فنان مبدع ومتميز.. استطاع بموسيقاه الخلابة أن يخاطب الجمهور العربى بفئاته المختلفة من المحيط للخليج، فأعماله ترهف المشاعر وتحيى الوجدان بما فيها من عبق وسحر الشرق فى إطار كلاسيكى غربى الطابع جعل مؤلفاته الموسيقية حالة وجدانية بكل ما فيها من عمق وثراء. حيث تتدفق الجمل الموسيقية التعبيرية بهارمونياتها وإيقاعاتها ومقاماتها لتخلق عبارات وفقرات موسيقية تترجم لجمل لحنية غاية فى الرقة والجمال، وكأنها شخص يخاطب داخلك بكل ما فيه من أفراح وأحزان وتناقضات وانفعالات، لكن بما لديها من ملكات إبداعية كأنها طاقة تتفجر بقوة تمنحك شحنات نفسية هائلة.
إنه الموسيقار المتميز عمر خيرت الذى تعلم الفنون الرفيعة منذ صغره والتحق بالكونسيرفتوار ودرس البيانو وعلوم الموسيقى العالمية على أيدى خبراء أجانب أضافوا إليه أصول الموسيقى الكلاسيكية وقواعد التأليف، بجانب أحاسيسه الفطرية لموسيقانا الشرقية التى تربى عليها فى منزل العائلة بشارع خيرت، والتى تمثل ملتقى ثقافيا لكبار الفنانين والأدباء آنذاك، منهم محمود درويش ومحمد حسن ومصطفى رضا وطه حسين، كما يقال إن اللقاء الأول الذى جمع سيدة الغناء العربى أم كلثوم بموسيقار الأجيال عبدالوهاب كان فى منزل جده خيرت، وكان لكل هذا أثر على إضفاء قيم جمالية مضافة لتكوين شخصيته الفنية بل والإنسانية أيضاً.. ونلمح بعض السمات فى موسيقى خيرت الساحرة، ففيها المزج ما بين الشرقى والغربى بأسلوب كتابة سلسة، وإن كان يحكمها التقنيات وفنيات الكتابة الكلاسيكية؛ إلا أن مؤلفاته لها وقع نفسى مميز على السامع فى أى مكان، كما امتلك قدرة غير عادية رغم تعدد أعماله الموسيقية وتنوعها إلا أنها تتسم بشخصيته الفريدة.. ومن أول وهلة تستطيع أن تحدد هذا الانفراد فى موسيقاه، وخاصة تعامله مع آلات الأوركسترا مثل آلات النفخ النحاسية وآلات الإيقاع الغربيةوالشرقية معاً فى جديلة متناسقة تماما، مع المزج بين روح موسيقانا الشرقية والموسيقى الغربية، بالتعامل مع بعض المقامات الشرقية وتوظيفها داخل مؤلفاته ذات الطابع الكلاسيكى. مما يضفى لوناً مبهجاً ومستحدثاً على موسيقانا وبالأخص لوجود هارمونيات بكثرة واستخدام التلوين الصوتى من الآلات المختلفة يبرز طبيعة صوت كل آلة فى منطقة محببة لديه تمتع الجماهير، كذلك آلات النفخ الخشبية التى يلقى عليها دور البطولة أحياناً تزيد من جمال وبريق موسيقاه، ولا يمكن أن نغفل دور آلتى القانون والعود كآلات شرقية ذات طبيعة صوتية لها رنين تنسجم له العواطف وسط الجمع الهائل من باقى آلات الأوركسترا، أما آلة البيانو بما فيها من قدرة على أداء الألحان البوليفونية المتعددة فتسيطر على شكل موسيقاه السلسة والموتيفات القصيرة التى يسهل تكرارها للمتذوق العادى بأدائه التلقائى المبهر.
ولمن لا يعرف الفنان المصرى العبقرى عمر خيرت الذى نفخر به كمصريين، فهو يتميز بهدوء الطباع والقدرة على الإنصات والاستماع، ويتحلى بكاريزما قوية كفنان يكون بؤرة الاهتمام والتركيز، وتشعر كمتلقى بمجرد اعتلائه خشبة المسرح بسطوع الشمس التى لا تغرب إلا فى نهاية الحفل بعد انسحابه فى هدوء يتواءم مع شخصيته، وفى ذات الوقت صخب وتهافت غير طبيعى من الجمهور الحضور الذين سعدوا بموسيقاه وتعايشوا داخلها وتطوقوا بها لعالم آخر هائم فى دنيا الخيال والحب والرومانسية بعيداً عن الواقع بكل ما فيه من آلام، ليكون حفل عمر خيرت بمثابة الخروج من الحالة البائسة التى نعيشها فى المجتمع بكل ما فيها من مدخلات ومخرجات تثير مشاعر القلق لتصبح هى المأوى السيكولوجى الذى يذيب كل الطاقات المشوشة والمهدرة لتتحول لطاقة إيجابية فى نفوس الحاضرين بها قدرة على الإنتاج والإبداع بكل صوره.. وهذه هى الرسالة الحقيقية للفن جوهر الحياة.