للتعرف على آليات تخفيض الآثار الاقتصادية السلبية لتعويم الجنيه وتحرير أسعار الطاقة، علينا أن نجاوب على السؤالين التاليين: أولا، كيف يؤدى التعويم الى رجوع سعر الجنيه الى مستوى قريب لما كان عليه قبل هذا الإجراء؟ ثانيا، كيف نخفض الأثر السلبى لتحريرأسعار الطاقة وتعويم الجنيه على مستوى معيشة المواطنين خاصة منخفضى الدخل؟ بالنسبة للسؤال الأول، علينا أن نتعرف، أولا، على الأسباب الرئيسية التى أدت الى هذا الخفض الكبير للجنيه مقابل الدولار والعملات الأجنبية الأخري، وذلك للقضاء على هذه الأسباب باتباع حزمة من السياسات الاقتصادية المناسبة ليعود سعرالجنيه الى مستوى قريب لما كان عليه قبل التعويم. وتتلخص هذه الأسباب فى حزمة الاستثمارات التى اتبعت، وهى الاستثمارات فى بناء المدن والبنية التحتية، وبالتالى دفع أجور للعمالة التى تم تشغيلها فى هذه المشروعات، مما أدى الى زيادة الطلب الكلى فى الاقتصاد المصرى دون أن يصاحب ذلك زيادة فى العرض من السلع المنتجة محليا. وترتب على ذلك ارتفاع الأسعار لزيادة الطلب عن العرض، وكذلك لزيادة الاستيراد لسد الفجوة بين الطلب والعرض. والنتيجة هى مزيد من الطلب على العملات الأجنبية وزيادة عرض الجنيه، وبالتالى انخفاض سعر الجنيه انخفاضا كبيرا كما رأينا. والمطلوب لرفع قيمة الجنيه الى مستوى قريب لما كان عليه قبل التعويم، هو وضع أولويات للاستثمار بحيث يوجه أساسا الى المشروعات الإنتاجية، كالصناعة والزراعة. فهذا سيؤدى الى زيادة المعروض من الإنتاج المحلى جنبا الى جنب مع زيادة الطلب نتيجة لأجور العمالة التى يتم تشغيلها فى هذه المشروعات. ومن الأولويات المطلوبة فى هذا الصدد هو وضع خطة للتشغيل التدريجى للمصانع المتوقفة والتى تتعدى الألف مصنع ( والبعض يقدر العدد ب 4 آلاف مصنع أو أكثر)، بحيث تكون الأولوية لتشغيل تلك المصانع ذات العمالة الكثيفة، وتلك التى لها قوة دفع الى الخلف (أى تلك التى تستخدم مدخلات انتاج تنتج بالداخل) وتلك التى لها قوة دفع الى الأمام (أى المصانع التى تستخدم انتاج المصنع الذى يتم تشغيله). كذلك الاستثمار فى استصلاح الأراضى الصحراوية وزراعتها، مثل المشروع الذى أعلنه الرئيس السيسى باستصلاح وزراعة مليون ونصف المليون فدان. فهذا من المشروعات الإنتاجية الجيدة التى تؤدى الى زيادة العرض من السلع الزراعية جنبا إلى جنب مع زيادة الطلب فى نفس الوقت بفضل خلق فرص عمل وخلق دخول، مما يخفض من التضخم والطلب على الواردات وبالتالى تخفيض الضغط على الجنيه. وبناء عليه، إذا لم يصاحب سياسة تعويم الجنيه أولويات للاستثمار لزيادة المنتج المحلي، فإنه سيترتب على ذلك استمرار رفع الدولار والعملات الأجنبية الأخرى وخفض قيمة الجنيه حيث إن زيادة الطلب الكلى دون زيادة العرض المحلى سيؤدى الى مزيد من التضخم فى الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى زيادة الطلب على الواردات لسد الفجوة بين الطلب والعرض، مما يؤدى إلى مزيد من رفع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه وبالتالى مزيد من ارتفاع الأسعار بالداخل. وبناء على ما تقدم، فإن سياسات الاستثمار التى أطلقتها حديثا هيئة الاستثمار لجذب استثمارات من الخارج، يجب أن تأخذ فى اعتبارها أولويات الاستثمار فى المنشآت الإنتاجية، وذلك بإعطاء حوافز استثمارية أكبر مثل إعفاءات ضريبية أكبر- للاستثمارات التى توجه لإقامة منشآت إنتاجية، كالمصانع والمزارع، بالمقارنة الى تلك التى توجه الى إقامة مدن ومنازل وبنية تحتية. بالنسبة للسؤال الثانى وهوتخفيض الدعم على الوقود برفع أسعار البنزين والسولار والغاز، وأثر ذلك على المواطنين خاصة منخفضى الدخل، فرغم انه من وجهة نظري، من المطلوب إزالة الدعم على البنزين كلية بصورة تدريجية، بل وجعل سعره للمستهلك يزيد قليلا عن تكلفته لتستخدم هذه الزيادة فى مساعدة الدولة فى دعم السلع التى يحتاج إليها منخفضو الدخل، الا ان تخفيض الدعم عن البنزين كان لابد أن يسبقه إجراءات للمحافظة على مستوى معيشة منخفضى الدخل. وتتمثل هذه الإجراءات فى الإبقاء على دعم الغاز كما هو، أخذا فى الاعتبار انه أقل أنواع الوقود دعما، وإعطاء مهلة مناسبة (4-5 أشهر مثلا) لأصحاب المايكروباص (باعتبارها وسيلة نقل أساسية لمنخفضى الدخل) وعربات نقل السلع (للمحافظة على أسعار السلع للمواطنين) لتحويلها الى غاز، مع إعطائهم قروضا ميسرة لمساعدتهم فى التحول من السولار والبنزين الى الغاز. وبناء على ذلك يطلب من سائقى المايكروباص عدم رفع تعريفة النقل والا يسحب منهم الرخص ويوقفوا عن العمل، وكذلك عدم رفع أسعار التجزئة للخضر والفاكهة كنتيجة لرفع أسعار النقل وإلا يخضع هؤلاء للعقاب المادى وغيره. والآن بعد ارتفاع الأسعار نتيجة لتعويم الجنيه وتخفيض الدعم على البنزين والسولار والغاز مع عدم اتخاذ حزمة من السياسات الملائمة لتخفيض الآثار السلبية لهذه السياسات على مستوى معيشة المواطنين خاصة منخفضى الدخل، ماذا يمكن عمله لإصلاح الوضع بعض الشىء عما هو عليه الآن؟ أولا، لتخفيف أثر تعويم الجنيه على رفع الأسعار، من المطلوب وضع حزمة من السياسات الاقتصادية تعطى أولوية للاستثمار فى القطاعات اللإنتاجية من صناعة وزراعة مع إعطاء أولوية لتشغيل المصانع المتوقفة حيث أنها ستحتاج إلى استثمارات أقل من إقامة مصانع جديدة. ثانيا، بالنسبة للرفع التدريجى لدعم الطاقة، لايخفض الدعم على الغاز مرة أخري، أى يبقى سعره على ما هو عليه الآن، ثم تعطى مهلة لأصحاب المايكروباص وعربات نقل السلع لتحويلها الى غاز قبل اجراء مزيد من التخفيض فى دعم البنزين الى أن يتم الغاؤه كلية، وهو المطلوب. فمن يمتلك حتى سيارة صغيرة يقع فى فئة العشرين الى الخمسة والعشرين فى المئة من السكان الأعلى دخلا، وهؤلاء لا يستحقون دعما لوجود الغالبية من السكان فى مستويات الدخول المنخفضة، وهؤلاء هم مستحقو الدعم. ثالثا، ما وصلنا اليه الآن من تدهور أوضاعنا الاقتصادية انما هو مسئولية حكوماتنا المتعاقبة الى حد كبير. مهما كانت كفاءة الوزراء المختارين فى هذه الحكومات، الا أن كل وزير يكون مشغولا بمشاكل وزارته،وبالتالى تغيب الرؤية الكلية لعلاقات الوزارات ببعضها لتحقيق أهداف اقتصادية على المستوى القومى توضع مسبقا بناء على أولويات محددة من الحكومات. والنتيجة هى ادارة اقتصادنا بطريقة عشوائية. والمطلوب هو إدارة اقتصادنا بأسوب علمى عن طريق اختيار فريق من الخبراء الاقتصاديين على مستوى رفيع علميا، تكون مهمته وضع بدائل لحزم من السياسات الاقتصادية للحكومات فى ضوء الأهداف والأولويات التى تحددها هذه الحكومات. واختيار هذا الفريق من الخبراء لابد أن يتم على أساس علمى فى ضوء الإنتاج العلمى والمستوى الفكرى والتحليلى لكل من أعضائه، وذلك باستخدام شبكة المعلومات ( النت ) وليس بالاعتماد على المعرفة الشخصية أو مكان العمل أو وظيفة الفرد. هذا هو ما يحدث فى الدول التى سبقتنا فى التقدم الاقتصادى والتى تدير اقتصادها بأسلوب علمى عن طريق مجموعة مختارة جيدا من الخبراء (Think Tank). هذاالأسلوب العلمى فى إدارة اقتصادنا هو ما سيحل كثيرا من المشاكل الاقتصادية التى نعانى منها مما يحقق التقدم الاقتصادى لمصر وحماية مستوى معيشة السكان، خاصة منخفضى الدخل، وذلك بصفة مستمرة وليس بصفة مؤقتة لفترات معينة كما يحدث الآن. أستاذ الاقتصاد، جامعة الأزهر لمزيد من مقالات د.كريمة كريم;