بين الحين والآخر يطل علينا هذا العالم الجليل بوجه بشوش متجدد بالحيوية والنشاط، ليبدو كسحابة صيف باردة تقوى على إنعاش كافة منعطفات حياتنا البائسة، بفعل الهزائم المعنوية التي يصدرها البعض منا بجهل المعرفة، وزيف العقل، ونقصان الضمير، ليزرع وبثقة الأمل في نفوسنا، وبقدرة فائقة يستطيع وحدها وسط تيارت الإحباط والكراهية أن يفتح بوابات المستقبل على مصراعيها، استنادا إلى حديث العلم في تجليات الكبرى مقرونا بالعمل الجاد والدؤوب، اعتماد على الشباب الطموح من أبناء هذه الأمة، والذي يراه قادرة على صنع الحضارة التي صنعها الأجداد منذ فجر التاريخ وماتزال آثارها راسخة حتى اليوم، شريطة أن يكون نقيا مخلصا مؤمنا بقيمة العمل. وعلى الرغم من انشغالاته وولعه الكبير بعلوم الفضاء الرحب في قلب معامل «ناسا» الأمريكية، يظل هو نفسه الطائر المحلق في سماوات الحرية مهموما بوطنه الذي لايفارق خياله، مهما بعدت المسافات وطالت الأزمنة يبقى لديه حنين جارف إلى جذوره الفلاحية، بحكم مولده في إحدى قرى الدقهلية، ومن ثم انتمائه العميق لطبقة البسطاء من المصريين، وانطلاقة من قناعته الراسخة في ضرورة توسيع معيشة المصريين، بدلا من تضيق الخناق عليهم، وبث روح اليأس في نفوسهم ليل نهار. لقد أكد في لقائه مع الرئيس السيسي منذ أيام على سبل الارتقاء بمنظومة التعليم والبحث العلمى، فى ضوء ما تمثله من أهمية قصوى فى سبيل تحقيق التقدم والتنمية الشاملة، موضحا الأهمية القصوى التى ينبغي توليها الدولة للتعليم والبحث العلمى، وسعيها لبناء قاعدة علمية قادرة على قيادة مصر المستقبل، فضلا عن ضرورة التحرك السريع للاستفادة من مخرجات البحوث التطبيقية وتحويلها إلى صناعات منتجة تساهم فى دفع عملية التنمية الاقتصادية. ولم يتوقف عالم الفضاء الأشهر على وجه الكرة الأرضية عند هذا الحد من الفروض النظرية في تقدم الأمم بل قال بحماسته الفطرية المعهودة : يجب أن نطلق أملا كبيرا تحت شعار «هنأكل نفسنا»، مضيفا: «لو إحنا رجالة صحيح نأكل نفسنا.. ومصر كان لها قيمة لما كنا بنأكل نفسنا»، موضحاً أن هناك ثلاث مقومات للحضارة «إنتاج فائض من الغذاء - تقسيم العمل بين أفراد المجتمع – الحياة الكريمة فى المدن»، ومن أجل هذا الهدف النبيل الذي يكفل صناعة الأمل وبناء الحضارة. في كل مرة يظهر فيها «الباز» على شاشات التليفزيون تلمح جدية مقرونة بأدب جم حول تحسين معيشة المصريين، دون تصدير طاقة سلبية تحبط سعينا نحو مستقبل محاط بالأمان والاستقرار القائم على الجد والاجتهاد، ولأنه واحد من رواد تبسيط العلوم - وهو الحاصل على أرفع الاوسمة العالمية في هذا المجال النادر - تجده يذهب بنا على بساط سحر بيانه نحو تفكيك أعقد القضايا بسهولة ويسر، ليفهم الفلاح والعامل بسهولة ما يرمي إليه من تفسيرات، جنبا إلى جبنب مع أدق العلماء في التخصص ذاته، ولا يملك زاد في هذا غير التواضع واعتماد لغة تستند في طياتها إلى العلم والمعرفة الصادقة والخبرة العملية المستمدة من سنوات الغربية، والتي رسبت بداخله إيمانا عميقا بأن المولى عز وجل خلقنا جميعا لنعمر هذا الكون اعتمادا على حكمة العقل الرشيد، والمنطق السليم الذي يمكن أن يجنبا الاقتراب من دائرة الصراع على الثروات والطاقة، والذي يدفع بالضرورة نحو حافة الشرور وهلاك البشرية جراء الدخول في صرعات وحروب الدمار والفناء. في لقائه الأخير مع عمرو أديب، صال وجال «الباز» بعذوبة وبوجه بشوش يعكس حالة الرضا، وببساطة غير مفرطة ذهب في تشريح الداء الحياتي المصري، ليقف بنا ومعنا على أعتاب الحلول المباشرة التي تتلخص في العمل ثم العمل، مؤكدا على قاعدة أن من لم يستطع تأمين قوت يومه لايستحق الحياة على تراب هذا الوطن، خاصة أن هذا التراب المصري علم البشرية كيف تزرع وتحصد وتدخر لسنوات القحط والجفاف؟، ولقد لفت نظري في هذا الحوار صدقية العالم وسلامة ضميره كمواطن حريص على مستقبل هذا الوطن. ودون زيف أو تزلف قال بصوت عالى: «الشباب لو انصلح حاله سينقذون مصر» مؤكداً أنهم حاضر هذه الأمة ومستقبلها، لكن شريطة أن يعملوا بجد ليسجلوا انتماء حقيقيا نحو البلد، وهو هنا ينطلق من شعور حثيث بخطر التقاعس عن ابتكار أفضل السبل لتوفير لقمة العيش بكرامة، حين ذهب إلى أننا نستورد أكثر من 50 % من القمح، وهذا يستلزم ضرورة احترام الفلاح المصري الذي قامت على أكتافه الحضارة، ولولاه ماكتب للإنسان المصري القديم السلامة في بناء المجد على ضفاف النيل، ولما استمرت الحياة في ربوع الدلتا والوادي، لافتًا إلى أن لدينا ما لا يقل عن 3 ملايين فدان تصلح للزراعة، وهى مساحة تكفي وتزيد لسد العجز في الغذاء الذي يحفظ كرامتنا ويحقق أمنا، ولفت العالم المصرى الكبير إلى أن ممر التنمية لا بد من تنفيذه لأنه المنفذ الوحيد الحقيقى لزيادة مساحة المعيشة فى مصر. ولعل جانبا آخر من الوطنية الصرفة تلمسه يسري في عروق هذا العالم الفذ عن قرب، حينما قال للمعترضين على المشروعات القومية: «كل واحد يخرس»، وليس ذلك نوعا من الادعاء أوالتعالي - لاسمح الله - بقدر ما هو تأكيد على ثقته في القيادة السياسية الحالية، خاصة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ مصر، مشيرا إلى أن المشروعات القومية لو كانت خاطئة - على حد تعبيره - ستظهر أنها خاطئة، وهذا يدلك على حكمة بالغة بأن أحدا لايستطيع لأن يخفي شيئا سلبيا في عالم الإعلام الذي يموج بالأحداث الساخنة وعلى الهواء مباشرة. وانطلاقا من إدراكه الواعي بالمهام الجسام الملقاة على عاتق رأس الدولة، فقد قالها صريحة مدوية :»إحنا متعودين إننا نشتكى»، ولقد امتلك شجاعة وفروسية نادرة في قوله: «إن بناء الحكومة مساكن لأهالى العشوائيات خطأ»، ولا بد أن يبنى أهالى العشوائيات بيوتهم بأنفسهم بعد تسلمهم الأراضى، وفي هذا أوضح أن أولى أولوياتنا الأساسية أن «نوفر الأكل لنفسنا»، لافتًا إلى أن المواطن الأمريكى رغم ارتفاع مستوى المعيشة، قليل ما يعترض على قلة الدخل، ويجتهد لزيادة دخله. الحقيقة المرة التي أدركتها في ثنايا أحاديث هذا العالم الجليل «أن خيبتنا في تكمن في نخبتنا» من أولئك المتشدقين بنظريات بالية لا ترقي إلى مستوى الفعل العملي الذي يدركه الرجل، فعلى قدر تخصصه الدقيق جدا في علوم الفضاء، والتي جلبت له شهرة جابت الآفاق، ووضعته على منصات التتويج في كافة أرجاء المعمورة ، إلا أن عشقه للتربة المصرية غلب على كل شيء، وزاد إيمانه يوما تلو الآخر بضرورة أن يسخر عقله كاملا في كشف المخبوء من كنوز الماء والمعادن وغيرها من خيرات المولى عز وجل تحت التراب، ليصبح «جنديا من خير أجناد الأرض» المسخرين لصناعة الأمل والحث على العمل والتنمية التي تكفل رفاهية الإنسان.. فتحية تقدير واحترم للعالم المصري فاروق الباز.