تغط المحروسة فى نوم عميق. تجاوزت الساعة الخامسة صباحاً بقليل. سكون وهدوء يقطعه من حين لآخر صوت سيارة مسرعة لا يصدق قائدها أن فى القاهرة شوارع خالية، حتى وإن كان الوقت فجراً. سعل الحاج خليفة عابراً الشارع. ردد الصمت صدى ارتطام السلسلة بالبوابة. بسمل وحوقل، تمتم بدعاء دخول المسجد، سرت الإضاءة فى أنحائه فاستحال قطعة من نور، وأرسل الميكرفون صوتاً مكتوماً مؤكداً جاهزيته للاستخدام. تهيأ الحاج للأذان، ثم انطلقت حنجرته “الله أكبر”. فى الجوار، واصل القس يوحنا تسبيحاته بعد انتهائه من صلاة نصف الليل مفضلاً المناجاة على النوم، سويعات وتبدأ صلاة باكر. ما زال الرهبان فى قلاياتهم. منهم من اتعبه السهر، فنام جالساً كى لا يطيل، ومنهم من يواصل المناجاة. لا ينقطع الرجاء ما استمر الدعاء. فى نهاية الشارع، يواصل عبده الفران إطعام فرنه عجيناً سهر الرجال فى إعداده. كثيراً ما يمر عليهم المصلون فى طريق عودتهم. فى العمارة المجاورة، أغلق رفاعى شنطة سفره، ألقى ما تبقى من كوب الشاى فى حلقه، قبل يد أبيه وأمه، شاغب شعر أخته، وخرج تسبقه دعواتهم أن يعود بالسلامة وأن تنتهى فترة خدمته العسكرية على خير. خلف شيش شباك أحد الغرف المطلة على الشارع، تعلقت عيون وسام بخطوته، وتوسلت لله أن يعود سالماً. قليلاً قليلاً تسرى الحركة فى الشارع. ابتسم اسكندر عندما تناهى إلى مسامعه صوت جارته من المطبخ تصرخ فى أطفالها الغارقين فى النوم كى يدركوا أتوبيس المدرسة. “كلنا فى الهم سوا”، تمتم فى نفسه، فلحظات وينطلق صوت زوجته، وكأنها تقاسيم تشترك فيها سيدات العمارة فى تتابع متفق عليه. فى أول الشارع، توقف عم يحيى بالأتوبيس أمام الإشارة الحمراء. طال انتظاره، واستطال طابور السيارات خلفه، وارتفع ضجيج أبواقها. تأفف البيك فى سيارته الفارهة. ابتسم إبراهيم بياع الفول على الناصية فى خبث وأشار لعم يحيى أن الإشارة لا تعمل وأنها على هذا الوضع منذ أمس. همهم الرجل فى نفسه ولعن إبراهيم الذى تركه واقفاً كل هذه المدة، وداس بنزين بكل قوة فانطلق العادم كثيفاً نحو إبراهيم وزبائنه، الذى قهقه عالياً وارتفع صوته “الفول اللوز”. ألقى البيك التحية على الخادمة الآسيوية، اطمأن إلى لحاق ابنته بأتوبيس المدرسة الدولية. طلب إعداد الإفطار ريثما ينتهى من دش الصباح بعد عودته من النادى. جلس إلى المائدة قبالة الهانم، يفصل بينهما قطع الجبن الفرنسى والهولندى والإيطالى ممهورة بأختام أشهر الماركات. تناولت الهانم شريحتين لزوم الرجيم. زكمت غرفة الطعام نكهة قهوة فرنسية انتهت الماكينة من إعدادها للتو. من باب الشكوى وأنه لا راحة فى هذه الدنيا، شكت الهانم لصديقاتها عدم قدرة أشهر خبازى المحروسة على صنع رغيف باجيت يشابه ما قدمه مسيو فرانسوا فى أسبوع المطبخ الفرنسى بالفندق الشهير. شكاوى الهانم لا تعرف طوابير الخبز البلدى ولا الكارت الذكى ولا عبده الفران. شيئاً فشيئاً انساب الناس فى الشارع وضغط الزحام والضجيج على الجميع. بدأت مسابقات عبور الشارع وتفادى السيارات. خبرة تميز بها أهل المحروسة حتى مع تسجيلها أعلى معدلات حوادث الطرق.عبر الرجل المسن الشارع على مهل. توقفت إحدى السيارات. قفز الطلاب فى الأتوبيسات، جروا خلف الميكروباص، تبادلوا النكات والتعليقات تتدلى على وجناتهم أسلاك سماعات الأذن. أخذت ماكينة الحياة دورتها.تناهى صوت ريهام عبد الحكيم مردداً «فيها حاجة حلوة». حفظ الله الوطن.