هل عادت مصر الدولة والمجتمع إلى سياسة اللاسياسة؟ هل هى عودة إلى ظاهرة موت السياسة التاريخية أو السياسة فى الاعتقال التى وسمت عديد امن مراحل تطور الجمهورية التسلطية؟ ما هى مخاطر اللاتسيس فى الفكر والعمل العام؟ بداية نبدأ بالسؤال الأخير السياسة بوصفها قواعد محددة للعبة السياسية وقواعدها التى تنظم التنافس والصراع السياسى على القيم والمصالح، وبين رؤى وبرامج، تفتح الأبواب لاستيعاب الضغوط الاجتماعية، وأشكال الغضب والعنف، وفوائضها وتعيد تصريفها وتوزيعها فى أطر وقنوات سلمية. العمليات السياسية فى الأطر المؤسسية والحزبية، تتيح للنخبة الحاكمة والمعارضة تجديد بنياتها وشبكاتها، وتجعلها قادرة على تجديد رؤاها، واستيعاب المطالب والضغوط، والتكيف مع متغيرات وتحولات الواقع الموضوعى الوطنى والإقليمى والكوني. السياسة تسهم فى تنشيط سلطات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وتنضو عنها ملامح الترهل المؤسسي، وضعف الخيال، وبطء الحركة تحت ثقل بيروقراطية السلطات ومن ثم السياسة تشكل المظلة الوطنية الواسعة التى من خلالها وعبر الفواعل السياسية تنطلق صفارات الإنذار حول الأخطاء والخطايا التى يقارفها بعضهم فى الدولة وسلطاتها وأجهزتها، وهى التى تشكل الإطار الواسع للرقابات المتبادلة بين السلطات بعضها بعضاً، ولا تجعل بعض هذه السلطات يتصور أنه فوق الدستور أو دولة القانون والحق، وأن تجاوزاته ستكون محلاً للمساءلة تحت وهج الشفافية والمحاسبية. السياسة هى التى تؤدى إلى إنتاج مستمر للطبقة السياسية، وتسهم فى تكوينها من خلال الأحزاب السياسية، والفضاء العام، من حيث تكوينها وتشكيل مهاراتها وقدراتها على إدارة المؤسسات السياسية، والأخطر بناء الحس والخيال السياسى والقدرة على التنبؤ بالأزمات، والتعامل الوقائى معها. السياسة هى التى تشكل الرأسمال الخبراتى للسياسى - فى الحزب ومدارس الكادر والجدل العام والبرلمان، والمحليات - وتدريبه على ثقافة رجل الدولة السياسي، وليس البيروقراطى أو التكنوقراطي. بعض القادمين من مصادر بيروقراطية وتكنوقراطية قد يكون لديهم بعضُ المهارات الإدارية والفنية، إلا أنهم يفتقرون للحس والخيال والعقل السياسى الفعال كما شهدنا وعرفنا ولانزال طيلة عديد العقود حتى بعد 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، حيث كشفت المراحل الانتقالية عن ضعف الكفاءة وهزال المهارات وغياب العقل والخيال السياسي، وعدم متابعة ما جرى ولايزال فى التركيب الاجتماعى المصري. السياسة الحية هى معمل فوار بالتجارب والأفكار والإبداعات، وهى التى تسهم بفعالية فى مشاركة المواطن الفرد، والأحزاب، وسلطات الدولة وأجهزتها فى المسئولية السياسية وثقافتها. هذا المدخل حول بداهة السياسة وبعض مزاياها يرمى إلى تبيان مخاطر موت السياسة، أو سياسة اللاسياسة، التى أدت إلى هذا الفراغ الكبير من رجال السياسة والدولة، والتجريف المستمر للكفاءات والمواهب، وصعود أعداد هائلة من المديوكر، والمنيوكر، من التافهين وغير المؤهلين ومنعدمى الكفاءات والمهنية والتخصص فى عديد من مناحى حياتنا، والأخطر تحول التفاهة إلى ثقافة سائدة تجدها غالبة أينما وليت وجهك وناظريك وإذانك!!. من هنا عادت اللاسياسة أو موت السياسة بسبب الضعف الشديد فى الأحزاب السياسية التى تحولت إلى كيانات ورقية لا تتجاوز أسماءها، حيث لا فعالية ولا فكر سياسيا ولا تنظيم، ولا حركة فى الواقع وبين المواطنين والجماهير، حيث أصبحت تبدو وكأنها تعبير عن سكرات موت الأحزاب السياسية فى مصر! من هنا تبدو مخاطر اللاسياسة لصالح البيروقراطية الدولتية وسلطة رجال المال والأعمال التى لا يهمها سوى تعظيم مصالحها ومضارباتها، وسعيها لتحويل البلاد لساحة للاستغلال الاقتصادي، والاستيلاء على المال العام على نحو ما تم فى عهدى السادات ومبارك معاً، والاستثناءات المسئولة فيما بينهم محدودة. ثمة افتقار للرؤى الاقتصادية التنموية التى تزاوج بين مصالحهم وبين مسئولياتهم الاجتماعية تجاه الفئات الأكثر عسراً من الجماهير العريضة، باستثناء بعضُ التبرعات التى تقدم تقرباً من السلطة الحاكمة، أو لتجميل صورهم فى الإعلام المرئى والمكتوب!. إن أخطر المستجدات تتمثل فى صعود الشعبوية اليمينية إلى السلطة فى البيت الأبيض واحتمالات تمددها فى بعض البلدان الأوروبية، وهو ما قد يؤدى إلى توحش المديوكر والمينوكر فى الحياة العامة ولا مبالاتهم باحتياجات الفئات الأكثر فقراً فى هذه المنطقة من العالم، وميلهم إلى مغازلة الشعور الشعبوى الطائفى والعرقى والدينى والمذهبى والذكورى على نحو يؤدى إلى المزيد من القيود على المجال العام، والحريات العامة بدعوى أنهم يدعمون مصالح وسياسات اليمين الشعبوى الأمريكى والأوروبي، ومن ثم يتيح لهم أن يمارسوا سياسة الحديد والنار إزاء الأجيال العربية الجديدة وتوقها للحريات والانطلاق نحو المستقبل. ثمة حاجة موضوعية للحوار الجدى حول ضرورة عودة سياسة الحوار والتنافس والانتقال إلى الديمقراطية والمواطنة والحرية الدينية وحكم القانون الحديث والعادل وتجديد الدولة وسلطاتها وهياكلها، وإصلاح النظم القانونية والإدارية فى إطار رؤى جديدة وإبداعية، لأن الواقع يتغير وسط الأجيال الجديدة التى يجب أن تشارك فى صناعة مستقبلها بفعالية ومن الآن!. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح