كل أجراس العالم لم تفلح فى ايقاظى، أنا المشهور بالنوم الثقيل، إلا أن أى كحة أو همسة من صوت ابنتى «يسر» يجعلنى استيقظ فورا، اهبط من الفراش، اتجه الى فراشها الذى يبدو كقوقعة محار به لؤلؤة صغيرة مازالت تجهل هذا العالم، أجدها تلوح لى بقبضة يدها يدها تساعدها فى التعامل معنا كما يساعدها فمها الصغير فى اكتشاف العالم، أربت على كتفها واحملها واقبلها، أمد يدى على علبة المناديل التى قاربت على النفاذ، لمسح ما يسيل أسفل أنفها، تطلق «يسر» صراخها كلما اقتربت من وجهها وأنا أحمل منديلا ابيض، اقبلها، و اذهب لوضع المياه فى «الكاتل»، ثم اسحب كوبا نظيفا واضع فيه فتلة الشاى وملعقة سكر، انظر حولى، المطبخ «يضرب يقلب».. مثلما كانت تقول أمى، مطبخ يحتاج الى كتيبة نساء كى ينظفوهن. أخرج من المطبخ، وأطل على يسر التى انشغلت ببعض العابها، تلقى الألعاب خارج محارتها، التقطتها وأعود لوضعها بجوارها فى فراشها، يجب أن تأخذ الدواء، قطرات العين والأنف، والدتها مريضة ايضا، تتأوه زوجتى بشدة أجرى وأدثرها بالغطاء، و أربت على رأسها وأقبلها، أخبرها أننى يجب أن اذهب للعمل للحاق بالتوقيع البغيض الذى يطاردنى بقسوة مثلما يطارد شرطى شرس لص برئ. أعود للمطبخ، أغسل «ببرونة يسر»، و أضع فيها خمس معالق من بودرة اللبن و اسكب عليه الماء الساخن، و اتركه فى كوب به ماء بارد ليبرد، أصب الماء فى كوب الشاى، و أخذ رشفة شاى سريعا، وأبحث عن علبة سجائرى، بينما يأتى صوت «يسر» وهى تصرخ من محارتها، أذهب لها وانبها ألا تصرخ كى لا توقظ والدتها، وأقول لها: حالا سوف يكون جاهزا أفطارك، لحظات ويبرد، تضم قبضة يدها بقوة، وهى تشير لى: بما معناه: أحملنى، أقبلها وأحاول اجلاسها فى محارتها، عيونها ما تزال منتفخة، و انفها محمر من كثرة الألم، تخبرنى والدتها انها تريد أن تغير «البامبرز»، أخرج «يسر» من محارتها، و أقوم بوضعها نائمة على فراشى، تضحك وتمد يدها للقبض على أى شئ حولها، أخبرها بقوة أننى تأخرت وأن الصداع يطرق رأسى، أخلع ملابسها عنها، جسدها صغير جدا ومبهج، أقول لها: يع.. ايه ده يا يسر، ينفع كده، تبتسم، اذهب بها للحمام، انظفها بالشامبو والماء الدافئ وهى تصرخ وتستغيث، ثم اغسل وجهها و شعر رأسها بالماء، يدها تقبض على أى شئ، وتتشبت فى بقوة، أنهرها بالا تخف، وأن هذا لمصلحتها، أقوم بلفها بالفوطة، ثم نذهب للفراش، نضع الكريم، و ازيد بعضا من البودرة نتيجة تسلخات تظهر عليها بقوة، تضحك يسر واضع لها «بامبرز» جديد، ثم ترتدى ملابسها، أحاول أن أضعها فى محارتها، تصرخ كلما اقتربنا منها، تريد أن تنطلق، أضعها فى الفراش، واتناول فرشاتها وأقوم بتسريح شعرها وربطه من الخلف وهى تصرخ، أعود للمطبخ وأتناول «ببرونة اللبن» واعطيها لها، تضحك وتجلس تأكل فى نهم وهى تجذب التوكة من شعرها، أعود للمطبخ اتناول كوب الشاى، وأخرج سيجارة واقف فى الشرفة، اطل فى الساعة، العقارب تهرول سريعا و تكاد العقارب تفتك بى، أحاول أن أستعيد فى الشرفة ما مضى من ذكرياتى أيام وحدتى، ها هى شرفتى، وها هى قطعة كبيرة من السماء، وها هم البشر يهرول كل منهم الى اعمالهم ومصالحهم، لكن كل شئ تحول، اتلذذ بالرياح الباردة التى تداهم وجهى، مع أبخرة كوب الشاى ودخان السيجارة الذى يتصاعد فى بطء كشخص يتمطى ولا يريد أن يغادر الفراش فى هذا الجو الشتوى. أعود، اخرج غياراتى الداخلية، واقفز سريعا للحمام، وأنا أنبه «يسر» بأن تأخذ بالها من أمها المريضة، التى تصيح لى بأن أتى بحقيبة الأدوية، أخرج للصالة، حقائب الدواء تكفى علاج نصف مرضى العالم، تصدم يدى وقدمى بألعاب «يسر» التى تنتشر كجنود غر منظمين فى حرب خاسرة لا يعرفون لها سببا، أحاول أن أضم بعضهم فى الصندوق أو أنظم صفوفهم إلا أننى أفشل بسبب دقات الساعة التى تعلن الثامنة صباحا، اطل للساعة و أصرخ فيها: ايتها العقارب سيأتى يوم أحطمك فيه، واشعل النيران فى دفتر الحضور والانصراف الذى يطاردنى دون هوادة، أعود لزوجتى بالأدوية وأخبرها أن تأخذ هى الأخرى ادويتها. ادخل الحمام، ولا استطيع ممارسة طقوسى لتأخر الوقت، اطل على علبة المعجون المنبعجة من منتصفها، هذه عادة زوجتى، اضغط غاضبا على أسنانى بقوة، من تلك العادة التى أكرها، أغسل أسنانى سريعا، وافتح شفاط الحمام، و أخذ دش سريعا، وأتوضأ، ثم أخرج، أجد زوجتى وقد هبطت فى و هن من الفراش وهى تحمل «يسر» التى انتهت من شرب اللبن، أضحك فى وجههن، وأقول: انهن عقابى الجميل فى تلك الحياة. أفرد سجادة الصلاة، واخطف ركعتى الصبح، ثم أسحب حذائى، وامسحه «بفانلة قديمة سوف يأتى يوم أحكى تاريخها السرى وارتديه، واخبر زوجتى بتحركاتى خلال هذا اليوم، و أن لا تتعب نفسها فى عمل شئ فى المنزل، فعندما أعود، سوف أكمل. أخرج للشارع، و أنا أشعل سيجارتى، انتظر الاتوبيس الأزرق الجميل الذى بدأ العمل منذ عام تقريبا، والذى قلت أنه صنع خصيصا منذ ميلاد ابنتى «يسر»، أو هو من عطايا «يسر» ومحارتها، و بسببه كرهت أن أركب الميكروباصات وازعاجتها. يأتى الأتوبيس، اركب، امسح المقعد بمنديل ورقى، يطل على بعض الركاب وما أفعله، اخرج سبحتى الصغيرة وأغرق نفسى فى تسبيحات لله، حتى يصل الاتوبيس لمقر العمل متأخر دقائق قليلة، اضع توقيعى فى دفتر الحضور البغيض، وأنا أتحايل على الموظف أن عطلا بالطريق هو الذى جعلنى أتأخر هذه الدقائق، ينتفخ وجهه، ويخبرنى: أنها آخر مرة يسمح بهذا التجاوز، اشكره، و أنا أضع على وجهى ابتسامة باهتة وبداخلى أمنية أن أقتله ذات يوم. أخرج من باب العمل، واستقل أتوبيس آخر للذهاب للبنك، و أنا أدعو الله أن يكون الشيك قد تم تحصيله، لدى قائمة من الطلبات فى جيبى يجب تنفيذها وسدادها، أدخل البنك، ينظر لى الموظفين الذين يعرفوننى جيدا نتيجة مشاجرة كبيرة قمت بها فى البنك مع أحد الموظفين، تلوح لى الموظفة بأن الشيك قد جاء، أحمد الله كثيرا، أسير وأنا أشعر ببعض الانتصارات الصغيرة فى حياتى، أحمل رقما و اقف فى الطابور لشباك الصرف البنك لم يزدحم بعد اصرف النقود، وأخرج من البنك و أنا شخص آخر أمتلك بعض النقود التى تغير وجه العالم حوله، أهرول لأقرب شركة صرافة، أجد سعر الدولار قد ارتفع جدا، وإن كلام الحكومة شئ من العبث، أخبر زوجتى فى الهاتف بتنفذ ما تريده، أذهب لسداد بعض الاشتراكات، ثم أسير أشاهد بعض المحلات لملابس الأطفال، تعجبنى بعض الأشياء، وأتصل بزوجتى وأخبرها بأن تقوم بشراء بعض البجامات «ليسر» عندما تشفى، ثم أركب سيارة للذهاب لصيدلية الشكاوى بشبرا لصرف حصة لبن «يسر» لا أعرف السر فى هذا المسمى حتى الآن أقف فى طابور طويل جدا حتى يأتى دورى، حياتنا أصبحت عبارة عن طابور لا ينتهى للحصول على أى شئ فى تلك الحياة أعود للعمل فى منطقة العجوزة وقد بدأت اقدامى تؤلمنى، أجد بعض الزملاء يتناقشون فى طعام الافطار ويتعاركون على من يقوم بصنع الشاى، أنظر لهم وأنا فى حسرة، أخطف صلاة الظهر سريعا، وأجلس منتظرا أن تهرول عقارب الساعة لتعلن الانصراف، اضع توقعى فى الدفتر، واقفز خارجا من مبنى العمل، وأقف أنتظر الأتوبيس، وادعو الله أن يأتى سريعا وألا يأتى مزدحما، استقل الأتوبيس وهو عائد واحمد الله اننى وجدت مقعد للجلوس فالطريق طويل الى مدينة أكتوبر. انزل فى منتصف الطريق، وأخذ طبقين كبيرين واقف وانتقى بعض حلاويات المولد، هذه أول علبة مولد «ليسر»، و علبة أخرى لأمى، أقف فى طابور آخر، الزحام شديد والأسعار عالية، لكن الجميع مبتسم، انتهى من الشراء، واعود لانتظار الاتوبيس والذى يأتى سريعا، ثم اهبط لشراء فرخة مشوية من محل فتح جديد بالحى الذى اسكن فيه. اعود للمنزل، تستقبلنى العروسة الحلاوة وفارسين يقفان يحرسانها فى مدخل الشقة، ابتسم، وأجد صوت «يسر» وأمها فى الغرفة الأخرى وهن يتناقشن، أدخل وأنا أحمل علبة الحلوى، ترفع «يسر» يدها و هى تريد أن تقبض عليها، أجدها هى و أمها وقد اشتد عليهن التعب، أمسح أنف «يسر» وهى تصرخ، أضع لها القطرات وأقدم لها علبة الحلوى كرشوة لموظف لا يريد أن يصمت، تبتسم «يسر» وتفرح بعلبة الحلاوة والأشياء المغلفة، و أخبرها اننا لن نفتح العلبة الا يوم المولد النبوى، ادخل المطبخ، و أجهز الطعام، وأضعه على مائدة السفرة، ثم نأكل فى فرحة وسعادة كبيرة، تثنى زوجتى على نوعية الطعام وعلى المحل الجديد، بينما «يسر» تلتهم ما نقدمه لها بنهم شديد، تحب أن تكتشف نوعيات جديدة للطعام غير اللبن، فى التليفزيون أجد «توم كروز» وهو يقفز من على برج خليفة بدبى قفزة رائعة، اندهش مما يفعله هذا الملعون، ننتهى من تناول الطعام، واجمع بقاياه، وأدخل المطبخ الذى لا يزال يحتاج الى كتيبة من النساء، أشمر عن ذراعى، واسحب ملابسى وملابس «يسر» الملقاه فى كل مكان بالشقة، وأبدأ فى ترتيبها وأنا أضعها فى الغسالة، ابتسم وأنا أنظر لتلك الملابس الصغيرة وملابسى تزاحمها، اضبط برنامج الغسالة، وابدأ فى غسل الصحون، تخبرنى زوجتى بترك المواعين لها، أخبرها بأن تعبها راحة، أتمنى أن أكتب مقالا لاحد المجلات، ولا استطيع، افكر فى مقال عن عمار الشريعى ومقال آخر عن مقبرة فرعونية ذهبت إليها صغيراً، اضع الماء فى الكاتل واصنع ببروة لبن ليسر وكوب شاى لى، اشعل سيجارة فى المطبخ وافتح الشفاط ، انتهى من غسل كل الواعين، وامسح ارضية المطبخ، وكل بعض دقائق اجد يسر تأتى وتزيح الستارة وتحاول أن تدخل المطبخ ، أحملها واقبلها ، واعطيها الببرونه، اصبحت اجيد تقديم الرشاوى ليسر كى تصمت، انظر للمطبخ بعد أن تم تنظيفه، واشعر بشئ من الرضا والبهجة، اشعل سيجارة اخرى واصنع كوب من الشاى لان الاخر نسيته، أسحب ورقة وابدا فى تدوين بعض الطلبات التى يحتاجها البيت، تأتى صفارة الغسالة، ابتسم ، احمل الغسيل واقوم بنشره، بعض المارة يطلون على، عيونهم تخبرنى بأى رجل يفعل هذا ويقوم بنشر الغسيل علنا، أحاول أن أراد عليهم، بأن زوجتى مريضة وابنتى ايضا، وأنها هى ممتلكتى و أنا حر فما أفعل، أقوم برص الملابس على حبال الغسيل مثلما تعلمت من أمى، ملابسى فى المقدمة وملابس «يسر» بالداخل كى احميها من برودة الجو هذه الليلة، ادخل سريعا، لأجد توم كروز يقبل امرأة بقوة، ابتسم وأخبرهن بأننى سأقوم بتقطيع البرتقال والتفاح، لكن الفتافيت فى كل مكان بالشقة، اسحب المكنسة الكهربائية وأقوم بتنظيف السجاد فى جميع الغرف، ثم اذهب واغير ملابسى، أضع الملابس المبتلة فى صندوق الغسيل، وأخرج منامه نظيفة، واتحدث مع زوجتى عن بعض الأخبار فى الوسط الثقافى أو زملائى فى العمل، تفرش «يسر» كل ألعابها، ومازالت تضع علبة الحلوى بجوارها، نبدأ فى الجلوس على الأرض، ونمزق بعض الأوراق ونصادم بعض السيارات تضحك، وأنفها يسيح، أتناول منديلا وأمسح انفها، فتصرخ، ثم احتضنها بقوة كى أهدى من تعبها، اخبرهن بأننى أريد أن استريح بعض الوقت كى أقوم لانجاز بعض المقالات، وأننى لا أريد أن أسمع صوتا فى البيت، وأن كل شئ مرتب ونظيف، بينما عقارب الساعة تشير للثانية بعد منتصف الليل، لتخبرنى بأن اليوم انتهى منذ زمن بعيد.