المعايير وسيولة الأحداث، حيث تمده بأجوبة مريحة وجاهزة على الأسئلة التى يواجهها من دون عناء التفكير الدقيق والألم الناجم عن متوالية المعرفة وعملياتها التحليلية المعقدة والمركبة والمرهقة. كما أنها، ومن جانب آخر، تعفيه من تهمة (الجهل) ذلك أن الكائن (الأيديولوجى) يشعر من داخله أنه يعرف، بل ويعرف كثيرا، بدليل أنه يملك تصورا جاهزا، وربما كاملا، للحقيقة، خصوصا مع امتلاك الإيديولوجية لميزة الاختزال، حيث يسود تفسير أحادي، أو على الأقل ضيق، للتاريخ فى أغلب الأحيان: اقتصادى أو ثقافى، أو دينى.. الخ. ولا شك فى أن هيمنة الواحدية والاجتزاء على حساب الحقيقة المركبة والمربكة فى آن، إنما يجعلان تلك الحقيقة قابلة للإدراك، سهلة التداول والاستخدام، وإن كان هذا الإدراك زائفا. أما الوظيفة الثانية للأيديولوجيا فهى نفسية / اجتماعية، إذ تضع الفرد فى مركب واحد مع المجموعة البشرية التى تشاركه الاعتقاد، لتصنع من الجميع تكتلا بشريا متناغما يزداد شعوره بالتضامن، نتيجة امتلاكه لحمية تنتظمه مع الآخرين، كما كانت القبيلة تنتظم الفرد فى روح جمعية فى العصور القديمة، فالأيديولوجيا إذن هى النزعة القبلية المضمرة فى فكر الحداثة، كحاضنة اجتماعية للتضامن الفعال، وحامية ذهنية ضد بواعث القلق والشك المتولد عن عالم جديد متغير ومتعدد، يصعب السيطرة على دفق حركته، ويصعب التحكم فى إيقاعات تغيره، إلا من خلال صيغ معرفية تنظيمية، وأطر إدراكية جاهزة، إنها على وجه الدقة، ذلك النسق الجاهز وشبه المكتمل، الذى يقينا الشعور بالألم تجاه حال النسبية والقلق الكامنين فى ذهنية الحداثة وفى مقولاتها وعملياتها المعرفية المعقدة، حتى لو جاءت تلك الوقاية على حساب الحقيقة، كلها أو بعضها.. لمزيد من مقالات صلاح سالم