حلب هي سوريا.. وسوريا هي حلب هكذا يرى الكثير من السوريين والغربيين المدينة وأهميتها بالنسبة للصراع الدائر حاليا حول السيطرة عليها وعلى سوريا. السيطرة على حلب تحدد إلى مدى بعيد مستقبل الصراع حول سوريا. فاستعادة القوات الحكومية السورية السيطرة على المدينة تعني بقاء الدولة المركزية السورية، بينما خسارتها تعني دولة سورية ممزقة جغرافيا وسياسيا واقتصاديا. فاستعادة الحكومة السورية سيطرتها على غالبية دمشق وحمص وحماة لا يكتمل هدفه الاستراتيجي دون استعادة السيطرة على حلب. فالأربع مدن هي قلب سوريا وتشكل نحو 50% من السكان. كما أن الربط بين دمشق جنوبا وحلب شمالا، مرورا بحمص وحماة يعني تلاحم أراضي غرب سوريا التى هى نقطة ارتكاز النظام السورى. ولهذا ومع احتدام المعركة حول حلب ظهرت من جديد وبجلاء التناقضات الدولية والإقليمية العنيفة فى سوريا والتى عجلت بفشل الهدنة الإنسانية فى سوريا وانهيار التفاهمات الروسية -الأمريكية التى وعدت ضمن ما وعدت بشن واشنطنوموسكو لأول مرة هجمات جوية مشتركة ضد تنظيم (داعش) و«جبهة النصرة». وهو الاتفاق الذى دعمته دمشق، لكن رفضته المعارضة السورية واعتبرته «ولدا ميتا». فتنظيم «أحرار الشام» السلفي مثلا اعتبر الاتفاق «يقوض الثورة» بسبب النص على شن هجمات أمريكية -روسية ضد «النصرة» إذا ما صمدت الهدنة أسبوعا. لكن لم تصمد الهدنة أسبوعا، فخلال أيام قام الطيران الامريكي بقصف وحدات من الجيش السورى فى دير الزور أسفرت عن مقتل نحو 80 جنديا سوريا، قالت أمريكا إن قصفهم تم بطريق الخطأ. ثم قصفت قافلة تحمل مساعدات إنسانية للمدنيين. ووجهت امريكا أصابع الاتهام إلى روسيا، لكن موسكو نفت الاتهامات. فلماذا فشلت الهدنة؟ وهل محاولات قوى إقليمية «تذويب» جبهة النصرة وسط باقى فصائل المعارضة السورية المنتمية للسلفية أدى إلى دفن التفاهمات الروسية -الأمريكية ووضع واشنطن أمام الاختيار المستحيل فى سوريا وهو دعم وتقديم ممرات آمنة للمعارضة السورية فى حلب وغض الطرف عن حقيقة أنها كلها وبلا استثناء تنتمي للسلفية وتحارب على الأرض مع جماعات تتبع «القاعدة» ومصنفة إرهابية مثل النصرة التى غيرت اسمها قبل أسابيع إلى «جبهة فتح الشام»؟. وبحسب مسئولين غربيين مطلعين على الملف السورى تحدثوا لبالأهرامب بشرط عدم الكشف عن هوياتهم فإن واشنطنوعواصم غربية تجد نفسها حاليا في وضع دقيق بسبب إذابة جبهة النصرة الإرهابية وسط فصائل المعارضة السورية السلفية. تذويب «النصرة»: «إذابة» النصرة، بحسب ما يقول هؤلاء المسئولون لم تتم بدعم أو مشاورة مع الغرب فموقف العواصمالغربية من رفض «النصرة» واضح. لكن المشكلة بحسب ما يقول هؤلاء إن عواصم إقليمية لها علاقات وثيقة مع النصرة تدفع منذ نحو عامين النصرة لتغيير اسمها وإعلان قطع علاقاتها مع «القاعدة» والانضمام لباقى تيارات المعارضة السورية «المرضى عنها دوليا»، رغم أنهم جميعا يشتركون في ايديولوجيتهم السلفية. نالت القوى الإقليمية ما أرادته وأعلنت «النصرة» يوم 28 يوليو الماضي فك ارتباطها مع القاعدة وتغيير اسمها إلى «جبهة فتح الشام»، وتعهد التنظيم الجديد بعدم شن هجمات على الغرب وذلك في محاولة لنيل رضاء الدول الغربية. لكن مسئول غربى مطلع يوضح «ل الأهرام»، التغيير لم يغير حسابات الغرب فى شىء. فجبهة فتح الشام هى النصرة. وعلى رأسها نفس الزعيم وهو أبو محمد الجولانى. ونفس قيادات الصف الأول. ونفس الأيديولوجية السلفية. ونفس أساليب العمل...الغرب لا يتحاور مع النصرة...الغرب ليس لديه حافز لإنجاح ذلك المشروع. والمشروع ليس مشروعا غربياب. وبالتالي عندما اتفق وزيرا الخارجية الأمريكى جون كيرى والروسى سيرجى لافروف على هدنة إنسانية فى سوريا نهاية سبتمبر الماضي، تضمن الاتفاق السماح للطيران الروسي والقوات السورية باستمرار شن هجمات على جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) وداعش، وذلك فى رسالة مفادها أن «تغيير اسم النصرة لن يترتب عليه الاعتراف بها على الأرض. وفيما لا تدعم أى دولة فى شكل معلن «النصرة» أو «داعش»، لكن عمليا وعلى الأرض هناك عمليات قتال مشتركة وتنسيق على الأرض بين النصرة وباقي الفصائل الأخرى المدعومة من قوى إقليمية ودولية. وفي ضوء تلك العلاقات الميدانية والعمليات المشتركة وجدت ِ«النصرة» أن الخيار الوحيد أمامها للرد على التفاهم الروسي-الأمريكي لاستهدافها هو الذوبانب مع باقي الفصائل بإعلان فك ارتباطها التنظيمي والأيديولوجي مع «القاعدة». ويقول مسئول أوروبى آخر: للأهرام «جبهة النصرة» كانت تدرس منذ فترة فك الارتباط بالقاعدة وما كان يمنعها هو الخوف من أن يفسر ذلك كاعتدال من جانبها، فتم تأجيل الموضوع مرارا. لكن تزايدت الضغوط عليها من قبل جماعات المعارضة السورية وعلى رأسها أحرار الشام وجيش الفتح، إضافة إلى الضغوط من جهات خارجية مثل قطروتركيا. هذه الضغوط وصلت إلى مستويات قياسية فى الفترة التي سبقت تغيير النصرة لاسمها. وكان المطلوب من النصرة أولا أن يتم (سورينة) الجبهة، بمعني ضم المزيد من المقاتلين السوريين إليها، والتركيز على أجندة داخلية سورية تتمحور حول الوضع الداخلي، عوضا عن أجندة أممية دولية تتمثل في الخلافة الإسلامية. وثانيا التخلص من اسم النصرة بسبب وجود التنظيم على لوائح الإرهاب العالمية ما يعني الإضرار ليس فقط بالتنظيم، بل بكل الفصائل التى تتعاون معه على الأرض. ويقول مسئول أوروبى عليم بتطورات الملف السورى إن هناك تطورين أقنعا «النصرة» بتغيير اسمها وفك الارتباط مع «القاعدة». التطور الأول دخول روسيا بشكل مباشر في الصراع السوري. والتطور الثاني تدهور علاقات «النصرة» مع السكان في المناطق التى سيطر عليها مقاتلوها وفشلها التام فى إدارة المناطق التى وقعت تحت سيطرتها. هذا الفشل فى إدارة المناطق التى سيطرت عليها «النصرة» أدي إلى تحول ميليشيات داخلها للعمل فى التهريب. وتدريجيا بات ثمن العلاقات مع «النصرة» باهظا بالنسبة للفصائل الأخرى التى أصبحت فى موقف صعب. فهى من ناحية تحتاج إلى مقاتلى «النصرة» للقتال، لكن من ناحية أخرى تحتاج إلى التسليح الغربي. وللتخلص من الاعتراضات على العلاقات مع «النصرة» كان لابد - كما يقول المسئول الأوروبي، وكما اقترحت دول إقليمية من بينها تركياوقطر-، من توحيد المقاتلين في سوريا تحت مظلة واحدة وذلك لأول مرة منذ بدأ الصراع في سوريا عام 2011. فالمقاتلون الأجانب الذين جاءوا إلى سوريا من الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا انضموا إلى جبهات وجماعات عديدة وشكلوا الأغلبية العددية واحتلوا قيادة تنظيمات مثل اداعش. لكن وجودهم بأجندتهم العالمية، وإعلانهم تأسيس الخلافة، وشنهم هجمات إرهابية على مدن أوروبية، كل هذا بات مصدر ضعف للجماعات المتطرفة المحلية. وبداية من عام 2014 بدأت أصوات تعلو بضرورة الفرز بين المكون المحلى والمكون الدولى وسط الجماعات في سوريا. وطرحت منذ تلك اللحظة قضية سورينة جبهة النصرةب بمعنى فك ارتباطها بتنظيم االقاعدةب وتغيير اسمها، وتغيير أجندتها من أجندة دولية، إلى أجندة سورية. سوريا أفغانستان المنطقة: والمعضلة التي يواجهها الغرب حاليا هى أن سوريا أصبحت «افغانستان» المنطقة. بمعني أنه لم يعد هناك مغزى للحديث عن امعارضة معتدلة وسط التنظيمات الموجودة اليوم على الأرض بعد بروز جبهة معارضة موحدة من التيارات السلفية. ويوضح المسئول الأوروبى: حتى المعارضة السورية نفسها ترفض استخدام وصف (المعارضة المعتدلة) ويفضلون وصف (التيار السائد للمعارضة). وفشل الهدنة سببه اكتشاف واشنطن استحالة الفصل بين النصرة وباقى الفصائل على الأرض مثل أحرار الشام وجيش المجاهدين وفيلق الشام ولواء نور الدين زنكي بسبب الإرتباط العضوي بين هذه الفصائل تنظيميا. فهذا الارتباط العضوى جعل العمليات المركزة التى تستهدف النصرة شبه مستحيلة بعدما تم تذويبها مع باقي الفصائل الأخري. وسيكون أمام أمريكا خياران. الأول توسيع رقعة الجماعات المستهدفة المرتبطة بالنصرة. لكن هذا يعنى إضعاف المعارضة السورية بشكل عام ما يصب فى مصلحة الحكومة السورية وروسيا وهو ما لا تريده واشنطن. والخيار الثانى: قبول تذويب النصرة مع باقي الفصائل فى سوريا. وهذا خيار انتحاري ومستحيل لأنه يؤكد وجهة نظر الروس من أن واشنطن وحلفاءها الإقليميين يريدون إسقاطها حتى لو كان ذلك بالتحالف مع القاعدة. وبينما تجد أمريكا نفسها فى وضع مربك وفي حالة صدام علنية محتملة مع الفصائل التى تمولها وتدعمها بسبب رفضهم وقف العمل مع النصرة، استطاعت روسيا دعم الحكومة السورية فى تحصين المناطق الغربية الساحلية التى تشكل القاعدة الاجتماعية والسياسية للنظام السورى وعلى رأسها اللاذقية وطرطوس. والربط بين دمشق جنوبا وحلب شمالا. وتكوين تلاحم أرضي فى غرب سوريا بدءا من دمشق مرورا بحمص وحماة وصولا إلى حلب خاضع لسيطرة القوات الحكومية السورية ما يسمح باستمرار الدولة المركزية السورية على الأقل في المدى المنظور، بغض النظر عما يمكن أن يحدث على الارض فى شمال سوريا على الحدود مع تركيا أو فى شرقها على الحدود مع العراق أو جنوبا على الحدود مع الأردن. وبرغم عدم الارتياح الغربي للتطورات على الأرض في سوريا منذ التدخل الروسي المباشر في الصراع والذي غير موازين القوى لمصلحة الحكومة السورية، فإن الخيارات لدى الغرب محدودة جدا. فتغيير موازين القوى لمصلحة المعارضة يسلتزم تدخلا عسكريا دوليا أو التعاون مع جماعات على قوائم الإرهاب العالمية أو فتح الطريق دون معايير لتسليح نوعي للمعارضة السورية، وهذا كله ضرره أكبر من نفعه. ويقول المسئول الأوروبى فى هذا الصدد: الأولوية الآن لم تعد إسقاط الحكومة السورية أو تعزيز تمدد المعارضة جغرافيا. الأولوية هى إبقاء الأمور على ما هي عليه، وعدم التحرك عسكريا بطريقة يمكن أن تؤدي إلى هروب ملايين السوريين وإغراق العالم فى أزمة لاجئين ومهاجرين. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار المعارضة السورية هى الخاسر الأول.