وزير الزراعة يطمئن على حالة مسئول حماية الأراضي بسوهاج بعد الاعتداء عليه خلال حملة إزالة تعديات    إصابة سيناتور كولومبي بطلق ناري في تجمع انتخابي في بوجوتا    هولندا تهزم فنلندا في مستهل مشوارها بتصفيات المونديال    تاه ينضم لبايرن ميونخ للمشاركة في مونديال الأندية    رونالدو ينفي اللعب في كأس العالم للأندية    تفعيل دور خدمة الإغاثة على الطرق ونشر الرادارات لرصد السرعات الجنونية    في ذكرى اغتياله.. المفكر الراحل فرج فودة يتحدث عن الأجواء السامة والأحقاد الدفينة    «الصحة» تُعلن فحص 7 ملايين و909 آلاف طفل ضمن مبادرة رئيس الجمهورية للكشف المبكر    بعد بيان وزارة المالية.. موعد صرف مرتبات شهر يونيو 2025 رسميًا وتفاصيل الزيادة الجديدة    أسعار البيض والفراخ اليوم الأحد 8 يونيو 2025 في أسواق الأقصر    فيديو تقديم زيزو لاعباً فى الأهلى يتجاوز ال29 مليون مشاهدة    سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري الأحد 8-6-2025 بعد آخر انخفاض في البنوك    إصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بشمال سيناء    ثانى أيام التشريق.. الحجاج المتعجلون يغادرون "منى" قبل الغروب بعد الانتهاء من رمي الجمرات    انتشال جثمان غريق ترعة مشروع ناصر غربي الإسكندرية    ترامب ينشر 2000 من أفراد الحرس الوطني للسيطرة على الاضطرابات في لوس أنجلوس    أسرة عبد الحليم حافظ تعلن عن حفل للعندليب بتقنية الهولوجرام في الدار البيضاء بالمغرب    أغاني طربية واستعراضات.. ثقافة جنوب سيناء تحتفل بعيد الأضحى    حكم وجود الممرضة مع الطبيب فى عيادة واحدة دون محْرم فى المدينة والقرى    أسعار البيض اليوم الأحد بالأسواق (موقع رسمي)    السماوى يتوج بكأس الأميرة السمراء بيراميدز يخلع ثوب الطموح ويرتدى رداء الأبطال    بالقانون .. للعامل مثل أجر اليوم الذى عمله في الأعياد الرسمية أو يوم عوضا عنها    وريثات عروش ملكية أوروبية غيرن الصورة النمطية عن حياتهن المخملية مقاتلات برتبة أميرات    استشهاد 11 شخصا وإصابة العشرات في قصف إسرائيلي قرب مركز توزيع مساعدات بغزة    آلاف الإسرائيليين يتظاهرون مطالبين باتفاق تبادل أسرى ووقف الحرب    وفاة شاب في مشاجرة بالأسلحة البيضاء بالمحلة الكبرى    وفاة طفل وإصابة آخر دهستهما سيارة نقل في قنا    عقوبات صارمة للموظف العام المتعدي على أراضي الدولة أو الأملاك العامة    أسعار الدولار اليوم الأحد 8 يونيو 2025    أسعار الأسماك اليوم الأحد 8 يونيو في سوق العبور للجملة    أسما شريف منير تتصدر تريند "جوجل".. لهذا السبب    ريستارت «تامر حسنى»    إسدال ستار سميحة أيوب: وداعًا سيدة المسرح    عائلة نوار البحيرى تعلن موعد تشييع جنازته    3 سنوات حبس وجوبي للزوج المعتدي على زوجته وفقًا لقانون العقوبات    من قلب الحرم.. الحجاج يعايدون أحبتهم برسائل من أطهر بقاع الأرض    النسوية الإسلامية «خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى» السيدة هاجر.. ومناسك الحج "128"    المواجهة الأولي بين رونالدو ويامال .. تعرف علي موعد مباراة البرتغال وإسبانيا بنهائي الأمم الأوروبية    مسؤولون أمريكيون: واشنطن ترى أن رد موسكو على استهداف المطارات لم يأت بعدا    البيت الأبيض: نشر 2000 من أفراد الحرس الوطني وسط احتجاجات لوس أنجلوس    استمرار خروج مصر من القائمة السوداء يعكس التزامًا دوليًا بالإصلاحات    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم..استشاري تغذية يحذر من شوي اللحوم في عيد الأضحى.. أحمد موسى: فيديو تقديم زيزو حقق أرباحًا خيالية للأهلى خلال أقل من 24 ساعة    مصرع طالبة غرقًا فى ترعة بمدينة سوهاج    انقطاع التيار الكهربائي في ضواحي كييف وغارة روسية بصاروخ كروز على أوديسا    زيزو بعد وصوله ميامي: متحمس جدا لخوض كأس العالم للأندية لأول مرة في حياتي    عقرهم كلب.. كواليس إصابة طالبين في مشاجرة داخل سايبر بالعجوزة    زيزو يكشف سر رقم قميصه مع النادي الأهلي.. ويختار اللاعب الأفضل في مصر    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. ثالث أيام العيد    مدير عام "تأمين الغربية" يتفقد مستشفى المجمع الطبي بطنطا في جولة عيد الأضحى    بسبب بكتيريا السالمونيلا.. سحب 1.7 مليون بيضة من الأسواق الأمريكية    الوقت غير مناسب للاستعجال.. حظ برج الدلو اليوم 8 يونيو    البابا تواضروس يناقش أزمة دير سانت كاترين مع بابا الڤاتيكان    إقبال كبير من المواطنين في الدقهلية على الحدائق ثاني أيام عيد الأضحى.. صور    في ذكرى وفاة المشير الجمسي، تعرف على آخر وزير حربية بمصر والمصنف ضمن أبرع 50 شخصية عسكرية بالعالم    في لفتة إنسانية.. الرئيس يطمئن على أحد الأئمة ويكلف بعلاجه فورًا    قد تتحول إلى سموم ..تجنب وضع هذه الأشياء داخل الميكروويف    ما حكم من صلى باتجاه القبلة خطا؟.. أسامة قابيل يجيب    عيد الأضحى 2025.. ما حكم اشتراك المضحي مع صاحب العقيقة في ذبيحة واحدة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحلة الثامنة في حياة طبيب نفسي كبير ولامع
التأرجح بين الحزن الملتهب والفرح الأهوج
نشر في الأهرام اليومي يوم 11 - 11 - 2016

بين ساق الوردة المزدحم بالشوك وبين أوراقها المحملة بالعطر مسافة قد تبدو بسيطة ، ولكن ماذا إن قربت وردة لتشم عطرها فتحولت أوراقها إلى أشواك لا تدمي أنفك فقط ، بل تتسلل إلى وجودك وتتحول إلى معطف من الشوك الذي لا يوخز أنفك فقط ؛
بل يتحول الشوك إلى دوامة تسحبك داخلها لتلقيك على أرجوحة ذات توقيت غريب ، فلعدة ساعات تجد نفسك مكوما في ركن ما من روحك؛ ولتشعر أن جفونك قد صارت شاشة تنقل لك ما يقنعك انك زائد عن حاجة الذين توهمت أنهم يحبونك ، وتنقل لك جفونك مشهدا متتابعا وسريعا ألا وهو سقوطك في بئر جدرانه سكاكين تؤكد لك أن لا أحدا في الكون يهمه أمرك. وما أن تستقر في قاع بئر الحزن بلا سبب؛ ليأتي إليك اختناق ما ، و تتحول سكاكين جدار البئر إلى بساط أحمر كالذي يوضع لاستقبال نجوم المهرجانات الفنية العالمية ولا يسير علي هذا البساط سواك؛ و لتجد كل من حولك يهلل ترحيبا بك ، فتمتلئ بزهو من خاض حروبا كان هو فيها المقاتل الذي هزم كل أعدائه وصار من حقه أن يحتفل الكون به . ولذلك أنت تلقي بالعطايا على من تعرف ومن لا تعرف . وتمر ساعات قد تنام فيها لتستيقظ مهدود الحيل ، ولتقول لنفسك « لقد انتهت نوبة الاضطراب الثنائي القطب ، فتأرجحت بين الكمون الجارح للنفس وبين الفرح المتوهج بانتصارات لم تحدث ، وتتأمل ملامح من أمامك لتجده الطبيب النفسي الذي صحبتك أسرتك إليه؛ لعلها تريحك مما أنت فيه ؛ فيفحصك ويكتب لك قدرا من المثبطات لتلك النوبات المتتالية التي لا تصدق . وحين تدقق النظر في ملامح الطبيب ستجده هو الأستاذ الدكتور أحمد عكاشه الذي قام بتشخيص النوبة التي أصابتك بأنها «اضطراب ثنائي القطب» فانتقلت من حزن جارح إلى فرح عارم، وصار من مهامه أن يعلمك كيف تتوازن مع هذا النوع من الاضطراب.
.............................
يعلم د. أحمد عكاشه منذ سنوات تزيد عن نصف قرن من دراسة خفايا النفس وصلت به إلى رئاسة الجمعية العالمية لأطباء النفس بالكرة الأرضية ، إكتشف عبرها أن المزاج البشري تتحكم فيه عوامل كثيرة ، قد يكون بعضها وراثي وبعضها ابن البيئة الاجتماعية، وعشرات الملايين من الوقائع التي مرت بك منذ الميلاد إلى اللحظة التي بدت فيها تلك العوامل ذات أثر على السلوك اليومي . ولأن هناك قاعدة تقول أن قرابة من أربعه إلى ستة بالمائة من أفراد أي مجتمع قد يجتاحهم الاكتئاب ، لذلك كان حظ المصابين بالاكتئاب اكتشاف أدوية تتعامل مع ما يوجد في غرفة إدارة السلوك المسماة « المخ « وأعني بها « الموصلات العصبية»؛ فالمخ المكون من فصين يختص كل منهما بمهام تختلف عن بعضها, ويفرز موصلات عصبية تصبح هي البيئة التي تدور بها ومن خلالها آلة المخ .بالتأكيد تختلف قدرات كل « مخ « عن الأخر. وهو يتوازن أو يختل حسب الظروف الحياتية المختلفة آو عوامل الوراثة. فإذا أرتبك عمل جزء ما من المخ فالطب النفسي يتدخل ليبحث عن العطب ليعالجه.
أما حين يعيش الإنسان» كافيا خيره وشره» كما يقول المثل العامي ، فحياته تمضي دون منغصات ظاهرة ، وقد يستطيع إدارة أيام عمره بلا حزن على ما فات وبترحيب المؤمن بما تأتي به الأيام والأحداث . وأعترف أنا كاتب هذه السطور بأني لم التق طوال عمري بواحد من هذا الصنف من البشر؛ ولكن صورة الحاج شافعي شيخ بلد قريتنا ظهرت في رأسي الآن مطلة من ذاكرتي؛ هذا الذي استقبلني على محطة القطار في أول زيارة لي للقرية وعمري سبعة عشر عاماً ، فقدم لي فور جلوسنا في دوار القرية علبة سجائر قائلا « واجب الضيافة « ، فهمست في أذنه « تعلم أن الشاب لا يجب أن يدخن أمام الأكبر سنا «. ضحك قائلا « وصلني أنك دخنت في حضرة خالك وأنت تحاسبه على ما أخذه من ميراث والدتك ، فقلت لنفسي سأحمي كرامتي من السخرية التي قد تظهرها تجاهي إن لم يعجبك كلامي .. المهم أن تقدر البلاء قبل وقوعه وليس هناك أكثر وطأة من قلة قيمة الكبير في عيون الشاب الصغير؛ فلتدخن أمامي ومن علبة سجائر أهديتها لك بدلا من يظل تدخينك أمامي نوعا من قلة قيمتي في عيونك « يبقى أن يعلم قارئ سطوري أن الحاج شافعي تزوج للمرة السادسة من شابة في الثلاثين وقت أن كان عمره أربعة وثمانين عاما. وأخذ يضحك بعنف حين تحدث العلماء عن اكتشاف الفياجرا ؛ وكان عمره قد تعدى المائة وأنجب من الزوجة الشابة ثلاثة أبناء كان بهم جميعا عيب في نطق الكلمات, وهو من أودع ثلاث زوجات في قبر واحد ، وما أن أخذ قرص فياجرا واحد حتى نطق بالشهادة وسمع الزوجة التي تصغره وهي تقول « ياخيبتي فيك راجل « وصرحت بذلك أيام العزاء ، فقال لها ابنه الكبير « اعلم أنك غازية جاء بك المرحوم من المولد .. لكن لي أخوة منك وستعيشين معززة مكرمة في بيتك ويصلك مصروف البيت، بشرط إلا تفضحينا أمام من يسوى آو لا يسوى. وطبعا نسيت أن أقول أن الحاج شافعي كان يقوم كل فجر ليلف القرية على قدميه؛ ثم يستحم بالماء الساخن أولا ثم بالماء البارد. ولم يشكو من برد آو حر آو ضغط دم أو ارتفاع في نسبة السكر بالدم . فقط كان يفرط في العلاقة الحميمة مع الزوجة الغازية التي قال عنها « أعادت لي شبابي «. لكن ضاعت الحياة كلها حين أراد استخدام المقويات. وبطبيعة الحال لم يسمح لي أبنه أن أطلب تحويل جثمان هذا الفحل إلى كلية الطب لتشريحه ودراسة مكونات مخه وقدراته. ولما لم يكن لي حق إدارة الأمر؛ لذلك استسلمت لما علمني إياه صديقي الأستاذ الدكتور طارق علي حسن هذا العالم المتخرج من طب القاهرة والحاصل على الدكتوراه من نفس الجامعة التي منحت احمد عكاشه درجة الدكتوراه ؛ جامعة إدنبرة . ود. طارق هو صاحب كتاب في الغدد الصماء يتم تدريسه في كليات الطب المتقدمة من عشرين عاما وحتى كتابة هذه السطور، والذي يثبت فيه أن دراسة الخلية في الجسم الإنساني الميت تحت الميكروسكوب لا تكشف حقيقة الخلية؛ لان الخلية الحية تتصرف وتتشكل حسب وظائف متنوعة. وطبعا خلايا المخ هي الأولى بالدراسة وهو المجال الذي برع فيه احمد عكاشه، فإذا كان عمل خلايا المخ متآزرا ومنسجما ومستجيبا للظروف المختلفة ، هنا يكون المخ غير محتاج لتدخل « ميكانيكي ماهر « من أجل ضبط عمله ، أما إذا كانت ظروف الحياة « مكعبلة « أو أن عطبا ما أصاب أحد وظائف المخ ، هنا يكون دور الطبيب النفسي لإعادة ضبط ميكانيكية هذا المخ.
وتعبير «مبرمج للمخ «ليس من تأليفي بل هو من اختيار أحمد عكاشه لوصف عمل الطبيب النفسي، فهو لا يعترف بأن هناك شيء إسمه الجنون ، على الرغم من أن القانون يقوم بتعريف المجنون بأنه الشخص الذي اعترت قدراته وإرادته ووعيه حالة من الخلل فلا يعرف الصواب من الخطأ. ولكن الطب النفسي يقوم بتعريف المرض النفسي بأنه اضطرابات مصحوبة بأعراض كالقلق والهستريا والوسواس أو الاكتئاب ؛ وتلك مظاهر تتواجد جذورها وأسبابها عند كل البشر بدرجات متفاوتة ؛ ما أن تأتي ظروف مناسبة لوصولها إلى حد تعطيل وإرباك حياة الفرد حتى يتدخل الطبيب النفسي ، والمرض النفسى درجة اقل من درجة المرض العقلي ؛ ولذلك تصنف الأمراض العقلية والأمراض النفسية كوحدة يدرسها المتخصص في الطب النفسي حيث أن النفس هي الوظيفة العليا للمخ، وكل تلك الاضطرابات تظهر عند خلل الظروف المحيطة بالإنسان أو وظائف أعضائه بما يصدر رسالة للمخ « أنتبه ,, هناك خلل» هنا يقوم المخ بإعلان الخلل الذي يعاني منه في شكل الهذيان أو الفصام أو غير ذلك . وهنا أيضا يتدخل الطبيب النفسي ليقوم بتشخيص الحالة ، ويضع المريض تحت مظلة أدوية تعيد التوازن بصورة أو بأخرى لكيمياء المخ ؛ كل مرض حسب نوعيته وشدته، ومدى تقبل المريض للدواء ؛ اللهم إلا في الحالات الشديدة هنا يبدأ التدخل بجلسات تنظيم إيقاع المخ ذات المفعول المؤكد ؛ والتي نلجأ إليها في بعض الحالات الخاصة.
ولكن ماذا عن الإبداع ؟
ما أن تأتي سيرة الإبداع في أي حوار مع احمد عكاشه حتى تطل علينا من سماء الذكريات حوارات دارت مع شقيقه د, ثروت عكاشه هذا الذي قصصت صورته من مجلة التحرير عام 1953 إبان عمله كرئيس لتحريرها كأول إصدار صحفي معبر عن ثورة 23 يوليو وكان إعجابي يملأ وجداني في بداية مراهقتي بآرائه وجولاته الفنية في دنيا الموسيقى الكلاسيكية ولوحات الفنانين العالميين ، واستمرت مناقشة د. أحمد مع د. ثروت في ضرورة تعريب مصطلح في الطب النفسي ليتطابق مع من نحبه سويا وهو ريتشارد فاجنر، هذا الذي بدا ككائن مبدع وضع السلوك الاجتماعي المطلوب على رصيف الإهمال وانفجرت في أعماقه إبداعات تفوق الخيال من موسيقى كلاسيكية أخذت شكل الأوبرات . ولم يكن من اللائق أن يوصف سلوكه بأنه « سيكوباتي « أي بلا ضمير قادر على المحاسبة ؛ فقد كان تمرد فاجنر على السائد من تقاليد تختلف في ظاهرها عن السلوك الفعلي ، فكانت كلمة « وغد « هي المناسبة لوصف تمرد فاجنر على ما بدا له انه مزعج من سلوك النفاق الاجتماعي فبدا سلوكه كتحطيم للمتفق عليه من أخلاقيات زمانه.
ذاكرة احمد عكاشه تحتفظ بساعات كان يدير فيها قطعة من الحديد اللامع المطلة من الجرامافون الكبير الموجود في صالون منزل العائلة بالعباسية ؛ وكان المستمعون هم جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وخالد محيي الدين وعدد من أوائل المنضمين لتنظيم الضباط الأحرار الذين قاموا بتفجير ثورة يوليو 1952. وكانت السيمفونية تتكون من 6-8 اسطوانات يجب تغييرهم يدويا وحتى لا يفقد ثروت وزملائه متعه الإنصات المستمر، كان الطفل احمد عكاشه يغير الاسطوانات ومن ثم كان يستمع وهو في هذا السن الصغير لمدة من 4-5 ساعات إلى الموسيقى الكلاسيكية وكان ثروت لا يبخل بالشرح المستفيض للموسيقى على أحد.
وكانت أوبرات فاجنر وسيمفونيات بيتهوفن هي من الذكريات التي لها ضوء في طفولة وشباب احمد عكاشه وطبعا كان للغناء العربي قصة في تفاصيل أيام احمد عكاشه ؛ عندما أتصل به الفنان محمد عبد الوهاب طالبا زيارة منزلية . وهو الأمر الذي تردد في قبوله احمد عكاشه حيث أن الحالة النفسية تستدعى الفحص خارج المنزل. ولما كان محمد عبد الوهاب يخشى من إصابته بالبرد إذا خرج مساءا لذلك اخذ يلح على أن يزوره احمد عكاشه في المنزل . وتحت ضغوط من أصدقاء مشتركين قبل احمد الدعوة على فنجان شاي مع عبد الوهاب ؛ ليشكو له أن « مشط « قدمه الأيمن أثناء سيره يبدو بطيئا عن مشط قدمه الأيسر. وكان هذا أمرا بسيطا عبر عنه عبد الوهاب بأن إيقاع مشط القدم مختلف عن إيقاع مشط القدم الثاني . وطبعا هذا توصيف لا يخرج إلا من فنان أي أن عبد الوهاب استعمل أذنه الموسيقية في تفسير العرض المرضى. وكان العلاج سهلا ، وأخذها عبد الوهاب فرصة ليشكو من فوبيا الخوف من ركوب الطائرة والخوف من احتمال ضعف السمع والذي كان بمثابة حياته وتم علاج الفنان الكبير من تلك الفوبيا أيضا ؛ خصوصا بعد أن أغلقت اغلب الخطوط الملاحية التي تربط الإسكندرية بمواني البحر المتوسط؛ فصار عبد الوهاب يركب الطائرة دون رهبة مرضية.
ومن بقايا الضحكات من تلك الذكريات قول عبد الوهاب لأحمد عكاشه انه يفضل جمال الصوت عن جمال الوجه، وان الكثير من المعجبات يريدون مقابلته وهو يحاول جاهدا إثنائهم عن ذلك لان لا يرى اجتماع جمال الصوت مع جمال الوجه ولكن أمام إصرارهم يوافق على المقابلة ليصاب بعدها بخيبة الأمل لان الصورة قد اكتملت . ومازلت أذكر قول محمد عبد الوهاب لدكتور احمد عكاشه عندما زرته مع عبد الحليم حافظ ؛ وكان عبد الحليم يتعرض أيامها إلى مطاردة من سيدة عربية لها صوت تزدحم فيه أنوثة خلابة ولكن ما أن رأيناها حتى بدت شديدة الشبه بلوريل شريك هاردي ؛ ضخمة وممتلئة ؛ وأصرت على الزواج الفوري من عبد الحليم الذي تخلص منها بصعوبة هائلة,
ولا انسي أيام خصام النوم لي فيما بعد هزيمة يونيو لان حساسية افتقاد ثلاثة من اقرب الأصدقاء في تلك الحرب كان أمرا أكثر من قاس ؛ فكانت أقراص الموجادون هي الوسيلة التي أنام بها بناء على نصيحة عبد الحليم حافظ ، وعندما نقلت ذلك لأحمد عكاشه ضحك قائلا « هو عبد الحليم مطرب ولا طبيب نفسي .. أنصحك بأن تمارس هواياتك بسماع الموسيقى الكلاسيكية، فالموسيقى واللوحة والرواية هم أدوات ثلاث للعلاج النفسي دون حاجة إلى أقراص؛ لكن لا مانع إن كان الأرق شديدا
أتذكر علو ضحكات د. أحمد لمجرد أني نطقت باسم دواء وصفه لي فنان؛ وقال: تناول المهدئات دون كشف دقيق يصل بالإنسان إلى هاوية لا أتمناها لك .
.............................
قلت للدكتور عكاشه : أنت تذكرني بما سبق ورويته لي أثناء أدائك لامتحان الدكتوراه لطب الأمراض الباطنية بإدنبرة .
.............................
كان الأستاذ الطبيب الكبير المتخصص في الأمراض الباطنية والممتحن يمر مع طلبته في المستشفى الإنجليزي ؛ ويطلب منهم تشخيص الحالات. ولا يعلم أحمد من الذي قال له أن لهذا الأستاذ عين زجاجية ، لأن عينه الأخرى أصيبت برصاصة أثناء العدوان الثلاثي الذي قامت به إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر عام 1956 وأن هذا الأستاذ حين يرى مصريا أو عربيا أو يسمع إجابة خاطئة من طبيب شاب فهو يخرج عينه الزجاجية وينظفها بقطعة من الشامواه يحتفظ بها في جيبه . وكان المرور في المستشفى بهدف معرفة قدرة الطبيب على التشخيص . يتذكر احمد جيدا ما قاله له الأساتذة الكبار أثناء دراسته في طب عين شمس «إن عينك وأذنك وأصابعك هم أهم ثلاث أدوات للتشخيص . فأنت ترى المريض بعيونك لتقيس كل حالته دفعة واحدة ، ولترى على جبين المريض كل آهاته، وقد ينطق بعكسها، لذلك فعلى العيون أن تقيس المسافة بين الواقع والكلمات، وعلى أذنك أن تبحث عن معاني فجوات الصمت بين كلمة وأخرى، وأن تطابق بين ما تراه عيونك وتسمعه أذنك ، ثم من بعد ذلك تقيس أصابعك آلام البطن ودقات القلب، وتفحص حركة الأمعاء ، وقوة الجهاز العصبي للإنسان ، وطوابير المرضى المصريين في العيادات الخارجية لكليات طب مصر المحروسة تهب الطبيب الشاب فرصة هائلة لتعلم سرعة الحدس والمعرفة الدقيقة للمرض «. كان أحمد يتذكر كل ذلك والطبيب الإنجليزي صاحب العين الزجاجية يمر بتلاميذه على أسرة المرضى. و يتوقف الطبيب الإنجليزي أمام حالة ويستدعى من بين التلاميذ الطبيب الشاب أحمد عكاشه ، وكان من السهل على د. عكاشه أن يقوم بتشخيص الحالة بأنها روماتيزم في القلب ، فالتنفس لاهث ،واللغط المعبر عن خلل دقات القلب واضح بالسماعة ، وازرقاق الوجه واصفراره في آن واحد لا تخطئه العين ،والتخدر في الأطراف يتم كشفه بتأخر الاستجابة للوخز الخفيف ، ثم هناك البطيء في النطق ثم الإسراع فيه. وقال أحمد عكاشه : روماتزم في القلب . وفوجئ أحمد عكاشه بالطبيب الإنجليزي وهو يخرج عينه الصناعية من بين جفونه وبدأ تنظيفها بقطعة من جلد الشامواه، فسقط قلب أحمد عكاشه في أقدامه ، لأن هذه هي علامة عدم قبوله للإجابة ، ففكر احمد في تشخيص الحالة مرة أخرى؛ وتأكد أنها روماتيزم في القلب فعلا. وإن لم تعجب الإجابة هذا الأستاذ الإنجليزي فهو حر لكنها الحقيقة التي لا يجب أن يختلف عليها اثنان. والتزم أحمد الصمت. وبعد فترة من صمت الأستاذ أثناء تنظيفه لعينه الزجاجية ، أعاد العين إلى موضعها وقال لأحمد: تشخيصك مضبوط. وجاء ميعاد فنجان الشاي مع الأستاذ. فسأل الأستاذ تلميذه أحمد عكاشه «: لقد ترددت وأنت تكشف وتشخص الحالة لماذا ؟» أجاب أحمد « كنت أريد أن أتأكد من دقة التشخيص ، فقد قيل لي أنك أستاذ صعب جدا ،وقد راجعت نفسي أثناء صمتك لعلي أكتشف هل هناك خطأ في التشخيص ، فلم أجد خصوصا وأنهم قالوا لي أنك حين تخرج عينك الزجاجية وتنظفها ، فهذا يعنى أنك مستاء. وإذا أضفنا لهذا أنهم قالوا لي أيضا أنك لا تحب المصريين؛ لأنك فقدت عينك في حرب 1956، التي وقعت بين إنجلترا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر فهذا يعنى أن هناك نية الخروج عن قسم أبو قراط . وأشك كثيرا أن أستاذا في مثل مكانتك سوف يحيد عن هذا القسم. ضحك الرجل ليعلن لأحمد عكاشه أنه فقد عينه في حادث سيارة ، وأنه لم يزر مصر أبدا؛ وإن كان قد توقف أمام حجر رشيد في المتحف البريطاني كثيرا. وسأل الأستاذ تلميذه: أنت تختلف عن الطلبة العرب في دقة المواعيد ، هل لي أن أعرف السبب؟ قال أحمد : ولماذا يحترف الطلبة العرب التأخر في المواعيد؟ قال الطبيب الكبير: أنت تقابل سؤالي لك بسؤال ؛ونحن لن ندخل معا في مباراة الأسئلة .قال أحمد : من هو مثلى ، يحلم انه قادم إلى إنجلترا وهو وحيد في مواجهة مجتمع راسخ من الانتظام ، وأنا قادم من مجتمع له جذور تمتد إلى حجر رشيد ،وهذا المجتمع يحاول أن يبعث بأبنائه إلى مدن الحضارة ليعودوا بها، ولهذا ستجد الإحساس بالدفاع هو الإحساس الأول النابع من الوحدة في أدنبرة حيث لا توجد صداقة إلا مع الموسيقى، وقليل من الطلبة العرب، والقراءة . قال : ولكن الطلبة العرب ليسوا مثلك ، إنهم يقعون فريسة الشك في النفس بسرعة . يقول أحمد: قد يكون ذلك نابعا من أننا عبر التاريخ القريب نراكم منتصرين دائما؛ ونحن في مرحلة رؤية غالبية ألوان السلوك عندكم كامتياز يجب أن نناله، وفى نفس الوقت نشعر أننا أقل قدرة على أداء حقوق ومسئوليات هذا الامتياز. بالنسبة لي الأمر مختلف ، لا املك انخفاضا في معيار تقدير النفس ، ولا املك ارتفاعا . أمشى على الأرض . أحاول أن أتعلم بسرعة وبعمق لأني أريد أن أعود لبلدي ؛ثم إنني بطبيعتي أشعر أن أي إهانة لآخر هي إهانة لي.وأري في أعماقي تيار الرغبة في أن أعرف وأحتفظ بما عرفته من قواعد علمية كمؤشر على صحة موقفي .
قال الأستاذ: أنت توجز ما قاله الشاعر الأمريكي والت ويتمان عن نفسه في ديوان أوراق العشب. قال أحمد: أنا أملك الديوان لكني لم أقرأه بعد . قال الأستاذ : حين تقرأه ستهزك معانيه لقد رأيت وايتمان يعيش في المسافة بين مهنة الطبيب وخيال الشاعر ، فعيون الطبيب عليها أن تقرأ الصوت الأخرس في أعماق المريض ، وأذن الطبيب لابد أن تكتشف آهات اليأس والألم ، والإحساس بأن هناك اختلال ما سرق من المريض إحساسه بالتوازن ؛ وعلى الطبيب أن يسمع ويلمس الموسيقى الداخلية التي تصل بين النجوم الجميلة، وحياة الأطفال داخل الأرحام. وان يرى الطبيب رحلة تكون أي مرض من علاقات مشوهة وتصرفات حمقاء تافهة، لتصنع آخر الأمر مرضا.
قال أحمد عكاشه لأستاذه : لقد جئت إلى أدنبرة لأتخصص في الطب النفسي. ووجدت أن أمامي مهمة ليست سهلة، لأنها تتطلب دراسة الدكتوراه في الأمراض الباطنية ؛ بجانب الدكتوراه في الطب النفسي،و في البداية ظننت أن في هذا إطالة لمدة الدراسة ، ولكنى قلبت المسألة في رأسي ؛ ووجدت أن هذا هو أسلوبكم في تعليم الطب النفسي ، وقلت لنفسي «ليس هناك من يرغب في إطالة وقت دراستك ، ولكن هذا هو الأسلوب ،ولن يضيرك أن تدرس الأمراض الباطنية، على الأقل لتعرف ما هي الخطوط غير المرئية بين الآهة الصادرة من الألم في المعدة ؛أو بسبب خلاف عاطفي . ولترى بعيونك الشبكة الداخلية من أجهزة يعمل كل منها ككائن مستقل له حياة خاصة جدا ، ولكن هذه الحياة الخاصة جدا لا تنتظم إلا بانتظام الحيوات الخاصة جدا لبقية الأجهزة، فالجهاز الهضمي إن أصابه خلل، فقد يصعب الهضم ، وإن صعب الهضم في المعدة ، فلابد للكبد أن يرتبك . وإن ارتبك الكبد ؛ قد يشكو الجهاز البولي ، وان ارتبك الجهاز البولي، فقد يشكو المصران الغليظ، ولكن أدنى ارتباك في المخ قد يدفع كل هذه الأجهزة إلى الارتباك.» لذلك لابد من الاستفادة مما تقدمه حضارة الغرب على أن تقبل حضارة الغرب التعلم من حضارة الشرق
فهل هذا ممكن ؟
نلتقي بالإجابة في الرحلة التاسعة من حياة الصديق الطبيب احمد عكاشه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.