كيف لمجتمع أن يحيا بدون الفن؟ قطعاً سوف تصبح الحياة بدون الفن مملة لاتطاق. ولو نظرت من حولك تجد الفن متغلغلاً في كل مناحي الحياة، من أجل أن يجعلها أكثر جمالاً وروعة. وبالفن يعبر الناس عن نبض عواطفهم ويتواصلوا؛ إذ أن الفن وسيلة تتجاوز الأشكال التقليدية للتعبير وللكشف عن الدوافع الخفية. وبالرسم والموسيقى يستمتع الإنسان ويبتهج بالجمال, ويعبر عن شخصيته ويخلق عوالم ساحرة. وقطعاً ليس من المقبول إنكار قيمة الفن في المجتمع؛ لأنه غذاء الروح والمشاعر. ومن لا يدرك كيف يقيم الفن جسوراً للتفاهم بين الثقافات المختلفة، ويلهم الناس بأساليب الإبداع ويساهم فى بناء الثقة بالنفس, فإنه غيرعادل. ومع ذلك نصادف فئة تروج لفتاوى تحريم الغناء ومنع الموسيقى، وكذلك تدعي تحريم رسم هذه الآلات الموسيقية بحجة أنها إقرار بالمنكر. ومن ينكر الفن لا يعي دوره في تجديد الرؤية, وتحقيقه للتوازن النفسي وقدرته على رفع الروح المعنوية، وتأثيره في مجالات البيئة والاقتصاد.
وليس للفنان أن يبدع إلا في مجتمع حر ومتسامح ويتقبل الآخر بلا تعصب. أما أساليب القمع والرقابة التي تتبعها النظم الشمولية فإنها تخنق الإبداع وتهدم الشعور بالذات، وتقطع سبل التواصل الوجداني والثقافي بين أفراد المجتمع بمختلف أطيافه.
ومع ذلك فلا تمنع فتاوى التحريم شعب عريق في حضارته مثل الشعب المصري، من ممارسة الفن؛ لأنه ظل ملازماً له في كل مناحي حياته، كشاهد على استقراره وعلى أصالة ثقافته. ويشهد على ذلك الآثار الفرعونية التي تقدم الدليل على تقدير المصريين للموسيقى والفن، وعلى رقي ذوقهم.
وكان الفلاح المصري يستمع للموسيقى وينشد الأغاني وهو يحرث الأرض ويحصد الزرع, وما يزال. كذلك اعتاد الجلوس تحت ظلال الأشجار وبجوار السواقي يعزف على الناى .وحتى الدواب في الحقل، تحاط رقابها بأطواق مزودة بقطع معدنية تحدث النغمات. وكذلك صاحب الغناء العمال والحرفيين؛ ليواكب حركة العمل بإيقاعات معينة. حتى نسب للإلهة "حتحور" اختراع الموسيقى التي استخدمها "أوزيريس" في مهمته من أجل تمدين العالم.
هكذا اعتاد المصريون الترنم عند شعورهم بالبهجة والمرح, وكذلك أثناء العمل أو في الاحتفالات الدينية. وأظهروا مهارة في صناعة الآلات الموسيقية. أما أساس فكرة الناى فهي النفخ في عمود هوائي, من أعواد الغاب والبوص. ويتنويع الصوت تبعاً لحجم وطول الساق, ولعدد الثقوب في الجدار، وتبعاً لإغلاق الثقوب أو فتحها.
ويعود تاريخ صناعة الآلات الموسيقية في مصر إلى عصر الدولة القديمه. وتوضح ذلك النماذج المحفوظة بالمتاحف العالمية، مثل النايات المصنوعة من الغاب بمتحف "ليدن"، وكذلك النموذج ذو السبعة ثقوب المحفوظ بالمتحف البريطانى. أما في عصرالدولة الوسطى فقد استعمل الموسيقيون القيثارات والمزامير والناي المزدوج. وأقدم صورة للناى الطويل بثقوبه العديدة، وجدت منقوشة على حجر الأردواز, في إحدى مقابر أهرامات الجيزة، ضمن منظر للصيد يعزف فيه ابن آوى على تلك الالة.
ويوضح النقش الجداري بمصطبة الوزير"ميحو" بسقارة (الأسرة السادسة-الدولة القديمة) رعاية النبلاء للموسيقيين, على اعتبارأنها تهئ لأداء الشؤون الدنيوية، مثلما تهئ لممارسة الطقوس الدينية ولمتعة الروح؛ ولذلك تشاهد صور المغنين منقوشة وهم يرتلون ترانيم الأسرار الدينية أو ينشدون القصائد الدنيوية مع العزف الموسيقي والتصفيق بالأيدي، مما يشهد على مدى رقة أحاسيس المصريين في كل العصور. ومعظم هذه الأغاني مكتوبة على أوراق البردى. وتصورالنقوش حركة اليد التي تضمن وحدة الإيقاع. أما طول الناي في النقش، فإنه يشير إلى نوع الموسيقى الهادئة والجليلة.
ويظهر في نقش مصطبة "ميحو" نموذج الناي الذي ظل متوارثا لليوم, بثقوبه وبإسلوب استعماله. كذلك ظهر استخدام إشارات اليد الخاصة بالغناء, وكذلك وضع كف يد المغنى خلف صوان الأذن، وعلى الخد لتكبير الصوت وللإحساس بالرنين، وتترجم يد المغنى التعبيرعن شعوره ومقدار تأثره باللحن، كما أنها تسعف بتذكر اللحن. وفى الحقيقة كان لحركة يد المغنى في الموسيقى المصرية القديمة أهميتها، حتى أصبحت بديلاً عن التدوين الموسيقى وكتابة النوتة، قبل أن تعرفها أوروبا بآلاف السنين. أما الغناء باللغة الفرعونية فيعنى "الموسيقى بواسطة اليد".
ويتجلى تناسق الخطوط والألوان في التصميم المترابط للنحت البارز في مصطبة الوزير"ميحو"بسقارة (الدولة القديمة- الأسرة السادسة). ويوحي صفاء الخطوط والألوان فيه بصفاء النغم. ويشعر المتأمل للنقش بموسيقى الناي الشجية, يتردد صداها في فراغ المساحات الواسعة بين الأشكال، وكذلك في تعبيرات الوجوه الهائمة. ومثلما يعود سرجمال الموسيقى إلى تنوع النغم, كذلك يرجع سرجمال الرسم إلى تنوع معانى الخطوط؛ لأنه توجد خطوط رقيقة وأخرى خشنة, وكذلك هناك ألحان مرحة وأخرى حزينة.
ويصاحب عازف الناي في نقش مصطبة "ميحو" إنشاد المغنى. والإحساس بصدى النغم في اللوحة يجعل المرء يعتقد في احتمال سماع الفنان لموسيقى الناي أثناء تنفيذه للنقش لينقل إحساسه بصدق. وقد تسربت بالفعل إيقاعات اللحن وانسابت عبر انحناءات الخطوط وانعطافات الأشكال, فمنحتها طاقتها السحرية. أما اللون المحايد لخلفية اللوحة فيعادل النغمة الموسيقية المتوسطة.
وللخطوط والألوان حركة تستغرق العين لتدركها وتحيط بها زمناً، وبذلك تصبح الفن زمنيا مثل الموسيقى، وتتوثق العلاقة بين الرسم والموسيقى. وإذا كان من الممكن وصف لوحة بأنها غنائية فإن لدى الموسيقيين طموح نحو تعزيز العنصرالوصفى في ألحانهم, رغم أن الوصف من خصائص الرسم. من هنا يرغب الفنان أن يرسم لوحته أو ينحت تمثاله كقطعة موسيقية، وكذلك يرغب الموسيقي في أن يؤلف موسيقاه مثل لوحة فنية.
هكذا يقابل تأثيرالموسيقى على الأذن تأثير اللون على العين. فإذا كان للأحمر حيويته في لوحة العازفات بالمتحف البريطاني (مقبرة نب آمون بطيبة, الدولة الحديثة) فإن للبرتقالي في اللوحة دفئه. أما بهجة الأصفر فيتردد صداها في صوت الناي المزدوج. ويستدعى تتبع الخطوط المحيطية الممتدة بانسيابية أنيقة في رسم لوحة "العازفات" تخيل نغم القيثارات مع الناي المزدوج المنساب بسلاسة. أما التوافق اللوني الذي يضمن وحدة تصميم اللوحة فيشبه المزج بين الأصوات وتكرارات اللحن مع التنويع في الطبقة الصوتية.
وعندما تنفذ الموسيقى بقوالبها المتحررة مباشرة عبر العاطفة والروح, سوف يستلهمها الفنان المصور والمثال؛ ليتجاوز مشكلات التجسيد والسرد والمحاكاة. ويخضع الفنان عمله الفني لمعايير جمالية مثل "التناغم" و"الإيقاع" اللذين هما في الأصل صفات موسيقية.
وكان"هيرودوت" قد ذكر سماعه لأغنيات مصرية شعبية ينشدها اليونانيون . وكذلك شهد"أفلاطون" في كتابة "الجمهورية" برقي الموسيقى المصرية القديمة؛ حيث علمَت العالم أصولها في تطهير النفس، وفي الحض على الفضائل. فكيف تجرؤ فئة متجمدة في تعصبها, على منع سماع الموسيقى أو تحريم رسم الآلات الموسيقية؟ فكأنها تنزع عن شجرة الحياة جذورها، أو كأنها تطفئ نور من أنوارحضارة العالم- الفن. رغم تذكر العالم ما قام به "ابن سينا" في القرن الحادي عشر من إنجاز علمي عظيم، حينما درس أثر الموسيقى على الإنسان، واستخدمها في العلاج النفسي، مثلما استخدم المصريون الموسيقى قديماً بمعبد "أبيدوس"في العلاج بواسطة الترتيل المنغم.
لقد تعمقت جذور الفن في مصرالقديمة، وظل شامخاً يتوارثه الأجيال عبر كل العصور كنوع من التواصل بين الماضي والحاضر. ولأنه يمثل ضرورة إنسانية طبيعية للتعبيرعن الذات وعن المشاعر، ويمثل أحد أشكال الوعي الإنساني. وحينما تعجز لغة الكلام، يصبح الفن وسيلة التفاعل والتواصل الاجتماعى. ولا يزال الفن يشكل جزءاً أساسياً من حياة المصريين. فهل سوف يسمح لدعاة المنع المتعصبين لفكرالتحريم أن يطفئوا نور الحضارة؟ لن يسمح الشعب الذى عشق المدنية .
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه