الوجود فى المطار يعنى الوقوف فى منطقة يختلف فيها خيال كل إنسان عن خيال الواقف أو الجالس بجواره ، هذا المعنى دفع بابتسامة الذكريات إلى ملامح أحمد عكاشة فهناك مطارات دخلها لبلاد كثيرة قضى فيها بعض الوقت ، والهدف دائما حضور مؤتمر علمى أو الكشف على مريض له حيثية تستدعى حضور رئيس الجمعية العالمية للطب النفسى . وبين مطار العاصمة فى لندن ومطار القاهرة مسافة قطعها أحمد عكاشة كثيرا عبر خمسة وخمسين عاما من ممارسة الطب النفسى ، فالحياة تتراقص عند أى إنسان بين الاحتفاظ بكل ما يمتعه ، والخوف مما يؤلمه ، على الرغم من أن كل منا يعلم أن الألم لن يبقى على حاله إلى الأبد ، ولا المتعة ستظل إلى الأبد . ولكن هذا القانون المنطقى لا يستقر فى وجدان أى إنسان، ففى وجدان كل إنسان هذا الطفل الراغب فى الحلوى الهارب من العقاب فى نفس الوقت. ولم أكن أتوقع أن يسافر فجأة ونحن فى قلب استعراض حياته فى الطب النفسي، ولم أكن أتوقع أن يكون السفر المفاجئ إلى لندن، فبينه وبين تلك المدينة ذكريات مشحونة عبر مشوار العمر. فقد دخلها لأول مرة فى عام 1959 كطالب بعثة. وكان بردها فى تلك الأيام فوق طاقة الاحتمال ، لكنه كان مسلحا يومها ببلوفر شغلته بيديها والدته سنية هانم ، وظلت وصيتها له موجودة دائما « حاسب على نفسك من البرد « يومها قال ثروت عكاشة لشقيقه أحمد « أنت الابن الوحيد الذى تربى على وسائد من الحنان العلنى . لم يُخف والدك أو والدتك الحنان عنك يا احمد كما فعلوا مع بقية أخوتك . « كان أحمد يعلم أن ثروت يذكره بأن الحنان لا يجب أن يلغى الانضباط الداخلى الذى تشربه من أسلوب حياة العائلة . وكانت فكرة «العائلة» فى المجتمع الصينى هى السبب فى سفر د. أحمد إلى لندن ، حيث أثير أمام الجمعية العالمية للطب النفسى قضية من نوع غريب وهى شكوى مقدمة من جمعيتى الأطباء النفسيين فى الولاياتالمتحدة وإنجلترا ضد الصين ، وطلبت الجمعيتان فصل جمعية أطباء النفس الصينية من عضوية الجمعية العالمية للطب النفسى ، لأنها تتآمر وتتعاون مع حكومة الصين فى وضع العديد من أبناء طائفة «الفالون جونج «داخل المصحات العقلية . وطائفة «الفالون كونج «هى فئة من البوذيين الذين يؤمنون بالتأمل وتمارين اليوجا بالتحكم فى الجسد وعلاج كافة جراح الروح التى تنتج أمراض الجسد ، وعددهم يصل إلى ثمانين مليون إنسان فى الصين ، وقد قامت الحكومة الصينية بتجريم هذه الجماعة ، لأنها كانت فى رأى الحكومة الصينية تنشر نوعا من السلوك الذى لا يرتضيه الحزب الشيوعى الصينى . ويراه مدمرا لروح الصين الثورية. وبطبيعة الحال، علينا أن نعلم أن هناك صراعا سياسيا دفينا يجرى بين الصين وبين الولاياتالمتحدة وإنجلترا ، فإنجلترا هى التى كانت تستعمر الصين قديما ،وهى التى أغرقتها فى إدمان الأفيون ، وأمريكا تتلفت حولها وفى داخلها حاليا فتجد أن أغلب المصنوعات والمنسوجات والأشياء المستعملة فى اليوم العادى مصنوعة فى الصين، لدرجة أنى أطلقت فكاهة بعد زيارة للولايات المتحدة قلت فيها « مكتوب على قفا رئيس جمهورية أمريكا أنه مصنوع فى الصين خصوصا بعد أن وضع أسس زلزلة الشرق الأوسط بواسطة الربيع العربى ؛ فأثبت له المصريون بالثلاثين من يونيو فشل ما صنع « وطبعا كان فى ذاكرتى ما قاله رئيس الصين ذات يوم فى زيارة للولايات المتحدة « أنا أبيع لك الحذاء الكاوتشوك بدولارين ، وأنت تبيعه للمواطن الأمريكى بمائة دولار ، فقل لى من الذى يكسب من الآخر ؟ « ولم يجب رئيس الولاياتالمتحدة ، لأنه يعلم أن بضائع الصين صارت تنافس أى بضاعة مصنوعة خارج الصين، وتحرص الحكومة الصينية على جودة البضائع المسافرة إلى أوروبا وأمريكا ؛ عكس البضائع التى يتم تصديرها للبلاد العربية . هناك أكثر من محاولة من كل من الدولتين أمريكا وإنجلترا للنفاذ إلى قلب الصين بواسطة معرفة خطاياها ، ومحاولة استغلال تلك الخطايا فى زعزعة هذا العملاق الاقتصادى الزاحف بقوة ليكتسح العالم عن طريق البضائع الجيدة والمتميزة ، مما يقتل فرص المنتجين العاديين فى بقية بلدان العالم . فكل حذاء يصنع فى الصين، تضيع فرصة عمل لدى أمريكي، أو لدى إنجليزى أو لدى إيطالى لأن التجار لا ينظرون إلى بلادهم وعدد العاملين فيها، قدر ما ينظرون إلى جودة الصناعة وسعرها، وكمية المباع منها. وكل ذلك يؤدى إلى انخفاض فى سعر أسهم الشركات وأرباحها ، ويؤثر فى عدد العاملين فى أى بلد يعتمد سوقه على البضائع المستوردة على الرغم من أن الصين تفتح أبوابها على مهل بما لا يضر اقتصادها . ومن خطايا الصين الشهيرة، هى عدم احترام العقائد الدينية أصيلة الوجود فى الصين ، فمنذ سنوات ضيقت منافذ الحياة على البوذيين ، واحتلت هضبة التبت التى كان يسكنها الدالاى لاما ، هذا الذى هرب منها ليعيش فى أوروبا وأمريكا . ولعل أكبر ما حاولت حكومة الصين أن تقتلعه من قلب التقاليد الصينية هى فكرة الولاء للعائلة . هذا الولاء الذى تزعمته حركة روحية فى الصين ، فقامت الحكومة الصينية بالتضييق على طائفة»الفالون جونج « التى تطالب بحق ممارسة الطقوس الخاصة بها ، التى تؤكد أن أرواح الأسلاف لن تستقر إلا بعودة قيم العائلة ، فاستقرار أرواح الأسلاف هو القادر على أن ينشر ربيع الاطمئنان على أبناء الصين. ولم ينتبه أحد من أعضاء الحزب الشيوعى الصينى إلى قيمة الأسلاف ، لأنهم لا يريدون أن يعلنوا الاختلاف الواضح مع ثورة ماو الشيوعية ، وإن آمنوا بأن من حق المواطن الصينى أن يمتلك شيئا من أدوات الإنتاج وينتج شيئا يخصه ، وعادت الملكية الفردية تطفو على سطح الحياة اليومية ، ومنذ أن مات ماوتسى تونج الذى أسس الصين الحديثة منذ عام 1948 بثورة هائلة أكلت من أمامها كل أعدائها ، واتبعت نظاما صارما فى الانتاج بما يحقق ثلاث وجبات لكل فرد صينى ، وما ان بدأت الصين عصر الإنتاج الكثيف ، وزحفت الشيخوخة على ماوتسى تونج حتى غرق هو فى الاستمتاع مع فتيات صغيرات كما اعترف طبيبه ، وقامت ثورة داخلية أزاحت فيها قيادة الحزب الشيوعى زوجة الرئيس الراحل ماو من قمة السلطة وخرجت الصحف الصينية بصور الملابس الداخلية لزوجة ماو وهى ملابس حريرية مصنوعة فى باريس وكانت زوجة ماو ترتديها فى السر ، وتخبئها تحت البدلة الخشنة التى كان يرتديها الرجال والنساء فى كل الصين ، ومنذ أن خرجت صور تلك الملابس فى الصحف الصينية حتى عم الصين كلها أمل فى أن يصنعوا لأنفسهم حياة عادية فيها ملابس حريرية، وبعضا من الحياة الناعمة بدلا من الحياة الخشنة التى كان يفرضها الحزب الشيوعى على كل سكان الصين . ومع تقدم الحياة الناعمة ، بدأ الأهل يدللون الابن الواحد المسموح بإنجابه ، وكانت النتيجة أن الابن الواحد فى كل أسرة نشأ فى جو أسرى يكره ألا يرضخ له الجميع، ولذلك طالب بأن يكون له رأى فى أسلوب حكم الصين ، فقام الطلبة بثورة سميت ثورة الميدان السماوى ، وهتف آلاف الطلبة ضد الاستبداد ، فدهست الدبابات المتظاهرين ، وبقى هذا اليوم فى ذاكرة الولاياتالمتحدة وإنجلترا كفرصة لمعايرة الصين بأنها لا تحترم حقوق الإنسان . ثم جاءت الجماعة القديمة «الفالون كونج» لتعلن عن رغبتها فى ممارسة طقوسها الدينية من التأمل كطريق للاتصال بالأسلاف . وهى الكلمة التى كانت تنكرها الدولة ، على الرغم من أنها عصب الحياة فى جنوب شرق آسيا كله بدءا من اليابان إلى كوريا إلى تايوان إلى هونج كونج . فالأسلاف الذين يركع لهم أى بوذى ، ليسوا آلهة بالمعنى المتعارف عليه فى الأديان السماوية ، ولكنهم عطر الخبرة التى يجب أن يحترمها أى إنسان يعيش الحاضر .فالإنسان فى جنوب شرق أسيا يقدس حياة العائلة ، ويحترم شيوخها، ويفرض على ابن العاشرة أن يستيقظ قبل والده ووالدته ، ويدق باب غرفة نومهما ويسألهما « هل قضيا ليلة سعيدة ونوما هادئا ؟ ويشكر فى نفس اللحظة أسلاف الأسلاف لأنهما وفرا له هذا الحق ، حق أن يكون له عائلة .فالعائلة هى كومة من الطين ، تم عجنها بماء السماء ثم ربتت عليها الطبيعة الحنون ، وصنعت منها تمثالا لرجل وآخر لامرأة ، ثم نفخت السماء الروح فى التمثالين ، ليكونا زوجين ، وينجبان الأبناء ، وعلى الكبار تربية الصغار على احترام الحياة ، وحين يعمل الرجل وتعمل المرأة ، فالهدف الأول هو خدمة الكبار ، والحصول على رضاهما ، ولا يوجد هناك من يكره الشيخوخة أو يخاف منها فيسميها « مرحلة منتصف العمر كما هو حادث فى الغرب « بل يسميها باسمها الفعلى « الشيخ الحكيم السعيد « والكل يتمنى أن يصل إلى مرحلة الحكمة وأن يورث تلك الحكمة للأبناء . ولكن الحزب الشيوعى أيام اتباعه للأيديولوجيا بحروفها كما فهمها ماوتسى تونج ضرب تقاليد تقديس العائلة فى مقتل ووضع بدلا منها تقديس الدولة، مع أن الدولة عند الصينى العادى هى نظام مطلوب ومكروه ، مطلوب لأنه ينظم الحياة الاجتماعية الشاملة ، ومكروه لأنه لا يضع الكلمة النهائية فى كل الأمور فى يد الأب والأم والعائلة الكبيرة . فقد وضع كونفوشيوس أساس الحياة الصينية على لبنة واحدة هى «العائلة « ، وليس ركوع الصينى أمام مستطيل من الخشب مكتوب عليه أسماء أجداده نوعا من الوثنية ، بل هو احترام لمن كانوا سببا فى وجوده . كان الحزب الشيوعى يتحسب لبزوغ تلك النزعات القديمة خوفا على بنيان الصين الحديثة من أن يتسرب لها الوهن القديم ، حيث تعلو عائلة الفرد على الدولة فتتفكك الصين من جديد. ولذلك كانت الدولة الصينية شديدة القسوة فى مطاردة من تقول عليهم أصحاب الأفكار التقليدية . وقيل ان جمعية الأطباء النفسيين تساعد الحكومة فى وضع المعارضين لها فى المصحات العقلية، لينظر إليهم كمجانين . ومن أجل ذلك تم عقد اجتماع عاجل للجمعية العالمية للطب النفسى فى يوكوهاماباليابان ، للنظر فى الشكوى ، وسبق للجمعية العالمية أن طلبت تقريرا عن المرض النفسى الذى يعانى منه مئات من طائفة الفالون جونج ، وكانت جمعية أطباء نفس الصين متعاونة لأقصى حد ، فأرسلت تقارير علمية وافية مع ملف كامل لحالة كل مريض وتطور مرضه ، وهكذا وضعت الجمعية الصينية أول خطوة فى تحقيق نقاء سمعتها من التدليس السياسى ، وهى التهمة التى سبق أن وُجهت للأطباء النفسيين فى الاتحاد السوفيتى قبل أن تسقط الدولة السوفيتية ، وقد استقالت الجمعية النفسية السوفيتية من الجمعية العالمية للطب النفسى بدلا من أن تتعرض للطرد ، فقد ثبت عليها بالفعل أنها قامت بوضع عدد من المعارضين السياسيين للحزب الشيوعى الروسى داخل المصحات العقلية . وقد حاول بعض من المعارضين المصريين اتهام الرئيس جمال عبد الناصر بأنه وضع بعضا من المعارضين له فى مستشفى العباسية ،و أصدر مجلس الشعب المصرى ذات يوم قرارا بتشكيل لجنة علمية برئاسة د. أحمد عكاشة لبحث هذا الأمر ووجدت اللجنة أن هناك شخص واحد هو السبب فى هذا الاتهام ، وكان هذا الشخص يعانى من حالة ضلالات هائلة وهو الكاتب الكبير والمترجم إسماعيل المهدوى ، وكان يستحق العزل بالفعل ، و كان يجب أن توفر له الدولة فرصة للعلاج فكانت تلك الفرصة فى مستشفى العباسية . وقد تكون سنوات الاعتقال الطويلة هى التى تسببت فى ظهور تلك الضلالات عند إسماعيل المهدوى ، ولكنه قام بترجمة رواية من أهم روايات الكاتب اليونانى العظيم كانزنتكاس بعد أن خرج من المعتقل ، ولم تظهر أعراض البارانويا « اضطراب الاضطهاد» المصحوبة بالفصام إلا بعد مرور عدة سنوات على الخروج من المعتقل. مثله فى ذلك مثل معظم المرضى بالفصام والبارانويا ، حيث تتركز هلاوسهم وضلالاتهم فى شكل أوهام سياسية ، فقد تجد خادمة فى منزل وقد أصيبت بالهلاوس فتتهم رئيس الحكومة أو وزير الداخلية بأنه قام بتركيب كاميرا سرية يتابعها فى كل تحركاتها ، بل ويذيع عبر السى إن إن أخبار ومواعيد دخولها إلى دورة المياه وأيضا مواعيد استحمامها . أو نجد شابا يعانى من الهلاوس فيتخيل أن كارل ماركس ذهب ليستعدى آية الله خومينى ، ويطلب منه أن يصدر فتوى بإهدار دم جورباتشيف لأنه قام بتفكيك الاتحاد السوفيتى . ولأن الكثير من الهلاوس فى اضطراب الاضطهاد والفصام هى هلاوس سياسية ، لذلك صار من الصعب على المجتمعين فى واشنطن من أعضاء الجمعية العالمية للطب النفسى أن يصدروا حكما سريعا فى القضية المعروضة أمامهم ، لأن التقارير العلمية تثبت فعلا أن كثيرا من المحتجزين فى المصحات العقلية الصينية من أفراد طائفة الفالون جونج هم من المرضى بالفعل ، وهو أمر متوقع بين فئة يبلغ تعدادها ثمانين مليون إنسان فى هذا الوقت ، كما أن التأمل الكثيف قد يسبب بعضا من الضلالات ، لأن الإنسان فى التأمل يركز خارج حدود جسده ويفكر فى صور متتابعة ، وقد يتحول التأمل إذا ما زاد على الحد إلى حالة من الهلاوس أو الصرع المؤقت كما يحدث فى حلقات الذكر ، وكما تعانى قلة من أتباع الطرق الصوفية التى يقال فيها أن فلانا رأى الأسلاف من الصحابة أو الأنبياء ، وأنه ظل يكرر ويقرأ نموذجا محددا من الكلمات فاتصل بالقوى الغيبية . وهناك حالة شهيرة لواحد من الضباط الأحرار هو حسن التهامى كان يجلس فى المفاوضات مع إسرائيل ويتكلم مع أشباح ، قال عنهم انهم سيدنا الخضر وعدد من الملائكة . وأدعى ذات مرة أنه قام بتكتيف جمال عبد الناصر ، ولما لم يكن هناك شهود على واقعة التكتيف لذلك سخرمنه الجميع ؛ فلم يعرف عن جمال عبد الناصر الخوف أو الوجل ، لذلك لم يصدق أحد تلك الأقاويل واعتبرت ضمن الهلاوس . ولم يكن أمام د. أحمد عكاشة إلا أن يتذكر قدرته على التجرد وشجاعة اقتحام المخاوف لحظة النظر فى تلك القضية ، وتذكر أيام كان طالبا فى السنة الثانية بكلية الطب وكان أستاذ التشريح هو عالم فاضل اسمه د. البطراوى الذى كان الكل يتحاكى عن قسوته. ويطلب من الطالب أثناء الامتحان أن يحفظ منبع ونهاية ووظيفة كل عضلة فى الجسم. ويرفض أن ينجح الطالب ناقص المعلومات، فالطب ليس مجرد مواد دراسية ، ولكنه صيانة للحياة، وكان الامتحان الشفهى أمام الدكتور البطراوى هو الخوف الرئيسى لكل طلبة السنة الثانية. وحين دخل أحمد عكاشة إلى باب الكلية يوم الامتحان الشفهى ؛ وجد اسمه على قائمة الأسماء التى ستؤدى الامتحان أمام د. البطراوى . ولكن أحمد عكاشة الذى نشأ فى بيت الأب فيه ضابط جيش، يقسو على الأبناء بهدف تعميق الحب؛ و يصقلهم ليتحملوا أثقال الحياة لذلك ابتلع أحمد ريقه وقرر مواجهة الأستاذ بما يخاف منه .وما ان دخل إلى قاعة الامتحان الشفهى أمام الدكتور البطراوى ؛حتى غرق فى العرق الغزير النابع من الخوف ؛فقال أستاذ التشريح للطالب : يبدو أنك عرقان جدا. فقال أحمد عكاشة: أنا مستعد تماما للامتحان. فقال د. البطراوى: يا ابنى أنا لم أقل انك غير مستعد؛ فلماذا كل هذا العرق؟ . قال أحمد:حضرتك تعلم أن أى طالب يرهب تماما الامتحان الشفهى أمامك . وهكذا اقتحم الطالب احمد قلب المشكلة، وأوضح لأستاذه أن الكل قد حذره من قسوة الامتحان أمام د.البطراوى ؛ لأن أسئلته تتوالى لتشمل عضلات الجسم كلها ووظائفها ، ولا يترك فرصة للطالب ؛ فكيف يفكر الطالب؛ ويوجز فى كلمات تشريح كل عضلات الإنسان ، وهو العلم الذى يدرسه الطلبة على مدى عام؟. فطلب الدكتور البطراوى كوبا من الليمون للتلميذ أحمد عكاشه الذى اقتحم دائرة الكهرباء ؛دائرة العلاقة بين طالب الطب وأستاذ الطب. وقال د. البطراوى : أنت أرضيتنى بكلامك هذا ، دعنى أقول لك أننى لست قاسيا ، ولكنى أحرص على أن يتحول العلم إلى خبرة حية عند التلميذ الذى سيصير طبيبا، فليس أمام طالب الطب رفاهية أن ينسى ،أو يهمل . أنت تدرس الآن عبر التشريح جسدا ميتا؛ لتصون حياة الأحياء الآخرين الذين ستلتقى بهم بعد ذلك؛ وهم مرضاك ،لذلك فمهمتك أن تعرف من الآن التفاصيل الدقيقة ، حتى لا تغيب عن بصيرتك سرعة التقدير فى المواقف الصعبة . وبدأ الجو النفسى يهدأ بين الأستاذ الذى فتح بئر حكمته أمام التلميذ ، وبدأت الأسئلة تأتى من الأستاذ ، والإجابات تنساب من التلميذ . ونال أحمد عكاشة الدرجة النهائية فى التشريح . وأعلن له الأستاذ النتيجة فى نفس اللحظة، ليزيده فرحا، وليخرج من الامتحان الشفهى إلى زملائه ليبدد وهم قسوة الدكتور البطراوي.. ** ها هو ذا أحمد عكاشة يوجد فى لندن ليرأس اجتماعا يضم خلاصة عقول أطباء نفس العالم ليواجه اتهاما للجمعية الصينية للطب النفسي، ومضى للسير فى شوارع لها شمس مسروقة من السماء ، وخضرة كثيرة، الرمادى والأخضر يعزفان فى النفس لونا من الهدوء والتوجس والثقة، ففى لندن يمكن للإنسان أن يشرب حضارة سافرت من مصر إلى اليونان ومن الأندلس إلى كل أوروبا ، تطورت أوروبا ، ثم تفككت حضارة الشرق عبر غباء الإمبراطورية العثمانية ، وبقيت للشرق حالة من الزهو القديم ، وعلى العقول الشابة أن تستعيد حق الحضارة. والمفهوم الجديد للحضارة هو أن ينال آثارها وإنجازاتها كل إنسان يحيا على ظهر الأرض ؛ وامتلأ بالرضا حين وصله قبول الجمعية العالمية للطب النفسى لمبدأ تدريب أطباء النفس الصينيين ؛ فقد ثبت عجز الكثيرين منهم على التشخيص الدقيق ؛ ليجيدوا الفصل بين المريض العقلى وبين من يعانى من ضلالات مؤقتة؛ وكاد الرضا النفسى يتطابق مع رضاه النفسى لحظة أن واجه د . بطراوى ، فقد تطابق فى داخله حرص الدكتور بطراوى على جودة التعلم مع حسن استقبال الجمعية الصينية للطب النفسى بأهمية تدريب أطبائها . وصار السؤال الملح: ماذا عن تلك الطائفة وفاعليتها فى تحسين الصحة النفسية لأعضائها خصوصا وان من ينتمون لها فى أنحاء الأرض يتفوقون بشكل او بآخر ؟ لقد اكتسبت تلك الطائفة شعبية واسعة فى العالم الغربى بأسره. فمنذ أن أعلِنت الفالون جونج للعموم من طرف السيد لى هونگ جي، استقطبت عشرات ملايين الأشخاص فى أكثر من 60 بلدًا. وانتشرت فى أغلب المدن الكبرى والجامعات فى الولاياتالمتحدة وكندا وأوروبا. ............................ ومن حسن استقبال الصين للجديد من الحقائق ؛ قبلت قرار د. عكاشة باستقبال عدد من الخبراء للصين لاكتشاف الموقف وتعددت زياراته إلى الصين حتى استطاع مع الجمعية الصينية للطب النفسى تشكيل لجنه لفحص الملفات فى بعض مستشفيات الأمراض العقلية ؛ ففوجئوا بالتشخيص والعلاج الخاطئ لمجموعة الفالون جونج حيث اعتقد الأطباء النفسين أن إيمان هذه المجموعة بهذه الأفكار وان الطاقة الايجابية تنتقل من صاحب هذه الحركة إلى المجموعة من خلال طاقة داخل مؤسس الحركة تكمن فى ست اسطوانات فى صدره وان هذا الاعتقاد هو ضلال بارانويدى مرضى يحتاج إلى العلاج وان سبب ذلك هو قلة الخبرة للأطباء النفسيين الصينيين حيث انه فى هذه الفترة كان الطبيب النفسى يعين بعد خبرة ستة شهور بالمستشفى ؛ وهو ما يشابه مجيء طبيب نفسى أجنبى ويرى أن غالبية الشعب المصرى يؤمنون بوجود الروح الشريرة وطردها بواسطة الزار وطرد الجان بواسطة الأحجبة والاتجاه إلى الاعتقاد بالعمل والسحر ففى مفهوم الأجنبى أن هذه ضلالات واعتقادات خاطئة وهنا المحك فى أنه يجب أخذ النواحى الثقافية والحضارية فى الاعتبار قبل التشخيص لأن ما هو مقبول فى بلدا يحتمل عدم قبوله فى بلد آخر. واستقبلت الصين مجموعة من أساتذة الطب النفسى من الجمعية العالمية للطب النفسى لإعطاء بعض التدريبات فى التشخيص والعلاج والطب الشرعى النفسى حتى يقوم المدربون بتدريب الآخرين وقد نجحت هذه الخطوة فى إعفاء أطباء النفس فى الصين من اتهام بسوء استخدامهم للسياسة فى تشخيص ما هو قناعه ثقافية بأنه ضلال. .................................. كان الفرج قد جاء من مبدأ أسسته الصين الحديثة بأنه ليس مهما لون القط ؛ المهم هو قدرته على صيد الفئران . وهاهى الصين تمتلك جراءة ليقول رئيس الصين لرئيس الولاياتالمتحدة المنتخب « ليس أمامك سوى التعاون معنا « ، وكأنه يهدى الولاياتالمتحدة أصعب الدروس ألا وهو: إن الشرق إذا ما أحسن هضم حضارة الغرب فهو يمتلك إهداء الكون بعضا من الفرج لمشاكل كثيفة متشابكة .