كل سنة ومصر بخير وعلى خير إلى يوم الدين بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر المجيدة... شهر أكتوبر جعله المصريون فى عام 1973 زلزالاً هز العالم المستسلم لوهم أن العرب سقطوا ولن ينهضوا والجيش الذى لا يقهر جاهز فى أى وقت ومكان لقهرهم.. وجاء أكتوبر 1973 ليبدد هذا الوهم وجيش مصر العظيم قهر الجيش الذى لا يقهر وأسقط الأسطورة وحقق أعظم انتصار!. نحن فى شهر أكتوبر الذى جعلناه شاهدًا على أن العرب قادرون على مواجهة العالم كله إن اتفقوا واتحدوا!. شاهدًا على عبقرية شعب وشجاعة جيش!. شعب تعرض وطنه لأسوأ هزيمة فى تاريخه.. وبالصبر والجلد والثقة والأمل والحب والإخلاص بدأ!. بدأ من تحت الصفر.. وسط ظلام حالك تحسس نفسه فأيقن أنه حى لم يمت!. بفطرته العبقرية أيقظ فى نفسه بنفسه قدراته الكامنة الهائلة المميزة له.. الشهامة والرجولة والشجاعة.. وما إن حررها من كمونها.. غرس بذرة الانتصار فى جسد الهزيمة بعد أيام قليلة من وقوعها.. غرسها وحرسها بروحه وقدم كل ما يملك لتنمو وتكبر.. تحمل الشعب ما لا يتحمله بشر لمحو الهزيمة واستعادة الأرض!. تنازل طواعية عن أساسيات حياتية كثيرة ولا أقول الكماليات!. رضى بحب وقبل بوعى النقص الهائل فى المواد التموينية. عن يقين لا يقبل أى شك بحتمية الجَلد وحتمية الصبر وحتمية الثقة!. الثقة فى أنه قادر على التضحية.. وفى أول اختبار نجح شعب مصر بامتياز!. قدم من أبنائه مليونا و200 ألف شاب لجيشه!. الشعب يعلم أن كل شىء يهون فى سبيل تحرير الأرض وإعادة الهيبة!. بدأ المشوار الأصعب فى تاريخ المحروسة.. الشعب فى ظهر جيشه داعمًا مؤيدًا مطمئنًا مُحبًا.. واثقًا فى أن جيشه سيحقق الانتصار!. بدأ المشوار الصعب بجيشك يا مصر على محورين: الأول.. الصمود والتصدى على الجبهة لعدو الغرور والغطرسة يمليان عليه تصرفاته.. ونفاق أغلب دول العالم وأولاها دول الغرب فى خدمته لتحقيق ما يحلم به!. الجيش عليه الصمود فى مواجهة العالم ممثلاً فى الصهاينة.. وعليه الاستعداد لحرب قادمة لا محالة!. جيش يعلم أن قسوة التدريب هى التى تأتى بالانتصار!. قرابة ست سنوات.. بذل فيها الرجال ما يفوق الخيال.. فى التدريبات الشاقة التى ثبت فيما بعد أنها كانت أصعب من الحرب نفسها!. الحياة القاسية التى جعلها الجيش أسلوب حياة.. هى التى حققت الانتصار الرائع!. هى التى أسقطت 17 نقطة قوية من خط بارليف قبل أن ينتهى يوم 7 أكتوبر.. أى بعد 30 ساعة فقط من بدء القتال.. سقط أكثر من نصف أقوى خط دفاعى عرفته الحروب بالعالم!. جيش دخل الحرب وهو يعلم أن كل طلقة تعويضها صعب!. كل طلقة هى من قوت شعب حرم نفسه من كل شىء لأجل دعم جيشه بالسلاح والذخيرة!. جيش يدرك أن كل قطعة سلاح صعب تعويضها!. أن السلاح الذى بين يديه.. أقل كمًا وكيفًا من سلاح العدو!. جيش عقيدته القتالية كلمتين وحرفين.. النصر أو الشهادة!. الجيش الذى يضع حياته على كف يده فداء للوطن.. صعب جدًا جدًا أن تقترب منه!. جيش عقيدته عوضت فارق التسليح الهائل ودهست الحاجز النفسى الرهيب لانحياز الغرب السافر للعدو!. حرب أكتوبر التى نحتفل بذكراها هى ملحمة عظيمة لم نُحسِن تخليدها!. هى عبقرية شعب قبل التحدى من أول لحظة ورفض تنحى عبدالناصر وجدد ثقته فى قيادته وفى جيشه!. شعب هو أول من بدأ التضحية وأول من بدأ الصمود وأول من بدأ الدعم!. قدم أبناءه لجيشه فداء للوطن!. ضاعف معدلات إنتاجه لأن الوطن فى حاجة لإنتاج مرتفع!. قلل معدلات استهلاكه لأن الوطن فى حاجة لكل مليم!. تنازل عن القليل المستورد لأن اقتصاد الحرب لا يتحمل دولارًا واحدًا نستورد به أى شىء بخلاف السلاح!. الشعب يقدم يومًا من مرتبه شهريًا للمجهود الحربى!. سيدات وبنات مصر فى الريف قبل الحضر يتبرعن بالمشغولات الذهبية وأغلبهن تبرعن بالحلق والسلسلة والخاتم والثلاثة كل ما يملكن.. لكن يحرم علينا الذهب وأرضنا محتلة!. طبيعى ومنطقى أن الشعب العظيم لابد أن يكون ابنه عظيمًا.. والجيش هو الابن البكرى للشعب المصرى!. حقيقى أن أى كلمات يستحيل عليها أن تعطى جيشك يا مصر حقه وتصف شجاعته وتحكى بطولاته.. وأعتقد أنه بعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيش مصر.. بأنهم خير أجناد الأرض وفى رباط إلى يوم الدين.. بعد هذه الشهادة.. تتضاءل أى شهادة!. فى ذكرى حرب أكتوبر.. لن أتكلم عن رأس العش ولا المدمرة إيلات التى أغرقناها ولا السبت الحزين ولا تأديب العدو وتدمير نقطة لسان التمساح ولا لسان بورتوفيق التى قتلنا فيها 44 من العدو ولا المجموعة 39 قتال للبطل إبراهيم الرفاعى ورفاقه ولا ال50 يوم حرب استنزاف ولا حائط الصواريخ المصرى للدفاع الجوى ولا نسور مصر الذين افتتحوا حرب أكتوبر بضربة جوية هائلة ولا مدفعية مصر الرهيبة التى فتحت الجحيم على العدو من 2000 مدفع لمدة 53 دقيقة استهلكت 3 آلاف طن ذخيرة!. فى الدقيقة الواحدة مدفعية مصر تطلق عشرة آلاف وخمسمائة دانة بواقع 175 دانة فى الثانية!. لن أتكلم عن معارك المدرعات وشراستها ويكفى أننا دمرنا 400 دبابة للعدو فى أول يومين!. لن أتكلم عن جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل وهى تبكى فى مكالمة تليفونية مع كيسنجر وزير خارجية أمريكا.. تبكى وتقول: أنقذوا إسرائيل!. لن أتكلم عن حرب الاستنزاف الثانية، 80 يومًا فى حصار العدو بالثغرة!. الثغرة التى أوقع العدو نفسه فيها وكان يمكن أن تكتب نهاية دولة الصهاينة لولا التدخل السافر لأمريكا التى أعلنت دخولها الحرب فيما لو صممت مصر على تصفية الثغرة!. الصهاينة الذين لم ينسحبوا يومًا من متر أرض احتلوه.. قبلوا الانسحاب من الثغرة بل من كل سيناء.. لعلمهم وعلم أمريكا أنهم فى الثغرة هم فى قبضة جيش مصر!. حرب أكتوبر وحدها 64 معركة انتصرنا فى 53 معركة.. والمعركة فى هذا التوصيف لواء فما فوق!. اليوم أترك ال54 معركة جميعًا وأتوقف أمام ملحمة فداء خالدة بكل المقاييس صنعها اللواء 130 مشاة أسطول برمائى هو نتاج عبقرية فكر وتخطيط وإعداد العسكرية المصرية!. ملحمة صمود أغرب من الخيال.. ليس هذا مستغربًا ولا هو جديد على جيشك يا مصر ابن هذا الشعب العبقرى الذى سبق وضرب أعظم مثل فى أعظم تجربة وأدهش العالم بملحمة صموده وقوته ووحدته وتماسكه فى السنوات الأصعب التى مرت عليه فى حياته بعد هزيمة 1967!. قوة العزيمة والثقة القوية المطلقة فى قدرة الجيش على الانتصار.. كانوا أهم تطعيم للشعب ضد الحرب النفسية الهائلة للعدو وللغرب ولإذاعة لندن.. أكاذيب وإشاعات وتيئيس وفتن.. وحديث لا ينقطع عن حتمية نسيان حدوتة الأرض والقبول بالأمر الواقع لاستحالة دخول مصر تحديدًا والعرب عمومًا فى أى حرب مع العدو!. الشعب المصرى بعبقريته الفطرية الموجودة فى الكفور والنجوع والقرى والمدن.. لم تجرفهم الأكاذيب ولم يبتلعوا طُعم الفتنة ولم يرددوا الشائعات.. فبقى الشعب متماسكًا واثقًا داعمًا لجيشه.. فجاء الانتصار!. ملحمة الصمود التى أتكلم عنها اليوم حدثت فى منطقة كبريت شرق القناة وجنوب البحيرات المرة!. ملحمة صمود ليس لها مثيل صنعها 400 مقاتل بطل بقيادة الشهيد إبراهيم عبد التواب.. صنعوا مجدًا غير مسبوق فى الحروب.. يوم صدرت الأوامر للواء 130 مشاة أسطول برمائى بقيادة العقيد محمود شعلان باقتحام البحيرات المرة يوم 6 أكتوبر وما أن نفذوا المهمة دخلوا فى معارك طاحنة مع العدو ونجحوا فى الوصول إلى شرق البحيرات.. وقبل أن يلتقط الرجال أنفاسهم كانت فى انتظارهم مهمة جديدة هى احتلال رأس شاطىء لتأمين عبور القوات الرئيسية لشرق القناة.. ونجحوا فى مهمتهم رغم قسوة الاشتباكات بقية ليل 6 أكتوبر ويوم 7 أكتوبر بأكمله!. حتى الآن حضراتكم معى فى أن الرجال من لحظة اقتحامهم للبحيرات المرة ظهر 6 أكتوبر.. وهم لم يغمض لهم جفن على مدى 34 ساعة متواصلة!. قد يسأل البعض.. هل يمكن حدوث ذلك؟. بكل ثقة أقول نعم.. أقولها عن تجربة عشتها لا مَكْلَمَة سمعتها!. وجاءت تعليمات جديدة فى الثانية فجر 8 أكتوبر بمهاجمة نقطة كبريت إحدى نقاط خط بارليف القوية والتى باتت تشكل خطرًا على القوات فى عبورها للقناة!. الهجوم على نقطة قوية يختلف عن احتلال رأس شاطئ!. النقطة القوية أغلبها 200*200 متر بمساحة 40 ألف متر مربع أى ما يعادل مساحة 10 فدادين تقريبًا!. النقطة القوية فى داخلها على الأقل ثلاث نقاط.. كل واحدة منها إنتاجها من النيران رهيب.. لأننا نتكلم عن كثافة نيران من أسلحة مختلفة.. تبدأ بالرشاش الخفيف وتنتهى بمدفعية ثقيلة!. نعم.. هذا هو خط بارليف الذى رآه العالم أقوى خط دفاعى عرفته الحروب!. خط بارليف فيه 31 نقطة قوية.. كل نقطة لها مجال نيران تغطى مساحة معينة ومجال دفاع عن النقطة التى بجوارها.. ومجموع نيران ال31 نقطة كفيل بسحق أى هجوم.. إذا ما فكر المصريون فى الحرب.. فماذا حدث؟. المصريون فكروا فى الحرب وخططوا لها ببراعة وعبقرية ويكفى خطة الخداع التى خدعت أمريكا بأقمارها الصناعية وطائرات تجسسها التى تطير إلى ارتفاع 30 كيلو وتقدم صورًا للأرض كأنه تم التقاطها فى استوديو!. لا الأقمار فلحت ولا الطائرات نجحت وخطة الخداع أفادت قواتنا فى العبور!. خطة الخداع من جهة وغطرسة وغرور العدو من جهة.. سهلوا المهمة جدًا!. موشى ديان وزير دفاع العدو فى تعليق على البيان العسكرى المصرى.. عن اقتحام جيش مصر للقناة وتدميره لبعض النقاط القوية وحصاره لأخرى.. ديان حينما سأله الصحفيون عن رأيه فى البيان المصرى.. قال: لا تقلقوا.. يومان للتعبئة.. ويومان للقضاء على الجيش المصرى.. ويومان لتهديد القاهرة!. نعود لأقوى خط دفاعى وهو بالفعل أقوى مما يتصور حضراتكم فى تمركز نقاطه وحجم أسلحته ونوعيتها ولكن!. تطور السلاح مهم لكن نوعية الرجل الذى يحمل السلاح أهم!. من الآخر.. جيشنا خير أجناد الأرض.. والعقيدة القتالية كافية لتعويض أى فارق!. جيشنا لم يأخذ حديث الرسول ونام عليه.. إنما ست سنوات تدريبات أقل وصف لها أنها شاقة!. جيشنا المدعوم بشعبه فى عام 1973 لو الصهاينة عفاريت زرق ومعاهم سلاح الدنيا.. نفس الانتصار سيتحقق!. بعد هذه الجملة الاعتراضية الطويلة، أعود لحديثنا عن تكليف القيادة للكتيبة 603 من اللواء 130 مشاة أسطول برمائى.. بمهاجمة نقطة كبريت وإسقاطها!. كما قلت النقطة القوية لها ترتيبها وتخطيطها.. المهم أن الكتيبة التى يقودها المقدم إبراهيم عبدالتواب تحركت لإسقاط نقطة كبريت فى السادسة والنصف صباح 9 أكتوبر.. فى هذا الوقت كانت أكثر من 25 نقطة قوية قد سقطت تحت أقدام المقاتلين المصريين!. إسقاط نقطة كبريت لم يكن سهلاً.. لكنه كان حتميًا!. الكتيبة تعرضت لقصف مدفعية وطيران كثيف.. إلا أن إرادة الانتصار فرضت نفسها وسقطت النقطة القوية بعد فرار جنود العدو ذعراً من المصريين!. ولم يُعْطِ المقدم إبراهيم عبدالتواب تمام الاستيلاء على النقطة إلا بعد تمشيطها والتأكد من عدم وجود أحياء على أرضها!. جن جنون العدو لسقوط نقطة كبريت لثلاثة أسباب: الأول: أنها مركز قيادة تكتيكى للعدو الثانى: لأنها تسيطر على كل التحركات شرق وغرب كبريت الثالث: هى ملتقى الطرق العرضية شرق القناة بالنسبة لنا نقطة كبريت لها أهمية رابعة إنها فى المنطقة الفاصلة بين الجيشين الثانى والثالث. ما توقعه المقدم إبراهيم عبدالتواب حدث!. توقع قصف نيران من أول ضوء لأول ضوء.. طوال اليوم «يعنى»!. العدو مستميت لاستعادتها ونحن.. «إنسى» يا عدو!. جربوا الضرب بالطيران.. لم يفعل شيئًا!. قالوا ربما المدفعية تأتى بنتيجة!. يمكن الهاون يفعلها.. لم يحدث.. والذى حدث جعلهم يتجننوا بحق!. وسط القصف الذى لا يتوقف.. قامت الكتيبة بالإغارة على مواقع العدو.. وعادت بعدة أسرى تم إرسالهم للقيادة فى مصر قبل أن يأتى النهار!. فشل القصف وفشلت لغة الصواريخ والدانات والقنابل.. فلجأوا إلى الحصار!. حصار دام أكثر من 134 يومًا!. عدو أكثر عددًا وأكثر تسليحًا فى مواجهة 400 مقاتلاً أثبتت الأيام ال 134 أنهم بحق وعن حق خير أجناد الأرض!.. العدو منع كل الإمدادات والعدو يوميًا يفتح نيرانه عليهم!. العدو تصور أنها أيام وسوف يستسلمون!. فات يوم واثنان وعشرة وعشرون وخمسون وثمانون و134 يوماً.. والرجال صامدون وبقيت كبريت صامدة طاهرة لم تدنسها قدم صهيونى!. العدو عرض على إبراهيم عبدالتواب الاستسلام وضمان المعاملة الحسنة!. العدو عاد وجدد عرضه بأن يفتح ممرًا آمنًا يخرج منه القائد المصرى وجنوده بسلاحهم!. العدو بدأ يشك فى نفسه من قوة وصمود المصريين!. وله حق أن يشك وللعالم حق أن يندهش.. كيف للمقاتلين المصريين قوة الصمود هذه وهم فى حصار داخل حصار أكبر على الجيش الثالث؟. من أين جاء المقاتلون المصريون بكل هذه الثقة وكل هذه الشجاعة وكل هذا الانتماء وكل هذا الترابط؟. العالم فات عليه.. أن قوة نقطة كبريت من المقاتلين.. هم أبناء الشعب المصرى!. العالم فيما يبدو نسى.. أن هذا الجيش العظيم هو ابن شعب أعظم قدم للعالم كله درسًا فى الصمود والانتماء والولاء والثقة والحب والإخلاص.. يوم زرع الانتصار فى أرض الهزيمة بعد 1967!. ما حدث فى فترة الحصار لرجال كبريت وقائدهم.. رسالة صمود رائعة.. ما أحوجنا نحن المصريين لتذكرها لأن مصر كلها الآن تحت الحصار من دول كثيرة.. المساحة انتهت والكلام لم ينته وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله. تحية إلى جيش مصر فى الأمس واليوم والغد وكل غد. لمزيد من مقالات إبراهيم حجازى