لاشك أن الموسيقار الفلسطيني الراحل (سلفادور عرنيطة) أحد العباقرة المجهولين، ربما لعمله طوال حياته في لبنان كرئيس لقسم الموسيقي في الجامعة الأمريكية مضطرا لذلك وتقديم وتأليف أعمال غربية ولتدريسه في المعهد الموسيقي الوطني في بيروت، وطبقا للموسيقار (سليم سحاب) - تلميذه النجيب وزميله الوفي فيما بعد - ولد (سلفادور) بالقدس عام 1919م، التحق بمدرسة اللاتين فكان يهرع إلي البيانو ليعزف عليه لكن المدير كان يمنعه فلا ييأس ويعيد الكرة ثم أصبح عضوا في كورال كنيسة المدرسة، ذات يوم تأخر العازف عن القداس الاحتفالي الذي كان للأرغن دور حيوي فيه، فأخبر (سلفادور) قائد الكورال أنه يستطيع عزف مقطوعة بداية القداس فنظر إلي الفتي ذي العشر سنوات باستخفاف لكن لم يعد بالإمكان التأخير الأمر الذي اضطر القائد - انقاذا للموقف - أن يطلب منه العزف، فعزفها كاملة بجميع عناصرها الهارمونية والبوليفونية فيما عدا اللحن المكتوب لمعزف الأرجل لأن رجليه لم تكونا تصلان إليه بعد. في الحادية عشرة من عمره أصبح العازف المساعد في كنيسة القيامة بالقدس، بعد بضع سنوات سافر إلي إيطاليا للدراسة الأكاديمية علي يد كبار الموسيقيين، درس التأليف وعزف البيانو علي يد المؤلف الشهير (ألفريد كازيللا) بأكاديمية (سانتا نشيتشيليا) بروما كما درس عزف الأرغن علي يد الموسيقار المجيد بكنيسة الفاتيكان (فرناندو جرماني) أفضل عازفي الآلة ثم درس قيادة الاوركسترا علي يد (لاندون رولاند) بلندن وببلوغه الثالثة والعشرين أنهي دراستي التأليف والقيادة، وكان من ضمن دراسة العزف مسابقة الارتجال علي الأرغن حيث حصل علي جائزتها الأولي عام 1936م كذلك حصل علي جائزة الشرف في بلجيكا في العام نفسه كما قدم حوالي مائة حفلة في عواصم العالم. كانت دراسته تتضمن التأليف علي جميع القوالب الموسيقية فأحرز المرتبة الأولي في التأليف حسب المدرسة اللامقامية، في إحدي جولاته الأمريكية بمدينة (بيتسبرج) كانت التقاليد تقتضي أن يقدم ثلاث حفلات وكان علي رأس الاوركسترا قائد يهودي سأله من أين أتي؟ فأجابه (سلفادور): من القدس، فظنه يهوديا، فقدمه في الحفلة الأولي والثانية وعندما علم أنه فلسطيني تغيرت معاملته فمنعه من الحفلة الثالثة وباقي الحفلات التالية. منقذ الموسيقي الفلسطينية (سلفادور) كلمة اسبانية معناها (المنقذ) ولعله أنقذ الموسيقي الفلسطينية من الغرق في المحلية فأسمع العالم الذائقة الرائعة لهذه الموسيقي إضافة إلي تميزه بالتقنية العالية والكاملة في التأليف والتوزيع والتفكير الموسيقي والتطوير اللحني والدرامي والمنطق الموسيقي سواء في الكتابة للبيانو أو الأرغن أو للأوركسترا أو الكورال. فمواهبه الفذة المتعددة صبت كلها تقريبا في تأليف الموسيقي الغربية وفيما عدا الأوبرا لم يترك نوعا إلا وكتب فيه: ثلاث سيمفونيات وأربعة كونشرتوهات للأوركسترا ولكل من البيانو والفلوت والفيولا والأرغن وثلاث متتاليات منها المتتالية الثانية الشرقية وثلاثيات (تريبو) للبيانو (بيانو - كمان - فيولونسيل) ورباعيان وتريان (كمان أول - كمان ثان - فيولا وفيولونسيل) وعشرات القطع منها أعمال كثيرة للكورال بمصاحبة الاوركسترا وللأصوات الفردية بمصاحبة الاوركسترا أو الأرغن، ومن أعظم أعماله الغربية مقطوعة (الساعة السادسة) المكتوبة لصوت الباريتون المنفرد اللبناني (إبراهيم المبيض) (الباريتون هو الصوت المتوسط في مجموعة الأصوات الرجالية الثلاثة وهو بين التينور والباص) مع مصاحبة الاوركسترا، قدمت للمرة الأولي في أوائل الستينات. كما لم يترك قالبا موسيقيا لم يكتب فيه، شكل السوناتا الذي يحتوي علي موضوعين أحدهما رئيسي والثاني ثانوي والصراع الدرامي بينهما الذي يؤدي إلي سيطرة الأساسي، استعمل هذا الشكل في سيمفونياته الثلاث وهو شكل حتمي للسيمفونية ويشكل الحركة الأولي منها عادة. برع في قالب الموضوع والتنويعات أما ميدانه المفضل فقالب الفوجا وهو الأصعب لما يتطلبه من معرفة تامة بالمدرستين البوليفونيتين المعروفتين: * مدرسة الاسلوب الصارم المدسة الفرنسية والإيطالية والهولندية: (أولاندو لاسو) و( باليسترينا) وغيرهما إلي القرن السادس عشر . * مدرسة الأسلوب الحر: (بوكستيهوده) و(فريسكوبالدي) وعلي رأسهم (باخ). اسلوبه الأول في كتابة السمفونية هو أسلوب البوليفونيا بحيث تسمع كل آلة في محلها ولا تسطيع أن تتصور أية آلة أخري مكانها. في التوزيع الآلي استخدم اسلوب (بيتهوفن) المتداخل لتكثيف النسيج الاوركسترالي كما تأثر باسلوب الوتريات عند (تشايكوفسكي)، ولا يقل اسلوبه في الكتابة السيمفونية والتوزيع الاوركسترالي عن اسلوب مؤلفين أوروبيين كبار جدا مثل (دفوجاك) التشيكي وسيمفونيته الشهيرة التاسعة (من العالم الجديد) كما تفوق علي مؤلفين واسعي الشهرة مثل: (سان سانسو) و ( لالو) الفرنسيين فالتوزيع عند (سلفادور) يخدم المادة اللحنية والفكرة الموسيقية وتعميق أبعادها الأستاذ والتلاميذ وكما ألمحنا تتلمذ المايسترو (سليم سحاب) علي (سلفادور) في كونسرفتوار بيروت وكورال الجامعة الأمريكية من العام 1961 إلي 1965 فتعلم أصول النظريات والهارمونيا الغربية وأصول القيادة وارتبط به وبزوجته عازفة البيانو والعالمة الموسيقية (يسري جوهرية عرنيطة) وبوالدها العلامة في تاريخ فلسطين الفني والموسيقي والاجتماعي (واصف جوهرية) وكاتب المرجع الضخم من جزأين "القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية" والذي يصف فيه حياة مدينة القدس الاجتماعية والموسيقية والتاريخية لغاية عام النكبة 1948م وهو موثوق بالصور النادرة وسمحت علاقة الصداقة القوية أن يتعلم (سحاب) الكثير بل وفيما بعد أن يساعد (سحاب) (سلفادور) خاصة في مجال الموسيقي العربية، فكان يعرض علي (سحاب)الجمل الموسيقية العربية الموزعة علي البيانو قبل أن يوزعها أوركستراليا ويثبتها نهائيا في نسيج العمل كذلك شجعه (سحاب) علي تقديم مقطوعة "الجرتو باستورالي" لمبارة التأليف لأنه كان خائفا من مقطع الحجاز كار وكان رأي (سحاب) أن هذا المقطع بالذات سيسبب نجاح المقطوعة وقد كان. من ناحية يشدد(سحاب) علي العودة إلي التراث واستخراج كنوزه وطباعة كتب تهتم بالمقامات والايقاعات العربية بدلا من توهم تخلف الموسيقي العربية وتقدم الغربية، وهو يختلف عن (سلفادور) في عدم انبهاره بالموسيقي الغربية بل رحل من موسكو إلي طشقند ومن اثينا إلي اليابان ومن تونس إلي مصر مشاركا ومحاضرا ضمن عروض وندوات علمية عربية ودولية وحمل في أعماقه رسالة العروبة والتراث ونقب في تاريخنا وحضارتنا ليؤكد بالأدلة العلمية علي سبق الكندي والفارابي لباخ بثمانية قرون. تتلمذ علي (سلفادور) أيضا الملحن وقائد الاوركسترا اللبناني (إحسان المنذر) في الكونسرفتوار الوطني (القسم الغربي) عام 1995 لدراسة البيانو والنظريات وبعد دراسة أكاديمية بدأ رحلته الموسيقية في التلحين والقيادة منذ مطلع الثمانينات كما ترأس الدائرة الموسيقية بالاذاعة اللبنانية واحتلت ألحانه وموسيقاه التصويرية المراتب الأولي، يشغل الآن منصب نائب رئيس جمعية المؤلفين وناشري الموسيقي. مؤسس السيمفونية العربية مؤلفاته في الموسيقي العربية نادرة إلا أنها مدرسة كبيرة حققت في التأليف الموسيقي العربي بل إنها أقوي كتابة موسيقية بين جميع من كتب موسيقي من العرب علي طريقة التوزيع الأوركسترالي الغربي ويمكن اعتباره المؤسس الحقيقي لمدرسة الموسيقي القومية العربية السيمفونية، أشهر مؤلفاته "بطاقة هوية" التي رفعت شاعرها "محمود درويش" إلي مصاف أشهر الشعراء، قدم هذه القصيدة لسلفادور مع اقتراحه لتلحينها الكاتب السياسي والناقد الموسيقي والأدبي اللبناني " إلياس سحاب " ولقد كتبت للأوركسترا السيمفوني والباريتون المنفرد والكورال الرباعي المختلط: سوبرانو - ألتو - تينور - باص ، وهي تحفة موسيقية رائدة لعمقها الفكري والانفعالي والوجداني والفلسفي والدرامي في تاريخ الموسيقي وبين كل الكتابات للأوركسترا السيمفوني وغيرها في كل الوطن العربي بالإضافة للحرفية العالمية في استخدام الأوركسترا، قدمت هذه القصيدة في القاهرة عام 1967م وأحدثت دويا هائلا في الأوساط الموسيقية وقدمها مع اوركسترا القاهرة السيمفوني مع كورال الأوبرا المصرية وسوليست باريتون (جربيس بويجيان) وهو مغن أوبرالي لبناني أرمني الأصل، ومادتها الموسيقية غنية جدا بجانب بعض الألحان الشعبية الفلسطينية وتفكير موسيقي شمولي واستخدام مبهر ومتكامل للأوركسترا إلي جانب استخدام طريقة "الليت موتيف" leit motif" أي التيمة القائدة وهي طريقة فكرية اخترعها (فاجنر) وهي عبارة عن رمز لشخص معين أو فكرة معينة تأتي في السياق السردي والدرامي وكان لكل شخصية تيمتها الخاصة في الأوبرا، استعمل (سلفادور) هذه الطريقة الابتكارية ليرمز بالتيمة إلي الكلمة الأولي من جملة: " سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف" وقد استعملها حوالي 20 مرة أما دورها الدرامي فهي ترمز إلي الإصرار علي المقاومة وأوردها علي كل الآلات ولا ينسي الطبيعة الفلسطينية الجميلة عند كلمات "أبي من أسرة المحراث لا من سادة نخب وجدي كان فلاحاً بلا حسب ولا نسب" فيلحن هذا المقطع علي لحن الأغنية الفلكلورية الفلسطينية " ع القهوجي" كما استعمل طريقة الريسيتا تيفو Recitativo وذلك عند كلمات "أنا لا اكره الناس ولا أسطو علي أحد" مستعملا كخلفية موسيقية لها عبارة "لا إله إلا الله" يغنيها الكورال بعد الاستراحة الريفية الجميلة يرجع إلي التوتر الدرامي عند عبارة "ولكني إذا جعت آكل لحم مغتصبي" حيث يتصاعد التوتر إلي ان يصل للذروة عند عبارة "حذرا من جوعي ومن غضبي" يغنيها الكورال بطريقة موزعة بمصاحبة كل الأوركسترا في غاية الإعجاز الموسيقي والدرامي والجمالي إلي ان تتفجر أخيرا عند أخر مرة ترد فيها العبارة كاملة بذورةإنفعالية وجدانية غير مسبوقة في التأليف السيمفوني الأوركسترالي العربي. أول من أدخل التقاسيم العملاقة المؤلف العربي الثاني الكبير هو المتتالية رقم 2 (الشرقية) وساعدته في مقاماتها خاصة المحتوية علي أرباع الصوت زوجته، وهي تتألف من أربعة أقسام: "المقدمة" - رقصة تحمل اسم "الأندلس" - رقصة علي لحن فولكلوري فلسطيني " عاللوز الأخضر" - رقصة تحمل رقم 7 باسم "وثبة". القسم الأول : عبارة عن تقاسيم عملاقة علي الأوركسترا السيمفوني ويبدأ بلحن تعزفه آلات الكورنو (مقام كورد) وهو عبارة عن جزء من لحن "عاللوز الأخضر" الذي يشكل اللحن الأساسي للرقصة الثانية (بين الأندلس ووثبة) يلي ذلك تقاسيم علي آلات النفخ الخشبية علي شكل محاورة مع الوتريات يلي ذلك إعادة لتيمة "عاللوز الأخضر" ومحاورة تقاسيم بين آلات النفخ والوتريات ثم تنويع علي لحن فولكلوري فلسطيني آخر "عالقهوجي" علي مقام العجم ثم يعرض لتيمة رقصة الأندلس يليها تقاسيم علي القانون بعدها يظهر لحن من أشجي ما يمكن عزفه علي آلات النفخ الخشبية ثم يعاد علي الوتريات التي تنقله إلي تقاسيم عملاقة يليه تقاسيم أوركسترالية أخري لمحاورة بين آلات الكورنو والفلوت والأبوا ثم تقاسيم قانون تدخل فيها الوتريات نقرا وتتابع الأوركسترا كلها التقاسيم إلي ان تصل الوتريات لعرض اللحن الأساسي لرقصة الأندلس الأولي، وموضوعها مستعار من مقطوعة (سلفادور) "رقصة بدوية" في هذه الرقصة وفي الرقصتين التاليتين أستعمل أسلوب (تشايكوفكسي) في المعالجة السميفونية، فقبل عرض الموضوع الثاني يطور الموضوع الأساسي إلي ذورته. الرقصة الثانية مبنية علي اللحن الفلكلوري "ع اللوز الأخضر يا عيني" بعد تحويره من مقام البياتي إلي مقام النهاوند لكي يخضع للتوزيع الهارموني والأوركسترالي، وقد اخفي هذا التغيير العنصر الدرامي، جو هذه الرقصة هادئ لوجودها بين رقصتين متوترين الاولي والثالثة وذلك لخلق جو التضاد في الطابع والحركة والسرعة والمزاج. الرقصة الثالثة تبدأ بعرض الإيقاع (المصمودي الصغير) من خلال اللحن المعزوف نقرأ علي اوتار التشلو والباص يأتي بعده مباشرة عرض الموضوع الأساسي علي آلة الأبوا مع مصاحبة بوليفونية علي آلات الفيولا بعد ذلك يأتي التطوير سريعا ليصل للموضوع الأساسي إلي ذروته مع إدخال الأوركسترا كاملا بشكل يعكس عمق التفكير الموسيقي الجدلي وقبل العرض النهائي للموضوع علي كل الأوركسترا بكامل قوتها الصوتية يعطي (سلفادور) دورا منفردا رائعا لآلة الرق مع تنويعات إيقاعية كذلك وبعد العرض النهائي للحن يأتي الرق بجملة إيقاعية من الخافت إلي أقصي قوة لينهي الرقصة بتآلف مفاجئ لكل الأوركسترا أثر كثيرا علي الجمهور في كل الحفلات. كتاب شادي وشادية للأطفال سمي هذا الكتاب علي إسم ابنه (شادي) وابنته (شادية) وهي الآن التي حافظ علي تراث والدها؛ أغاني الاطفال في هذا الكتاب الذي طبع عام 1957م أفضل من 90% من جميع أغاني الطفل طبقا ل (سليم سحاب)، بجانب أنه مرجع منهجي وتربوي مهم وكنز لمن يريد احتراف تعليم الموسيقي للأطفال وهو مكون من ثلاث معزوفات وست عشرة أغنية ويمكننا حسب طابع الأغنيات تقسيمه إلي: قسم شرقي عربي وقسم عام فالاختلاف بينهما في المقامات والتوزيع الهارموني الذي يمتلئ بالتصوير كما أن الأغنيات مقسمة طبقا لموضوعها : أغنيات حيوانات - أعياد - ألعاب - إلي جانب أغنية وطنية "بلادي" وتمثيلية غنائية "الخباز"، كل هذا إلي جانب المادة اللحنية الرائعة. كما كان (سلفادور) اول من ادخل تقاسيم عملاقة أوركستراليا فقد سبقه (ريمسكي كورساكوف) في كتابة تقاسيم فردية في متتالية "شهر زاد" لكن التقاسيم لكل الأوركسترا السيمفوني لم تكن معروفة في الكتابة الاوركسترالية العالمية قبل "سلفادور" الذي استلهمها من أحد أهم عناصر الموسيقي العربية وهو التقاسيم. ومؤخرا قام اوركسترا شباب فلسطين من معهد (إدوارد سعيد) الوطني للموسيقي بتكريم (سلفادور عرنيطة) في برلين وفاء لذكراه بعزف مقطوعة شرقية من أربع حركات ومزيج رائع من الموسيقات الشرقية والكلاسيكية.