دائما ما تكون أذن الفنان التشكيلي معتادة سماع الموسيقى في أوقات عمله , كما يسمع المتلقي موسيقى اللوحة من هارمونية الألوان في بعض الأعمال, وربما يكون الفنان رساما وعازفا في آن واحد, فهذان النوعان من الفن مرتبطان ارتباطا وثيقا من قديم الأزل, وفي ضوء النغم والموسيقى تقيم الفنانة الدكتورة نادية التطاوي معرضها الجديد بقاعة الفنون التشكيلية بالأوبرا تحت عنوان "آلة النغم". نادية التطاوي محيط رهام محمود افتتح المعرض شيخ النقاد "كمال الجويلي" رئيس الجمعية المصرية للنقاد, بمشاركة الفنانة فايزة عبد المنعم مدير عام المتاحف والمعارض بدار الأوبرا, ويعتبر هذا المعرض الثالث الشخصي للفنانة في نفس العام على التوالي, والذي تطرقت فيه التطاوي لموضوع جديد ومختلف عن معارضها السابقة لهذا العام وهم "أصداء الجنوب", و"الدراويش", اللذان لقيا احتفاءا كبيرا من المتذوقين والفنانين والنقاد. وقد تعرضت الفنانة لموضوع النغم والموسيقي من خلال خبرتها الكبيرة التي اكتسبتها من ارتياد معظم بلدان العالم, وعملها كوكيل أول وزارة التعاون الدولي سابقا, وبمناسبة هذا المعرض توجهت شبكة الأخبار العربية "محيط" للفنانة وجرى هذا الحوار: محيط: لماذا اخترت هذا الموضوع تحديدا لهذا المعرض؟ د. نادية: عندما قررت إقامة معرض بدار الأوبرا, اخترت موضوع "النغم والموسيقى" بما أن المعرض سيقام في الأوبرا, فإنه سيتعلق بالموسيقى والنواحي الثقافية والفنية التي نتعلق بها, والأوبرا رمز ونموذج للأنشطة الفنية والثقافية. محيط: هل تناولت هذا الموضوع من قبل؟ د. نادية: الموضوع ليس جديدا بالنسبة لي, فأنا تناولت موضوع الموسيقى في منتصف الثمانينات, وموضوع "أصداء الجنوب" النوبة أيضا كان به موسيقى الدفوف والناي وآلات مرتبطة بمجتمع أسوان وأماكن الجنوب "صعيد مصر", فجزء من اهتمامي بموضوع النوبة والجنوب يرجع لاهتمامي بالموسيقى التي يعزفونها, والرقصات الشعبية المتوازنة التي تعبر عن حياتهم وعاداتهم في الأداء اليومي.
فموضوع الموسيقى ليس جديداً, ولكن المعرض ككل يكون محوره الأساسي هو الموسيقى وهذا هو المقصود والجديد.محيط: كم من الوقت استغرقت لإنجاز أعمال المعرض؟ د. نادية: استغرق المعرض مني عملا متواصلا لمدة عامين لكي أنجز خمسين لوحة بأحجام مختلفة من مقاس2متر×2 متر, لأحجام أصغر, كما أن المعرض حصيلة رحلات خارجية, تعرفت بها على الموسيقى والتراث وثقافات مختلف البلدان, لكني ضممت أعمالا رسمتها قبل ذلك تحمل نفس الموضوع, مثل النوبة وموسيقاها والدفوف رسمتها منذ عشرون عاما, فأنا عندي رصيدا من الأعمال الذي احتجته في المعرض, لكي يعطي تنوعا للموضوع. محيط: هل موسيقى البلدان الأخرى يختلف رسمها تبعا لكل منها؟ د. نادية: بالطبع, يوجد في كل دولة موسيقى مميزة مرتبطة بعاداتها وتقاليدها, وآلاتها المختلفة التي تشتهر بها حسب تراثها, وأنا تعرفت على ذلك في بلاد مختلفة في العالم أحسست وتأثرت بها وهذا ما دفعني لرسمها والتعبير عنها. محيط: ما هي البلدان التي استهوتك موسيقاها لتعبر عنها ريشتك؟ د. نادية: يوجد لوحات عن موسيقى النوبة والجنوب والواحات ووجه بحري, ولوحات عن الصوفية والدراويش ذات الموسيقى الصوفية والإنشاد الديني, ومن اللوحات التي تمثل مصر أيضا تجسيد لوحات لبعض الفنانون البارزون قديما منها: موسيقى فريد الأطرش, أسمهان, عبد الوهاب عندما كان في ريعان شبابه, "بمعنى دنيا الفنون" وهي لوحات تعبر عن تاريخ مصر الغنائي. وأيضا لوحات عن الأوبرا عموما, استلهمتها أثناء زياراتي لحفلات العزف للفرق الموسيقية والعروض المتنوعة المقامة بدار الأوبرا التي أثرت بي وجعلتني آخذ أسكتش سريع عند مشاهدتي لتلك العروض, وبعدها أرجع إلى مرسمي لكي أعمل باللوحة بإحساس صادق وطازج الذي عايشته في هذه اللحظة التي سجلتها في نفس اللحظة, محاولة أن تنطق بالنغمة. وفي زياراتي الخارجية, يوجد لوحات عن الموسيقى الأسبانية ممثلة في "الفلامنكو", ولوحات عن موسيقى الولاياتالمتحدة, وموسيقى إيطاليا الرائعة تلك البلد التي تتميز بضبابيتها, ولذلك فهي لوحات تختلف كثيرا عن باقي أعمال المعرض في مجموعتها اللونية التي استخدمتها والتي تظهر بها أيضا هذه الضبابية, تأثرت في إيطاليا بمطربي الأوبرا الجدد الذين اسمعهم باستمرار فعبرت عنهم في لوحاتي. محيط: كيف تعيشين الحالة الفنية عندما تدخلين إلى مرسمك؟ د. نادية: دائما أبث بالمرسم موسيقى من البلد التي ارسمها, فمثلا اسمع موسيقى النوبة عندما أرسم النوبة, وموسيقى إيطاليا عندما أرسم إيطاليا, وهكذا في كل بلد رسمته حتى أعيش الحالة بصدق حقيقي كما سمعته. محيط: رسمت لوحات الموسيقى وكأنك تعزفين على اللوحة, هل لديك تجربة في مجال الموسيقى؟ د. نادية: وأنا في سن صغير كنت أعزف بيانو, وكانت المدرسة التي تعلمني حازمة جدا تعلمني بإخلاص شديد, فأحببت الموسيقى, كما أن والدتي كانت تعزف, ولهذا تأثرت كثيرا بالموسيقى, فكانت أسرتي متذوقة جيدا للموسيقى, ووالدي كان يشتري الاسطوانات مثلا لعبد الوهاب, ويحضرها لكي تتجمع العائلة لسماعها. محيط: اختلف أسلوبك في هذا المعرض عن معارضك السابقة التي تمتعت بألوانك الغزيرة, فما سر هذا التغيير؟ د. نادية: اتجهت قليلا إلى التجريدية, لكي أعطي أعمالي بساطة وراحة نفسية في تناول اللون والمساحات, فكل لوحة لها كيانها المستقل, الذي أصل إليه أثناء تكويني لها باختياري الألوان التي تناسبها في التكوين التشكيلي. وأنا أعتبر أنني وصلت لهذه المرحلة تدريجيا, لأن هذه التجربة استغرقت عامين متواصلين, فالحصيلة الأخيرة هي التي أعطت النقاد الإحساس بهذا التطور, وأنا أدرك تماما كيف تحدث القيمة المضافة في أسلوبي, فهو نفس الأسلوب لكن بطريقة مجردة بشكل أكبر, فأنا استخدم أكثر من أسلوب في أعمالي, وحاليا هذا هو الفن الحديث وهو أن الفنان يستخدم كل ما يخدم اللوحة دون التقيد بمدرسة معينة, بل كل فنان أصبح له أسلوبه والمدرسة الخاصة به. محيط: إذا ما الأقرب لديك الأسلوب التجريدي المبسط, أم التأثيري؟ د. نادية: التجريد هو خطوة أبعد, فلا يستطيع الفنان أن يصل للتجريد إلا بعد فترة طويلة من العمل, كما يحتاج أن يصل إلى مرحلة فلسفية في الأداء, فلا أحد يستطيع أن يأخذ دكتوراه قبل البكالوريوس, والفنان الصادق مع نفسه الذي يريد الوصول إلى القمة لابد أن يمر بجميع المراحل, حتى لو لم يدرس أكاديميا بكليات الفنون فلابد أن يعلم نفسه, ويسافر لبعض البلدان لكي يحتك بالطبيعة مباشرا, ويدرس الأمور على طبيعتها, ولكي يتعرف على ثقافات البلدان المختلفة التي تزيد من خبرته للوصول إلى إنتاج أعمال أعمق وأقوى. فعندما يتواجد الفنان بمكان يحترم الفن التشكيلي, يجعله يثق بنفسه وهذا ما حدث معي, أنني تدرجت من الكلاسيكية إلى التأثيرية, إلى التعبيرية, ثم ظهر أسلوبي الخاص الذي كونته بممارسة الفن التشكيلي بصفة مستمرة ومتصلة, مع إطلاعي والسفر المستمر ومشاهدة المتاحف العالمية, ومعارض الفنانين الرواد بالعالم هذا يشجع الفنان ويوجهه بأن يعمل في اتجاه معين. محيط: من أثر بك وساعدك في بداية طريقك, وكيف وصلتي لأسلوبك الخاص؟ د. نادية: ساعدني الفنان الكبير د.جرانت بيباوي أستاذ بكلية الفنون التطبيقية الذي أشرف على أعمالي ثلاث سنوات في منتصف الثمانينات عندما بدأت أقيم معارض بالألوان الزيتية, شعرت وقتها بأنني لابد أن أتأكد من موهبتي ولذلك ذهبت إليه لكي يقيم أعمالي, وقال وقتها أنني بالفعل فنانة ولا أحد يصنع فنان, بل الفنان هو الذي يصنع نفسه, وقال أنني لي أسلوبي الخاص وضربات ريشة مميزة, ونصحني بالاستمرار ووعدني بملاحظة أعمالي وتوجيهي, وبالفعل ما أفادني هو ثقتي بنفسي بأنني فنانة تشكيلية برأي أستاذ وفنان كبير في كلية الفنون التطبيقية. وفي هذا الوقت أقمت معرض عن الورود بالألوان الباستيل, ولكني لم أصل فيه للاحتراف, بينما وجدت نفسي أكثر في استخدام الألوان الزيتية, تعلمت المنظور, وكيف أوجد عمق باللوحة والظل والضوء وعلاقة الشكل بالخلفية, والخيال, والتكنيك أيضا, فظهر عمق أكبر في أعمالي, فثلاث سنوات مع أستاذ كبير أفادني جدا, وأعطاني خبرة وثقة وثبات كأنني حصلت على شهادة من كلية الفنون فبدون ذلك لكنت تردد. بعدها ظهر أسلوبي الخاص, ومن أول لوحة لهذا الأسلوب علمت بأنني وجدت نفسي, وأنا مازلت محتفظة بهذه اللوحة حتى الآن, ولكي أأكد وقتها هذا الأسلوب رسمت أربعة لوحات في هذا المجال, ومن ذلك الحين وأنا مازلت أعمل, اكتسب خبرة من الممارسة, ساعدتني في تطور أعمالي, استخدم اللون بطريقة مكثفة لكي أحسم وأوجد البعد الثالث. محيط: ما هو رد فعل النقاد عند رؤيتهم معرضك الأخير؟ د. نادية: جميع النقاد قالوا أن المعرض قفزة وانفجار وخطوة كبيرة في تطور أسلوب جديد, وأكد الفنان الرائد عبد الوهاب مرسي أنني صاحبة مدرسة فن الحركة في مصر, وقال أنني استخدم كل إمكانياتي لكي تتحرك اللوحة. محيط: ما هي أقرب اللوحات إلى قلب د. نادية التطاوي؟ د. نادية: لوحة الكمان هي الأقرب إلى قلبي, ولوحة راقصات البالية التي بهر بها الزائرين الأجانب. محيط: ما هي خطواتك القادمة؟ د. نادية: أنا أشترك حاليا في معرض مع سبعة فنانين من دول مختلفة في جاليري "أجورا" بنيويورك, قدمت أعمالي وقبلت دون أي تحيز وسأستمر في تطوير أسلوبي واعمالي, لأن الفنان لايزال في حالة بحث مستمر لا يتوقف. يقول كمال الجويلي شيخ النقاد: " يلفت النظر في إبداعاتها ذلك التناغم اللوني الذي يشبه العزف على مساحة اللوحة, والذي يزداد وضوحا كلما كبرت مساحتها وحيزها الذي يوجه المتلقي ويكاد يطاوله ويحتويه ويلتصق ببصيرته وهو يتأمل أعمالها ويعايشها. هي تندمج في أدائها للعمل الإبداعي, وتترك لروح الفن بداخلها مجالا للانطلاق بضربات فرشاة وسكين حية, وكلما اتسعت مساحات اللوحة وامتدت وكبرت, زادت الأداء حيث يمتزج الشكل واللون بالوجدان في روحانية شفافة, وكأن المساحة الضخمة تثير التحدي وتحرك قوة التعبير.