فى نهاية صيف عام 1969...تحديدا فى الواحد والعشرين من أغسطس استيقظت المحروسة مصر على خبر أصبح حديث البيوت، سرعان ما سرى مثل النار فى الهشيم. ليس مجرد تشبيه، فقد اندلعت النيران فى المسجد الأقصى على يدى أحد المهووسين فى الحادثة الشهيرة التى عرفت فى التاريخ باسم حريق المسجد الأقصى ورأى الناس عبر الصور دخان الحريق، فتصاعد فى الصدور غضب بسبب هذه الإهانة والاستهانة بالمقدسات الدينية والكرامة العربية. لم يكن مجرد حادث عابر مثل غيره من الأخبار التى تقف عند حدود إثارة الرأى العام، فقد اعتبر حادثا تنتفض من أجله الحكومات والشعوب فما بالنا بأهل مصر. فللقدس الشريف و القضية الفلسطينية مكانة لا ينافسها عليها أحد، وكيف لا تكون وهى جزء من الذاكرة الوطنية المصرية تسبق وقائع حرب 1948، وجزء من الشاغل المصرى الذى تفاعل مع القضية الفلسطينية على أنها قضية كرامة واستقلال؟ وليست القدس وحدها، فلدى مصر تاريخ طويل من المشاركة و الالتفات الشديد و التنبه لقضايا المسلمين ووحدتهم. تفاصيل التفاصيل يكفى ما شهده أهل القاهرة عام 1926من مناقشات أشعلت هى الأخرى الصحف وشغلت الأقلام حين عقد الأزهر الشريف مؤتمرا حضره ممثلون من جميع أرجاء العالم الإسلامى ليناقش بصراحة مصير الوحدة والتضامن بين المسلمين. صحيح أن سنوات طويلة مرت، وأن هناك محاولات ومحاولات منها ما قدمه المفكر الكبير د. عبد الرزاق السنهورى من رؤية غير تقليدية لفكرة الخلافة الإسلامية، وما قام به الرئيس الراحل أنور السادات من طرح لفكرة التضامن الإسلامى، إلا أن ذكر هذه الوقائع لا يعنى أنها الوحيدة الخاصة بمصر، وأنها بعدها نفضت يديها و توقفت عن تقديم الجديد من الأفكار والتحذير من العواقب إذا ما تفرقت كلمة المسلمين. جاءت واقعة المسجد الأقصى ليتجدد الجرح ويذكرنا بأنه لابد من مخرج، ولم تكد أيام تمر، حتى جاء سبتمبر بقرار اجتماع للملوك والرؤساء العرب والمسلمين فى العاصمة المغربية الرباط بدعوة ورعاية من الملك الحسن الثانى عاهل المغرب والملك فيصل خادم الحرمين وبحضور 25 دولة على عقدأول مؤتمر منظم لمناقشة حال المسلمين، فكان ميلاد كيان جديد حمل اسم «منظمة المؤتمر الإسلامى». وهكذا وجدت مصر ضالتها الدبلوماسية والسياسية، و تفاعلت كدولة مؤسسة، فلم تنظر إلى المنظمة الوليدة التى اختير لها الماليزى تنكو عبد الرحمن أول أمين عام على أنها مجرد كيان كارتونى أو مجال لتحرك دبلوماسى يحسب لها فقط فى المحافل الدولية. فبحكم التاريخ و الجغرافيا، تظل الفكرة الأساسية وإن اتخذت أهدافا سياسية هى تحرير القدس، وأما المبدأ المهم الآخر فكان قضية استمرار وحياة، وكيف لا يكون وهى قضية تحضر المسلمين. ولكى نفهم هذه القضية وذكرنا لمسيرة منظمة المؤتمر الأسلامى لابد وأن نتعرف على ما قدمه بر مصر. نعود بالزمن إلى الوراء ونقرأ ما كتبه العالم والمؤرخ جوستاف لوبون من وجود حضارة تسيطر منذ اثنى عشر قرنا، على الأقطار الممتدة من شواطئ المحيط الأطلنطى إلى المحيط الهندى، ومن شواطئ البحر المتوسط إلى رمال إفريقيا. هؤلاء جميعا أبناء هذه الحضارة، و إن تحدثوا لغة واحدة و انتمى كثير منهم إلى ديانة واحدة إلا أنهم يختلفون فى تفصيلات ما يمكن أن يقدمونه لحضارة الإسلام . تفهم أهل مصر صاحبة التفاصيل الحضارية المتفردة أن حضارة الإسلام لا تعنى فقط قراءة علوم الفقه والتفسير، فقد جاء الدين الحنيف لينطلق بالناس من رق الجاهلية والظن والخرافة، وليمنح العقل أقصى قدراته بفتح الآفاق بالقراءة والتحصيل والتجريب وقبول الآخر والتفاهم والفهم. لا وساطة بين الإنسان وربه، ولا خوف على عقل يتعلم ويؤمن بتعمير الأرض، وإفشاء السلام وإشاعة الطمأنينة. دخل الإسلام مصر من باب الحكمة والبساطة، والفهم العميق للتجارب التى تحملها الليالى والأيام. فالدين الحنيف لا يتنافى مع تعبير المصريين الصريح عن وعيهم الذى نبت مع ظهور أول عود أخضر فى بر البلاد. لهذا لم يعرف أهل البلاد تلك الأزمات التى عرفتها بلاد أخرى و الخاصة باللغة والهوية، فاللغة العربية على سبيل المثال واجهت مأزقا فى بعض البلاد التى كانت تتحدثها ثم عادت إلى لسانها ولغتها الأصلية. أما فى بر مصر, فقد أصبحت لغة المصريين الذين لم يشهدوا مأزق الخلاف مع الفاتحين المسلمين، أو قصص خلاف بين بعضهم البعض كما يشير د. حسين مؤنس فى موسوعته «تاريخ الحضارة المصرية». ولهذا كان من اليسير على علماء المسلمين أن يفدوا إلى أرضها ويقدموا أفضل ما عندهم وسط تلك الطمأنينة التى تعرفها البيوت المصرية. قدم ابن الهيثم أكبر عالم فيزيقى مسلم أفضل مؤلفاته التى قاربت المائتين فى مصر، وتوصل إلى فكرة الكاميرا واستفادت أوروبا لسنوات طويلة من فكره المتقدم الذى اختصر لحضارتها عشرات السنين. كتب الإمام الشافعى والإمام الليث أفضل رؤى وتحقيق وتفسير فيما يخص الفتاوى التى كانت تعتمد الأسلوب المصرى السمح السهل. أما ابن خلدون فقد شهدت مصر أكبر تجاربه، و تبلورعلى أرضها علم الاجتماع، و قارئ سيرته الذاتية يمكنه ببساطة أن يلحظ أن حياته -كما جاء فى كتاب «سير ذاتية عربية» للكاتب مصطفى نبيل- تنقسم إلى مرحلتين، الأولى قبل وصوله إلى مصر، والثانية بعد وصوله إليها. لم يكن هؤلاء وحدهم، فقد تزاملوا مع علماء مصرين مثل الأصفونى الذى كانت تعرض عليه أصعب المسائل العلمية من الامبراطور فردريك الثانى صديق السلطان الكامل الأيوبى ، و الكيميائى محمد القرقشندى كما يشير د. محمود الحويرى فى مؤلفه «مصر فى العصور الوسطى». توليفة لا توجد فى أى بلد آخر فى الدنيا، تذكرنا بذلك المزاج السائد فى أحياء القاهرة القديمة، الخليفة والحسين والسيدة والخيامين والنحاسين والفحامين والسكرية والسروجية ، فبين أهلها المصرى والمتمصر القادم من الشرق والغرب, وبين أهلها من عاش يتنسم عبير الأصالة ومن جاء فقط باحثا عن الأمان. كانت مصر أرضا خصبة منحت حصادا وفيرا للحضارة الإسلامية التى شارك فيها المسلمون والأقباط، والتى لم تتوقف بوصول مصر إلى زمن آخر، عندما جاء محمد على والى مصر الكبير لتنضج الثمرة من جديد. أصبح لدى مصر 9000 تلميذ فى المدارس حسب إحصائية 1830 بشهادة المؤرخ جورج يانج وعرف المجتمع المصرى أسماء مثقفين وعلماء وأطباء فى قامة المفكر رفاعة الطهطاوى، وإبراهيم النبراوى أمهر الجراحين، والطبيب محمد على البقلى أول مدير لمدرسة القصر العينى، وقائد الأسطول حسن الاسكندرانى أسد البحار، وعلى باشا مبارك مهندس التحديث المصرى، ومحمود باشا الفلكى أكبر علماء الفلك الذى درست الولاياتالمتحدة دروسه فى جامعاتها حتى الستينيات، وغيرهم. كانوا هؤلاء إضافة للحضارة الإسلامية ، فالطهطاوى يقارن بين المجتمع الباريسى والمجتمع القاهرى ويدعو إلى الالتزام بالفريضة الإسلامية من نظر وتفكر وتعلم للوصول إلى درجة مقبولة من الترقى. وعالمنا الكبير محمود باشا الفلكى يربط بين علم الفلك والتراث الإسلامى، ويحدد مولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم ووفاته واستعانة العرب بالتاريخ القمرى، تماما كما يستطيع تحديد الظواهر الفلكية المرتبطة ببناء الأهرامات والتنبؤ بمقدار فيضان النيل. لم تتوقف تماما مثل الفلكى الذى جمع التاريخ القديم بالحديث، استمرت مصر وأعطت لحضارة الإسلام، فالأحداث تتدفق كمياه النيل والتاريخ يصبح فقط تاريخا لغير أهل مصر، أما المصريون فهم أهل فضل يقبل مجتمعهم القريب والبعيد ، المصرى والمتمصر، أهل بحرى وقبلى، أفنديات ومشايخ، فلاحين وعمالا وأطباء و مهندسين. ولهذا تظل قضية المسلمين الحقيقية هى قضية تحضر و تحقق سياسى واقتصادى وليست قضية علاقتهم بالغرب..ومصر قادرة على قيادة المسير على هذا الدرب. فالحضارة الإسلامية لم تمت، ولم تتوقف. صحيح أن غيرها من الحضارات قد هبطت نفس درجات السلم الذى صعدته إلى أن تتوارى، لتصبح أيام صعودها وتألقها مجرد أحداث ضمتها الكتب. ولكن حضارتنا مستمرة منذ أكثر من 1400 عام، هى فقط أبطأت من سرعتها، فى حين انطلقت حضارات أخرى بعد قيام الثورة الصناعية فى أوروبا. إجابة هادئة فى اتزان فنجان القهوة للدكتور أكمل الدين إحسان المصرى المولد والتعليم الذى قد شغل منصب الأمين العام لنفس منظمة التعاون الإسلامى «المؤتمر الإسلامى» حتى عامين مضيا. إجابة يمكن لأهل مصر أن يتفهموها ويفهموها، وليس بسبب هوية المتحدث أو مهنته أو رصيده وتعمقه فى فهم الحياة أو شئون السياسة، فالحقيقة أنه حتى أبسط البسطاء فى الحارات والشوارع فى المحروسة مصر لهم حكمتهم وفهمهم لواقع التحضر والحياة . إجابة تجعلنا دائما نقول ان قضية المسلمين هى العودة لحضارة الإسلام . فمصر هى البلد المفتاح التى تعرف فصل الخطاب وما يعنيه التحضر الحقيقى، وهى التى تنشئ الكيانات السياسية والدبلوماسية. ولا يصح لأحد أن يتجاهلها أو يسخر من بلد تعرف أن أول دروس التحضر حسن التواصل مع الأخرين. فهى أم الدنيا ووسط الدائرة تماما مثل هذه الصورة لشيخ الأزهر وسط تلامذته. بلد تفهم قوله تعالى «إقرأ». ولديها كتابها الخاص فى التحضر.. كتاب مصر المحروسة.