كيسنجر قال: إنها إحدي المعارك الكبري للعسكرية المصرية «موقعة كبريت» .. ملحمة سطرها تاريخ مصر العسكري بحروف من نور, خاضت فيها قواتنا المسلحة أشرف المعارك, قهروا المستحيل, باركهم الله من فوق سبع سماوات, إذ هبطت الملائكة بأجنحتها النورانية تشد أزر المقاتلين, فارتفع دعاؤهم «الله اكبر» لترتج الأرض تحت أقدام الصهاينة, ويحقق رب الجلال والإكرام نصره لخير أجناد الأرض. علي أرض الإسماعيلية كانت الموقعة, يقول عنها هنري كيسنجر- وزير الخارجية الأمريكي الأسبق- «إنها إحدي المعارك الكبرى التي شرفت العسكرية المصرية ووضعتها في مكانة متميزة بين جيوش العالم»، وعبرت الصحف الإسرائيلية عن حيرتها بصمود المصريين في المعركة, فكتبت :»لا ندري كيف استطاع المصريون الصمود في حصار دام 134 يوما دون مياه أو إمدادات ولم يستسلموا وكانوا يبادرون بالهجوم». بدأت المعركة في 18 أكتوبر 1973, و كان العدو الإسرائيلي يحتل نقطة حصينة في «كبريت», ذات الأهمية الخاصة, إذ كانت نقطة فاصلة بين الجيشين الثاني والثالث, ونقطة التقاء للمحاورالطولية والعرضية, وتقع في أضيق منطقة بين البحيرات المرة الكبرى والصغرى, والمسافة بين الشاطئين الشرقي والغربي 500 متر، وتوجد في الوسط جزيرة يستطيع من خلالها الجيش الإسرائيلي تطويق الجيش الثالث والوصول لمدينة السويس. وعلى الرغم من أهميتها القصوي, فلم تسقط «كبريت» في اليوم الأول, وبدأ الجيش الإسرائيلي تجميع قواته نظراً لحساسيتها, وأصدرت قواتنا المسلحة أوامرها لرجال الكتيبة 603 من مشاة أسطول القناة ورجالها من الصاعقة باقتحام هذه النقطة والاستيلاء عليها، ووضع خطة الهجوم إبراهيم عبد التواب, وكان ما يعوق حركة الصواريخ المضادة للدبابات أعمدة تليفون موازية للسكة الحديد, وكانت في المواجهة ب1500 متر, وقام الملازم أول عبد الرازق شامة, وبعض أفراد الكتيبة بتدمير 15 عامودا, واكتشف نقطة ملاحظة للعدو توجه قذائفها, فقام مع مجموعته باقتحامها وقتل أحد أفرادها, وفر الباقون, واستولى على 2 رشاش والصور الجوية و بعض الوثائق. وفي 18 أكتوبر كان قرار تنفيذ العملية, وكان الموقع يضم فصيلة مشاة ميكانيكي وفصيلة دبابات داعمة لها, وعلى مسافة 3000 متر كانت توجد سرية دبابات أخرى وفصيلة مشاة ميكانيكي. العميد أسامة عبد الله - أحد أبطال أكتوبر- يقول : بعد سقوط النقطة الحصينة وزع القائد قواته على مواقع مختلفة, وكانت حركة العدو تشير للاستيلاء على تلك النقطة, فقرر القائد تننفيذ غارات ليلية على العدو المتجمع أمام تلك النقطة, وكانت الغارات عمليات دورية انتحارية, تتكون الدورة من ضابط وأربعة أفراد, وأشاعت الغارات الفزع بين قوات العدو وكبدتهم خسائر فادحة. أما العدو فقد كان يبدأ صباحه بطلعات جوية مع قصف جوي مكثف بدانات زنة 1000 و2000 رطل, فتحولت الأرض لجحيم, وألقي العدو قنابل عنقودية, تخرج منها قنابل صغيرة بألغام تنتشر علي الأرض, وعندما يبدأ العدو بإمطار الموقع بقذائف مدفعية, كانت تجعل الرمال سوداء من شدتها, ثم يبدأ العدو الهجوم بالمدرعات. وعندما يشعر العدو أن الموقع قد أبيد, فجأة يفتح الجحيم أبوابه عليه وتنطلق نيران أبطال أكتوبر, فتحصد مدرعات العدو ويقتل من فيها ومن كتبت له الحياة منهم فيهرب, إنهم جبناء. وفي إحدي هجمات العدو توغلت دبابة من دباباته لتواجه جنديين من القوات المصرية, واستشهد الجندي الأول, ونفدت الذخيرة من الجندي الآخر, وذلك يعني انتصاراً ساحقاً للدبابة في مواجهة جندي لا يملك أي أسلحة, ليخرج الجندي قائلاً: «الله أكبر» ويتحرك بخطى ثابتة في مواجهة الدبابة, وفجأة يخرج الجنود الصهاينة من الدبابة مستسلمين. يقول الملازم سيد آدم : بينما كنا نعبر البحيرات, فاجأنا العدو بنيرانه الكثيفة من كل الجهات علينا, فرددنا بنيراننا, ودون اتفاق مسبق رددنا جميعا «الله أكبر.. الله أكبر», فجاءت معجزة السماء, فأتى الحمام الأبيض من كل الجهات ليحمي قواتنا. و بعد الاستيلاء على الموقع, قام الملازم أول صبري هيكل بزرع الألغام, وكان من المفترض أن يزرعها في خطوط منتظمة وفقاً لما تعلمه, لكنه فوجئ بالعدو, فبعثر ألغامه في أماكن غير منتظمة مليئة بالثغرات, فتأتي مدرعات العدو, وكأن الموت هدفه, فيذهب للألغام ولا يذهب عبر الثغرات. ورغم الهجوم المتكرر لقوات العدو فقد صمدت القوات المصرية في معركة «كبريت» حتى بداية يناير 1974, فقد واصل الإسرائيليون حصارهم لتلك النقطة, فمنعوا عنا الماء والطعام لمدة 134 يوما, ورغم ذلك صمدت قواتنا, بل كانوا في أحيان كثيرة يبدأون الهجوم علي قوات الصهاينة. و بعد سيطرة قواتنا على ذلك الموقع, و زرع علم مصر عليه, احتفظ قائد العملية إبراهيم عبد التواب بعلم آخر له, ليؤكد رغبته في الاحتفاظ بالعلم ليتم تكفينه به, وأوصي بدفنه في نقطة بعينها قائلاً: «سأموت وأدفن هنا», وفي 14 يناير 1974 أطلق العدو وابلا من النيران ليستشهد القائد العظيم إبراهيم عبد التواب, وكان ذلك آخر ما أطلقه العدو على هذه النقطة الحصينة, ويستشهد القائد البطل في المكان الذي أشار إليه, ويكفن بالعلم الذي احتفظ به ويدفن في المكان الذي أشار إليه. وكانت وصية العقيد إبراهيم عبد التواب الأخيرة قبل استشهاده لرفاقه : « كفنوني بعلم مصر، وسلموا ابنتي (مني) المصحف والمسبحة». المهمة كانت ثقيلة، والموت كان يحاصره من كل اتجاه، لكنه كان يقاتل بجسارة، يتقدم الصفوف، وصمد بجنوده وسط النيران والحصار 134 يوماً في قاعدة كبريت.