«عجيب أمر هذه الموسيقي.. إنها لا تمس شيئاً إلا جعلته صافياً نقياً ، ومن لا يستطيع أن يتجاوب مع الموسيقى فلا قلب بين ضلوعه، حتى عندما يخيم السكون تتردد أصداء الموسيقى فى النفس»، هكذا قال أحد الفلاسفة مؤكدا أن الموسيقى هى أسمى من أن تكون أداة للهو والسرور، كما تتصور الغالبية العظمي، بل إنها تطهير للنفوس وراحة للقلوب، حتى أن كثير من الفلاسفة قد صرخوا يوما من فرط إعجابهم قائلين: أيتها الموسيقى .. إن فى أنغامك الساحرة ما يجعل جميع لغتنا عاجزة قاصرة. هذا هو المفهوم الذى ربما توصل إلى جوهره مبكرا الموسيقار المصرى الهوى والهوية، سورى الجذور «محمد ضياء» ، كما يبدو لنا من موسيقاه وألحانه العذبة الشجية التى تزيد على ال 400 لحنا، وأكثر من 300 توزيعا، غير ألبوماته الموسيقية الخالصة، وعلى رأسها «ذكريات» تلك التى أذهلت عدة عواصم أوروبية حين قدم من خلالها مجموعة من الحفلات الموسيقية، بمصاحبة أوركسترا سيمفونى يعزف منها مجموعة من ألحانه، فضلا عن حوالى 20 أغنية لامست حنجرته على سبيل التجريب وليس الاحتراف - كما يقول - رغم دفئ الصوت وحساسيته المرهفة، مقرونة ببراعة التعبير عن المشاعر التى يستخدمها فى جل ألحانه، لذا تراه نموذجا فريدا فى مزج الشرقى بالغربى فى شغف لا يفسد جوهر الاثنين كما فى موسيقاه التصويرية وأبرزها مسلسل «روبي» الذى لفت الانتباه. وفى تلخيص غير مخل لانعكاس عصر التكنولوجيا على الموسيقى الشرقية أصبحت جملته اللحنية قادرة على صناعة بريق آخاذ وتألق واضح، ما جعله من أكبر وأشهر الملحنين الذين ظهروا فى الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي، حيث قام بألحان أغانى عدد كبير من المطربين، مثل «هانى شاكر و أصالة و صابر الرباعى وعلاء عبد الخالق و إيهاب توقيق وراغب علامة وسميرة سعيد وذكرى وغيرهم الكثيرين، و كان من أبرز ألحانه «غلطة و تخسرى و مجرد وقت» لهانى شاكر، ولأصالة « يامجنون ومابقاش أنا» و أغنية «حتعدي» لإيهاب توقيق، و «مش بالكلام» لراغب علامة، ومازال نهر إبداعه الجمالى يجرى بذات الزخم والبريق فى دماء الأجيال الحالية، كما لمست فى أغنية «ساعات ل «إليسا»، والتى أكدت تربعها على عرش الإحساس بلامنازع، من خلال هذا اللحن المشحون بالعاطفة ورقة المشاعر النابعة من توظيف وترياته الرائعة فى صعوده نحو ذروة الإحساس، وهبوطه نحو قرار يسلمك بخفى حنين إلى واحة من الدفء والحنين. فى كل مرة أدنو من واحة أمانه الموسيقية أراه قابضا على جمر المحبة، عاشقا لكل ألوان الموسيقى الباعثة على البهجة والأمل، شغوفا بصناعة حالة خاصة به وحده، دون غيره وسط ضجيج الفوضى والزحام، وكأنه واحد من أولئك المتصوفة حين يغوص نحو مواطن الشجن التى تقوى على انتشالنا من آثامنا، وتزيح عنا الهموم المثقلة بفعل السياسة وضغوطات الاقتصاد، وتعقد الحياة الاجتماعية، فى ظل زحف يومى لعوامل التعرية بفيض هادر من الاستهلاك تحت فوضى الحرية الجديدة. ربما جاء «ضياء الصغير» بكل هذا الزخم بحكم أن تربى فى مدرسة والده الملحن الكبير، «محمد ضياء الدين الهاشمي»، والذى كان بمثابة ظاهرة لم ولن تتكرر فى عالم الأطفال، فقد تربع على عرش الغناء والتلحين للأطفال فى فترة الستينات وحتى أواخر السبعينات، وهو ما يثبت أن «محمد ضياء جونير» تشرب فى طفولته الأولى جماليات التعبير الموسيقى حين لامس بأنامله الصغيرة ائتلاف حرف الكلمة مع حرف الموسيقى فى عناق وجدانى نحو الوصول إلى قمم المشاعر والأحاسيس فى كثير من ألحانه، إلى حد أن أصبح لديه إيمان راسخ بأن الغناء يعد أكثر الأشكال الفنية قدرة على التأثير فى أفكار الناس، وعلى صياغة واجدانهم وأكثرها التصاقا بهم. ومع ذلك فقد أدرك أن وراثة الموهبة وحدها لاتكفي، بل تظل هنالك ضرورة لدراسة أسس الموسيقى والآلات بمعهد الموسيقى العربية، فى سبيل الوصول إلى صياغات لحنية تعكس ذلك الأثر البالغ للموسيقى فى حياة الناس، ليحقق نبؤة أفلاطون: سيصرخون ضد الغناء وسيغنى الشعب، سيصخرون ضد الموسيقى وسيطرب الشعب، سيصرخون ضد التمثيل وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون وسيملأون الدنيا صراخاً وسترتفع أصوات مكبرات أصواتهم، وستنفجر قنابلهم وتتفرقع رصاصاتهم وسوف يكونون فى النهاية ضحايا كل ما يفعلون وسوف يدفعون الثمن غالياً حين يحتقرهم الجميع ويرفضهم الجميع ويطاردهم الجميع. ومن هنا كانت صرخة «ضياء» مدوية بكل لغات العالم فى أغنية «الحب والسلام» التى كتبها ولحنها وغناها بمشاركة ابنه ثالثوث الموهبة «أحمد» بثلاث لغات « اللاتينية والفرنسية والإنجليزية» قائلا: أحبك أنت أكثر من معني الحب أحب كل شيء فيك أستطيع أن أعيش من غير ملذات الحياة لكن لا أستطيع أن أعيش بدونك فى الحياة تعالى ننسى كل هموم الدنيا تعالى نعلم الناس معني الحب الحب يجعل الناس فى سلام و محبة حيث لا يوجد دمار و حروب وهنا نلحظ أن هذه الغنوة القصيرة جدا أنها تتمتع بقدر من الهدوء المطعم بصخب خفيف باعث على الانطلاق والحرية، كأنما أراد «ضياء» القول بأن الموسيقى ألغت احتمال أن تكون الحياة غلطة، مستندا على عقيدة بسيطة جداً: إن هذه الحياة والفرح والجمال أفضل من الموت المغبر، ومن ثم يجب أن يكون لدى جميعنا القدرة على ابتكار مثل هذه الموسيقي، أو حتى القدرة على سماع مثلها، وهذا ما يستحق أن نحافظ عليه ونحميه دون أن نتركه لمشاحنات الحمقي، وهو ما أكد عليه خبراء علم النفس والتربية بأن الموسيقى الهادئة تساعدك على التفكير فى مشكلة بعكس الموسيقى الصاخبة التى تساعدك على الهرب من المشكلة. أعجبنى قول أحد الفلاسفة : «ميت هو ذلك الذى لا يقلب الطاولة ولا يسمح لنفسه ولو لمرة واحدة فى حياته بالهرب من النصائح المنطقية، ذلك الذى لا يسافر ولا يقرأ ولا يصغى إلى الموسيقي، ذلك الذى لا يقبل مساعدة أحد ويمضى نهاراته متذمراً من سوء حظه، أو من استمرار هطول المطر، فالموسيقى قد تكون يوماً اللغة العالمية للجنس البشري، لأنها ببساطة تعبر عما لا يمكنك قوله ولا تستطيع السكوت، لذا انتهز بين الحين والآخر فلرصة أسمح فيها لنفسى بحق اللجوء إلى الخط اللحنى على سلم موسيقى «ضياء» فإنه يوحى بازدياد الطاقة أو تنامى التوتر أحيانا فى صعوده، وعندما يهبط تدريجيا فإنه يوحى بالإحساس بالارتياح أو الاستقرار، أما عندما يرتفع أو يهبط فجأة فإنه حتما يوحى بحركة شجاعة أو عنيفة، والواقع أن هذه الخاصية الأخيرة تتعلق بمسألة التعبير الجمالى فى موسيقاه الباعثة على الحيوية والنشاط فى إطار عملية غسيل الروح .. تحية للمبدع محمد ضياء الذى كان ومازال سابقا لعصر فى قائمة موسيقى الشرق العربى العظام.