فى بداية هذا المقال ثمة سؤالان: لماذا جامعة هارفارد؟ ولماذا هذه الفترة الزمانية؟ تأسست جامعة هارفارد فى عام 1636 عندما تبرع قس ورع مهاجر اسمه جون هارفارد ب 780 دولاراً و260 كتاباً. ثم تطورت إلى أن أصبحت جامعة يقال عنها إن سحرها فى هيبتها، وهيبتها تكمن فى أنها الجامعة المؤثرة على سياسة أمريكا بل على سياسة العالم برمته، وهى كذلك لأنه يقال عنها إنها خزان فكر بلا منافس. من خريجيها ستة من رؤساء أمريكا وعديد من قضاة المحكمة العليا. وكثير من أعضاء الكونجرس والعلماء والأدباء. وفى مقدمة هؤلاء جميعاً هنرى كيسنجر. فأنت لا تستطيع ذكر اسمه من غير ذكر هارفارد. بل إن الأديب السوفييتى المنشق الكسندر سولجنستين قد رفض عدة دعوات من جامعات ومؤسسات مدنية لالقاء محاضرة، ولكنه لم يتردد فى الاستجابة عندما دُعى من جامعة هارفارد. وعندما سئل: لماذا اخترت هارفارد؟ كان جوابه: لأن هارفارد هى هارفارد. ومع ذلك فإن ما هو جدير بالتنويه هى العلاقة الخاصة القائمة بين جامعة هارفارد وجهاز المخابرات الأمريكية. وعندما طُلب من ممثل الجهاز ديرك بوك أن يكف عن تجنيد الطلاب كان جوابى كالآتى: إن لأمريكا مؤسستين: جامعة هارفارد وجهاز المخابرات ومصالحهما متداخلة. ومن هنا فإن تجنيدها للطلاب أمر مشروع. ومع بداية الحرب الباردة بين الكتلة الشيوعية والكتلة الرأسمالية أنشأ أساتذة جامعة هارفارد «مركز البحوث الروسية». وكان أول مشروع قام به المركز هو «مشروع الحوار مع اللاجئين» من المعسكر الشيوعى. وقد استعانت المخابرات الأمريكية بهذه الحوارات لكى تسبر أغوار شخصيات هؤلاء اللاجئين لتكشف عن المآسى الاقتصادية والسياسة والنفسية ولكى تستعين بها فى العمليات التى تقوم بها داخل النظام الشيوعى، بل إن بحوث هذا المركز قد امتدت إلى بلدان العالم الثالث لفهم عقلية المتمردين على السلطة. وفى ميدان جامعة هارفارد يلتقى الطلاب العرب فى مقهى أو فى مطعم ويتحاورون بحدة أحياناً وبمداعبات أحياناً أخرى حول الصراع العربى الاسرائيلى. كلهم يحضرون سمينار هنرى كيسنجر، وكلهم يؤدون بعد ذلك أدواراً سياسية متميزة فى الشرق الأوسط. ومن أشهر هؤلاء أحمد زكى يمانى خريج كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وفى عام 1966 أصبح وزير البترول فى المملكة السعودية التى تتحكم فى صناعة البترول. وقد قالت جريدة «نيويورك تايمز» أن القوة الحقيقية فى عالم البترول فى قبضة العرب بوجه عام وقبضة الشيخ المبدع أحمد زكى يمانى. وفى صيف 1946 أبحر ستة مصريين فى اتجاه بوسطن وأطلقوا على أنفسهم من باب الدعابة «الحجاج العرب». وكانوا قد حصلوا على منح من جامعة هارفارد ثم تخرجوا وأصبحت أسماؤهم مرموقة فى الدوائر الاقتصادية والقانونية والتعليمية فى مصر. دكتور عزيز صدقى. تخصصه تخطيط مدن وأصبح رئيس وزراء دكتور محمد مرزبان. تخصصه علوم سياسية ثم أصبح أستاذاً بجامعة القاهرة ورشحه دكتور عزيز صدقى ليكون نائباً لرئيس الوزراء. دكتور أشرف غربال. تخرج فى كلية الحقوق ثم أصبح مستشاراً للرئيس السادات. أدى دوراً رئيسياً فى إعادة العلاقات بين مصر وأمريكا، ومن ثم عينه السادات سفير مصر لدى أمريكا لمدة ست سنوات لمواجهة الأزمات عندما تشتد. دكتور زكى هاشم. أصبح عميداً لكلية الحقوق بجامعة القاهرة دكتور يحيى الملا. تخصصه اقتصاد، وأصبح مستشاراً شخصياً لكل من عبد الناصر والسادات. غسان توينى. الوحيد الذى لم يحصل على درجة الدكتوراه. فقد توقف عن استكمالها وارتحل إلى مصر ليتولى مسئولية أسرته بعد وفاة والده. ولكنه أصبح بعد ذلك من القيادات فى مجال الصناعة والمال. إلا أن ما هو جدير بالتنويه هو أن جامعة هارفارد تموج بالطلاب اليهود وقلة من الطلاب العرب الأمر الذى من شأنه أن يسبب احساساً بالعزلة والغربة لدى هذه القلة. هذا جوابى عن السؤال الأول: لماذا هارفارد؟ ويبقى بعد ذلك الجواب عن السؤال الثانى: لماذا الفترة الزمانية من 1976 إلى 2005؟ فى ابريل 1976 ارتحلت إلى بوسطن لاجراء حوارات مع الفلاسفة فى جامعة هارفارد بناء على دعوة من ادارتها وذلك على غرار الحوارات التى أجريتها مع الفلاسفة السوفييت فى جامعتى موسكو ولننجراد. ودار الحوار فى البداية مع أستاذ فى علم الاقتصاد وخبير فى الوقت ذاته فى الاقتصاد المصرى. سألته: مع حضور أمريكا إلى مصر بديلاً عن الاتحاد السوفيتى إثر انتهاء حرب 1973 إلى أى مدى يمكن القول بأن أمريكا هى السبب فى تأسيس علاقة عضوية بين ظاهرتين: الأصولية الدينية والرأسمالية الطفيلية؟ أجاب: هذا التأسيس «مقصود» حتى يمكن تصفية القطاع العام وبعد ذلك يبزغ القطاع الخاص. وكان ردى هكذا: أنا لست متخصصاً فى الاقتصاد ومع ذلك فأنا أظن أن هاتين الظاهرتين، من حيث إنهما متضادتان مع مسار الحضارة الانسانية، تفرزان معاً قيماً طفيلية، وبالتالى يكون من العسير بل من المحال تأسيس قطاع خاص لايستقيم تأسيسه إلا مع إعلاء سلطان العقل، ومن ثم إعلاء سلطان العلم. وهذا هو تأويلى لما كان يسمى فى بلادنا فى السبعينيات من القرن العشرين «الانفتاح الاقتصادى». ذهلت من لفظ «مقصودة» الوارد فى حوار أستاذ الاقتصاد ورحت أتتبع ما حدث بعد ذلك لهذه العلاقة العضوية بين الأصولية الدينية والرأسمالية الطفيلية ففوجئت بظاهرة جديدة اسمها «الارهاب» بدأت فى نهاية القرن الماضى وشاعت فى القرن الحادى والعشرين.وفى عام 2015 صدر كتاب لأستاذة قانون بجامعة هارفارد اسمها لويزة رتشاردسون عنوانه الرئيسى «ماذا يريد الارهابيون» وعنوانه الفرعى «فهم العدو واحتواء التهديد»؟ الجواب فى المقال القادم. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة