الصمود الذى تعرف عليه الإنسان من أول يوم له على الأرض.. يقينى أن هذا «الصمود» راجع نفسه وسأل نفسه: إن كنت أنا «الأصل» أصل الصمود على الأرض.. ولم أر من قبل ملحمة عزيمة وإصرار وشجاعة وقوة وانتماء وفداء وشموخا وكبرياء.. مثل التى تابعتها بدهشة واستغراب وإعجاب وربما غيرة على أرض الكنانة بموقع كبريت على مدى 134 يومًا.. كل ثانية منها وليس دقيقة أو ساعة أو يوم.. شاهد على أن كل ما أعرفه عن نفسى أنا «الصمود» لا شىء أمام ما رأيته وشهدت عليه ال134 يومًا!. أكمل أنا اليوم ما بدأته الجمعة الماضى عن أسطورة فداء مصرية اسمها كبريت!. أسطورة جديدة على البشرية.. أبطالها أثبتوا عمليًا على الأرض أن جيشك يا مصر هو بحق وعن حق خير أجناد الأرض!. أبطال كبريت جعلوا العدو قبل الصديق ينطق بشهادة حق لنا! كيسنجر وزير خارجية أمريكا وقتها.. المنحاز هو وبلده لإسرائيل على طول الخط!. كيسنجر قال عن كبريت التى ضربها العدو بكل أنواع أسلحته وحاصرها العدو 134 يومًا ولم تسقط.. قال: «إنها إحدى المعارك الكبرى التى شَرَّفَتْ العسكرية المصرية ووضعتها فى مكانة متميزة بين جيوش العالم»!. حتى هذه الشهادة منقوصة.. لأن كيسنجر أغفل عشرات الحقائق التى أذهلت خبراء العسكرية فى العالم.. لأنه لم يحدث فى أى حرب من قبل ولا حتى بعد مرور 43 سنة على موقعة كبريت.. أن حُوصِرَ موقع من كل الجهات وانضرب الموقع ليل نهار على مدى 134 يومًا بآلاف الأطنان من القنابل والدانات والصواريخ.. ولم يسقط ولم يستسلم.. بل لم يتوقف عن مهاجمة العدو!. أى مقاتلين هؤلاء؟. ليس هذا سؤالى إنما كان سؤال خبراء العسكرية بالعالم!. الإجابة التى لن يعرفوها أبدًا ولا يريدون حتى لا ينهش الخوف واليأس قلوبهم!. الإجابة تقول إن هؤلاء المقاتلين من جيش مصر المحروسة.. أقدم جيوش العالم.. المتفرد بعقيدة قتالية كانت ومازالت وستبقى بإذن الله.. لأنهم خير أجناد الأرض وفى رباط إلى يوم الدين.. وليس هذا كلامى حاشا لله.. إنما حديث رسول الله «صلى الله عليه وسلم».. عقيدة قوامها كلمتان وحرفان.. النصر أو الشهادة!. تعالوا نتعرف على ملحمة الصمود من خلال بعض النقاط.. وقبل أن أدخل فى التفاصيل.. أنا أهدى السطور السابقة والسطور التالية إلى شعبنا العظيم.. أهالينا فى القرى والنجوع والكفور والمدن.. لكل مصرى ومصرية وعربى وعربية.. أهدى ملحمة الصمود هذه لنا جميعًا.. لأنه مطلوب منا جميعًا الصمود.. لأن مصر والعرب تحت الحصار. موقعة كبريت تؤكد لنا يقينًا أننا المصريين والعرب قادرون على الصمود وكسر كل حصار وكبريت شاهد!. تعالوا نتذكر صمود شعب مصر العظيم ست سنوات.. ومن أسوأ هزيمة صنع أعظم انتصار!. ما فعله الشعب وقتها مطلوب الآن لأجل أن تصلب مصر عودها وتنهض وتتحرك وتعدو.. نهضة وتقدمًا وازدهارًا!. نحن نقدر اليوم وغدًا لأننا فعلناها باقتدار فى الأمس!. نقدر لأنه معنا وثيقة ضمان كتبها أبطال كبريت بصمودهم!. تعالوا نعرف حكاية كبريت.. 1 نحن يوم 6 أكتوبر 1973 الذى كان بمثابة يوم الامتحان لست سنوات مذاكرة!. ست سنوات بدأ الاستعداد للحرب من أول يوم فيها وتحديدًا يوم 11 يونيو 1967 بعد خمسة أيام فقط من هزيمة 1967!. الشعب رفض تنحى الرئيس عبدالناصر. الشعب طالب الرئيس باستعادة الأرض. الشعب لم يكلف رئيسه ووقف يتفرج!. الشعب ضرب أعظم أمثلة للتضحية!. الشعب بفطرته العبقرية أدرك أن استعادة الأرض تتطلب التضحية وإنكار الذات وأقصى درجات الجهد والعرق!. الشعب كل فى موقعه حريص على أعلى معدلات العمل لأجل أعلى معدلات إنتاج!. الشعب بفطرته يقدم أعلى إنتاج ولأجل أن يظهر المردود لابد من أقل استهلاك!. الشعب قَبِلَ عن طيب خاطر التنازل عن الكثير من الأساسيات لأجل شراء السلاح!. الشعب نسى حكاية الكماليات وسلع الرفاهية!. الشعب أول من دفع عربون استعادة الأرض يوم قَدََّم إلى جيشه مليونًا و200 ألف شاب من أبنائه.. جنودًا وصف ضباط وضباطا. الشعب لم يبتلع يومًا طُعْمَ الحرب النفسية المدمرة الموجهة لمصر من كل جانب!. الشعب بوعيه لم تجرفه الشائعات ليرددها ولا حملات التيئيس ليصدقها ولا محاولات الفتنة ليخوض فيها!. الشعب نقل ثقته التى لا سقف لها إلى جيشه.. وبالثقة التامة والدعم الكامل تخطى الجيش مئات بل آلاف العقبات المستحيلة وكيف لا يقدر وظهره هذا الشعب العبقرى.. وبدأ المشوار الصعب الطويل لأجل استعادة الأرض!. 2 لا هذه المساحة ولا أى مساحة تكفى الأحداث والتفصيلات.. لذلك لن أتكلم عن مراحل الصمود والتصدى والدفاع النشط وحرب الاستنزاف وهى حرب لا تقل ضراوة وشجاعة وبطولات عن حرب أكتوبر!. أول معركة بعد 5 يونيو 1967 أو أول مواجهة كانت بمثابة فاصل لما قبل وما بعد كانت موقعة رأس العش.. طابور مدرع للعدو تخيل أنه فى نزهة لاحتلال بورفؤاد.. وفصيلة صاعقة أى 30 مقاتلاً!. أكثر من سبع ساعات قتال وانسحب الطابور المدرع محملاً «بطابور» هزائم!. عرفنا يومها أن الجيش الذى لا يقهر.. يُقهَر!. عرفنا أننا لم نمت!. عرف العدو أن المصريين لحمهم مُرّ!. بعد رأس العش التى كانت فى 1 يوليو 1967.. بعدها بأيام أغرقنا المدمرة إيلات.. أرسلتها بصاروخين سطح سطح إلى قاع البحر!. العالم كله فوجئ.. جيشنا فقط الذى لم يفاجأ.. ليقينه أنه قادر على الانتصار.. والظروف التى لا دخل له بها هى التى صنعت هزيمة 1967. انتصارات كثيرة تحققت بشجاعة المقاتل المصرى.. ويكفى ال500 يوم حرب استنزاف التى تركت علامات لا تنسى على العدو!. السبت الحزين ولسان التمساح ولسان بورتوفيق وقبلها تدمير الحفار فى ساحل العاج واحدة من عبقرية جهاز المخابرات العامة وشجاعة الضفادع البشرية!. وانتهت حرب الاستنزاف بعدما حققت سياسيًا أهدافها وعرف العالم أن العرب لن يتوقفوا!. وعسكريًا جيش مصر جاهز.. وكل صغيرة وكبيرة عن العدو من الإغارات والكمائن والعودة بأسرى.. كل شىء عنهم كتاب حفظناه!. بالمناسبة حرب الاستنزاف شهدت 81 عملية عسكرية ناجحة لنا مقابل 34 عملية لهم معظمها فى العمق.. أى ضرب أهداف مدنية مثلما حدث فى بحر البقر يوم 8 أبريل 1970 يوم ضربوا مدرسة أطفال.. أو ضرب مصانع أبوزعبل فى 20 فبراير 1970 أو قناطر نجع حمادى!. 3 حرب الاستنزاف انتهت فى مارس 1970 لتبدأ المرحلة الأخيرة فى الاستعداد للحرب وتفاصيلها كثيرة وأهم ما يميزها خطة الخداع التى «قَرْطَسِتْ» العدو وقبله أمريكا!. اخترعنا مشروعًا تدريبيًا وهميًا اسمه (تحرير 41) ولأننا كل سنة عقب انتهاء حرب الاستنزاف نعلن عن مشروع تدريبى على مستوى الجيش والعدو يعلن التعبئة ويرفع درجة الاستعداد. وينتهى الأمر إلى لا شىء!. هذه المرة ظنوا أن (تحرير 41) مثل إخوته السابقين.. فلم يركزوا والحمد لله أنهم لم يفعلوا.. لأن قوات الحرب من كل أسلحة الجيش.. دخلت الجبهة تحت اسم المشروع.. ولم تخرج.. لأنها بعد أيام ستكون فى سيناء!. 4 بسرعة وباختصار أستعرض وحدات الجيش يوم 6 أكتوبر التى ستخوض القتال بعد ساعات. المهندسون العسكريون جاهزون لعمل 81 فتحة فى الساتر الترابى. كل فتحة عرضها 6 أمتار وبها 1500 متر مكعب رمال سيتم إزالتها بأربع طلمبات مياه جبارة لكل فتحة. فى نفس الوقت سيتم تشييد 10 كبارى معدات ومثلها أفراد بالإضافة إلى 40 معدية. على الجبهة 2000 مدفع ستبدأ التمهيد النيرانى بقصفه لمدة 53 دقيقة متواصلة بمعدل 175 طلقة فى الثانية القصفة قوامها 3 آلاف طن ذخيرة. الطيران جاهز ب220 طائرة مخطط لها 56 هدفًا فى عمق سيناء. المدرعات مع الصواريخ المضادة والدبابات صنعوا إعجازًا جعل أمريكا تفتح جسرًا جويًا من يوم 10 أكتوبر لتعويض خسائر العدو من المدرعات والطائرات!. القوات البحرية.. أسطول لها فى البحر الأحمر لإغلاقه من باب المندب بالمدمرات والغواصات وأسطول فى البحر الأبيض لحصار الموانى الإسرائيلية بالسيطرة على طرق المواصلات البحرية. الدفاع الجوى.. حائط صواريخ بطول الجبهة يغطى 15 كيلو من القناة فى عمق سيناء. القوات الخاصة جاهزة للإبرار فى مهام خاصة.. أغلبها تعطيل الهجوم المضاد لأطول فترة إلى أن تنتهى وحدات الجيش المختلفة من اقتحام القناة. 5 الصاعقة عندها مهامها والمظلات لها مهامها.. وكانت هناك مهمة خاصة أيضًا لوحدة نوعية فى العمليات الخاصة وهذه الوحدة هى اللواء 130 مشاة أسطول برمائى.. ومهمته عملية إبرار بحرى فى البحيرات المرة. اللواء 130 مشاة أسطول برمائى وحدة مستحدثة فى القوات المسلحة وتشكيله مختلف من كتيبتين فقط هما ك602 وك603، اللواء تشكيله مشاة كلهم حصلوا على فرقة صاعقة.. ومدرعات برمائية وملحق عليه وحدة صواريخ مضادة للدبابات ووحدة صواريخ محمولة مضادة للطائرات.. ويكفى القول إنه منذ تشكيل هذا اللواء وساعات التدريب والمناورات فاقت أى معدلات عالمية.. ولذا ليس مستغربًا ما حدث فى كبريت!. 6 أوضح نقطة لحضراتكم أنه فى عمليات الإبرار تحديدا والكمائن والغارات عمومًا.. القوة المكلفة بالمهمة معها تذكرة ذهاب فقط!. المعنى أنها مكلفة بمهمة خاصة مطلوب تحقيقها.. فكرة أى معاونة لها من قوتنا بالنيران غير موجودة!. مسألة كيفية العودة ليست مطروحة!. مهمات الإبرار.. مهمات خاصة.. أى مهمات فدائية من يقوم بها يدرك جيدًا أنه ذاهب إلى مهمته وعليه تحقيقها أما العودة فهى فى علم الله!. 7 اللواء 130 مشاة أسطول برمائى قائده العميد محمود شعيب، المهمة الإبرار البحرى فى البحيرات والوصول إلى مشارف ممر متلا والجدى!. الهدف إيهام العدو أن اتجاه الهجوم الرئيسى لجيشنا فى هذا الاتجاه!. العدو ابتلع الطعم واحتياطاته الموجودة بعيدًا عن القناة اتجهت له حيث كان قد دخل فى العمق لمسافة 25 كيلو.. وأقرب قوات لنا تبعد عنه 20 كيلو على الأقل.. لأن القوات الرئيسية كانت تقتحم القناة والموجود فى الغرب قوات الموجة الأولى والثانية ومهمتهم احتلال رءوس كبارى لتأمين القوات الرئيسية التى تقتحم القناة. 8 اللواء 130 بدأ عملية الإبرار مع الضربة الجوية.. وتقدم بسرعة فى البحيرات ودخل فى اشتباكات لم تَعُقْه عن هدفه. وما أن انتهى من اقتحام البحيرات المرة الصغيرة حتى دخل فى معركة رهيبة مع العدو.. الذى انشغل به ولم يتقدم تجاه القناة وكانت تلك مهمة اللواء 130 بالضبط! معركة رهيبة لأن الدبابة البرمائية مدفعها مداه 600 متر، ودبابة العدو التى تسير على الأرض مدفعها مداه 3 كيلومترات!. الدبابة البرمائية درعها خفيفة والأخرى مدرعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى!. وقعت خسائر ليست قليلة عندنا وهى منطقية ومتوقعة لأنها عملية خاصة هدفها جعل الهجوم المضاد يدخل فى معركة معه وينسى القناة!. 9 رغم الفارق الهائل كما وكيفا بيننا وبين العدو.. دمرنا أكثر من عشر دبابات له بالصواريخ م.د وأسقطنا طائرتين بالصواريخ المحمولة على الكتف إلى جانب الخسائر البشرية له!. نجح اللواء 130 فى تحقيق ما هو مكلف به.. وصدرت الأوامر له بمهمة أخرى هى الدخول فى رأس كوبرى الفرقة السابعة لتأمين الجانب الأيسر من الجيش الثالث.. ومرة أخرى معاناة لم تتوقف دمرنا للعدو دبابتين وأسقطنا 3 طائرات بصواريخ الأفراد التى صنعت ذعرًا للعدو غير المتوقع وجود صواريخ ضد الطائرات يحملها أفراد. 10- يوم 9 أكتوبر صدرت أوامر جديدة لقوات مشاة الأسطول باقتحام نقطة كبريت القوية.. وبعيدًا عن التفصيلات.. ما حدث من العدو فى النقطة القوية الحصينة كان تكرارًا لما حدث فى بعض النقاط القوية التى سقطت من بارليف!. جنود العدو ما أن رأوا بنظارات الميدان مشاة أسطولنا يتقدمون لاقتحام النقطة.. تركوها وهربوا!. تركوا نقطة كبريت القوية التى بها ذخائر وأسلحة وإمدادات تكفى من بداخلها شهورًا!. هربوا لأنهم يخشون الموت وهذه عقيدتهم القتالية!. ناس تهرب قبل أن تدخل معركة.. وناس تمسكت بالأرض.. لأنها أرضها وصمدت 134 يومًا تحت الحصار وتحت القصف من أول ضوء لأول ضوء!. 11- رجال مشاة الأسطول البرمائى احتلوا كبريت.. التى لم تكن مجرد نقطة قوية.. إنما هى حياة أو موت بالنسبة للعدو لموقعها بين الجيشين الثانى والثالث ولإشرافها على نقطة تلاقى الطرف العرضية وهى أضيق مكان بين البحيرات المرة الكبرى والصغرى.. باختصار هى موقع استراتيجى يعتبر حياة أو موتا للعدو.. ومن هنا بدأت الملحمة! قصف متواصل بصواريخ وقنابل الطائرات!. مدفعية لا تهدأ!. مدرعات لا تتوقف!. حصار من كل جهة!. العدو فى مخيلته جنوده الذين تركوا النقطة وهربوا.. ويقينه أن قسوة القصف كفيلة بأن تجعل المصريين يستسلمون!. لم يحدث!. لجأ للقصف مع الحصار لا أكل لا مياه لا أى إمدادات!. لم يستسلموا.. بل يبادرون العدو بالنيران.. والأدهى أنهم خطفوا أسيرين!. كل ما يخطر على ذهن العدو من وحشية قام بها.. وكل ما لا يتصوره إنسان من صمود وثقة وشجاعة وإقدام.. قَدَّمَه أبطال جيشنا فى كبريت!. ال134 يومًا صمودا فى كبريت.. رسالة كتبها جيشك يا مصر من 43 سنة!. رسالة لكل دول العالم وقتها.. وللدنيا كلها اليوم وكل يوم!. رسالة جيش مصر فى الأمس واليوم وكل يوم: مصر لم ولن تسقط! تحية إلى جيش مصر العظيم فى الأمس واليوم والغد وكل غد. لمزيد من مقالات ابراهيم حجازى