يبدو أنه بالفعل أصعب كتاب فى العالم...ما أقصده بالطبع ليس كتابا فى حجم الإلياذة والأوديسا، أو كتابا شديد التعقيد صدر حديثا فى العلوم أو الرياضيات أو علوم الفضاء. الكتاب الذى نتحدث عنه باختصار شديد هو كتاب التاريخ المقرر على طلبة المدارس والذى يبدو وكأنه غريم لهم لابد من مهادنته لاجتياز امتحان آخر العام. وكثيرة هى الأسباب، فهذا كتاب أجاز لنفسه عدم التوقف أو التمهل عند أى من الأحداث إلا عند نشوب معركة أو حرب يلجأ إلى تحديدها تحديدا دقيقا دون أن نتفهم أو يكون لدينا فهم لأسباب التصعيد أو الخصام إلا من خلال سطور قليلة. أما شكل الحياة فى بر مصر، فهذه قصة أخرى تبتعد فى كثير من الأحيان عن هذا الكتاب وتلزم الصمت، وعلى الراغب فى فهم الملابسات والأوضاع أن يلجأ لكتاب آخر أو يكتفى بما يقرأ. هكذا يبدو الكتاب المقرر وبهذا المنطق بعيدا عن شخصيات صنعت التاريخ الحقيقى وأبلت بلاء حسنا فى معارك الحياة. فنحن حين نتحدث عن الدولة المصرية التى أسسها محمد على باشا لا نشير لشخصيات فى قامة محمود باشا الفلكى الذى استطاع أن يحدد عمر وهندسة الأهرامات، وأن يربط بين الفلك، و التراث الإسلامى وأن يتنبأ بفيضان النيل، وكانت اجتهادته العلمية تنشر ضمن أبحاث أكاديمية العلوم البلجيكية فى القرن التاسع عشر، والأمر يتكرر مع شخصيات فى حجم محمد مظهر باشا مهندس القناطر الخيرية، والجراح محمد على البقلى أول مدير مصرى لمدرسة قصر العينى. وهناك عدم وضوح كبير للحياة فى بر مصر فى العصر القبطى، أما علماء مصر فى العصور الإسلامية وسبق وتحدثنا عنهم كما جاء فى كتاب مصر فى العصور الوسطى للدكتور الحويرى أمثال أبوالحسن على بن يونس المصرى صاحب مرصد المقطم فى العصر الفاطمى، أو قيصر عبد الغنى الأصفونى الذى كان يحل المسائل العلمية التى تعترض الامبراطور فريدريك الثانى فى زمن الدولة الأيوبية، أو شهاب الدين النويرى الذى ألف موسوعة علمية كبيرة فى العصر المملوكى، ورضوان أفندى الفلكى الذى رصد كسوف القمر فى العصر العثمانى ، فهؤلاء جميعا كتب عليهم أن يذهبوا فى غياهب النسيان والا يذكرهم أهل بلدهم. تاريخ المدارس لا يعرف فضلهم، ولا يتجاوز فكرة الظلم والتجمد الذى شهده بر مصر فى نهايات العصر المملوكى وخلال الحكم العثمانى، وكأن البلاد كانت تعانى حالة من الضياع والتشتت أعجزها عن وجود عالم أو كاتب أو مفكر. وحتى فى عصور الفراعنة العظام لم يكن لأهل البلاد نصيب من حديث أو إنجاز إلا فى وجود مسلات ومعابد وأهرامات دون التفات إلى الحياة الهادفة- إن صح التعبير- التى ابتكرها أهل مصر منذ زمن ما قبل الأسرات. فالهدوء والرصانة التى لونت وأبدعت الحياة الاجتماعية فى بر مصر هى التى قررت واجبات الحاكم الفرعون من حراسة الأرض والنيل والزرع ومنح أهلها منحة حضارية جديدة بتضامنه ورعايته لعلماء فى حجم إمحوتب طبيب ومهندس مصر الأول الذى بنى هرم زوسر المدرج. ولهذا كله أصبح الآن لابد من العودة إلى كتب الجبرتى والرافعى ومانيتون السمنودى وعزيز سوريال ومحمد شفيق غربال ورءوف عباس لنتعرف على مصر من جديد. فالآن أصبح تاريخ مصر أهم قضية وطنية مثلها مثل الوصول إلى وطن آمن و الحصول على رغيف خبز و دواء. وإذا لم نتحرك فى سبيل تحرير التاريخ الحقيقى لبر مصر، ولم نقرأ ونستوعب إنجازات الآباء والأجداد فى الطب والهندسة والعمارة والفنون والآداب والكفاح الوطنى وكل الأشياء التى صنعت مصر المدهشة، ستضيع ملامحنا وسط صياح وضجيج من لا يعرفون ويتنمنون لغيرهم إلا يعرفوا والا يتعلموا. تاريخك يعنى ما فعله أبوك لكى تبقى وتستمر، بل ويتجاوز الأمر فيطلعك على ما فعله جدك لأبيك. والمهم أن نعرف كيف عاشوا وفرحوا وعانوا، لكى نتعلم من أخطائهم فلا نكررها، ولكى نقتفى نجاحاتهم لنتأكد أنه لا نجاح لإنسان خارج سرب الالتزام بالمقولة المصرية القديمة «الكل فى واحد». ونحن بهذا الادراك لا نعنى بأنه حتما ستعود السيارة إلى الخلف، لكنه ادراك للتاريخ الذى يقدم لنا العبرة والدروس التى تغنينا عن الدخول فى كثير من المواقف الصعبة. فالخوف كل الخوف من أن يأتى زمن نجد آثارنا فى متاحفنا بلا تاريخ أو معنى، ليأتى آخرون أكثر استيعابا لتاريخنا وحضارتنا، ويلقنونا درسا لا ينسى يعرفه كل من ترك بيت أهله وهام على وجهه بلا هدف.