فى الآونة الأخيرة، فى ظل المصاعب الاقتصادية والأوضاع المعيشية القاسية، وتدهور قيمة الجنيه، ستندهش حينما يتحسر البعض على الأيام التى كان فيها الجنيه يساوى أكثر من دولارين (ويعادل الجنيه الاسترليني). لا ضير إذا توقف الأمر عند أحاديث الذكريات، ولكن تغيب الحقائق وتختلط الآراء بين أفراد النخبة وتتباين المواقف من السياسة الاقتصادية الواجبة حينما ينظر البعض إلى سعر الصرف (الجنيه مقابل الدولار أو أى عملة أجنبية أخري) وكأنه رمز من رموز الدولة مثل العَلَم والنشيد الوطني، وعلينا أن نحافظ على قيمته دفاعنا عن الشرف والكرامة. سعر الصرف للعملة الوطنية ليس سوى سعر مثل أسعار كل السلع والخدمات، كما سأبين فيما بعد. حتى السبعينيات من القرن الماضى كانت 35 دولارا تشترى فى الأسواق الدولية «أوقية» من الذهب، اليوم تساوى الأوقية حوالى 1330 دولارا. ليس لهذا الانخفاض الهائل فى قيمة الدولار علاقة بمشاعر الأمريكيين تجاه كرامة الدولار أو عزة أمريكا. من يعترضون على - أو يرفضون - تخفيض الجنيه يستندون إلى ثلاث حجج مترابطة. الأولي: أن مطلب التخفيض هو جزء من »وصفة» و «روشتة» يتبناها صندوق النقد الدولى ضمن سياسة يفرضها على الدولة التى تلجأ إليه للاقتراض الثانية: أن تخفيض الجنيه سيؤدى إلى موجة عارمة من ارتفاع الأسعار والتضخم فى وقت يعانى فيه المصريون من حدة الغلاء وزيادة معدلات التضخم بالفعل. الثالثة: ليس هناك ما يضمن أن يؤدى تخفيض الجنيه وتوحيد السعر بين البنك المركزى والسوق الموازية (السوداء) إلى عدم عودة ظهور السوق السوداء وانخفاض الجنيه من جديد. تخفيض الجنيه ركن أساسى فى برنامج الإصلاح. نعم...... تخفيض الجنيه سينطوى على مزيد من ارتفاع الأسعار. ولكن عدم التخفيض واستمرار التمسك بسعر رسمى للدولار عند 8.8 جنيه، لم يمنع من تواصل الزيادة فى معدل التضخم حتى بلغ 16.4% سنوياً. الاختلالات المالية (عجز الموازنة بصفة خاصة) هى السبب وراء ارتفاع معدل التضخم عن مستوى نظيره لدى الشركاء التجاريين الدوليين، ومن ثم تدهور قيمة العملة الوطنية. إلقاء الضوء على التجربة العملية فيه إفادة. الواقع يبين أن تخفيض الجنيه قد يؤدى إلى زيادة الأسعار لفترة محدودة ولكن معدل التضخم سيعود للاستقرار وكبح جماحه عند الاستمرار فى اتباع سياسة صحيحة. كانت هذه هى الحالة فى أوائل التسعينيات وكذلك عندما تم تخفيض الجنيه فى فبراير 2003. فقد زاد معدل التضخم باضطراد خلال شهور سنة 2003 من 3.1% إلى 5.7%. ثم أخذ فى الارتفاع مع بدء تحسن الأداء الاقتصادى إلى أن بلغ ذروته (9.6%) ثم عاود تراجعه لينخفض فى نهاية 2005 إلى 3.1% مرة أخري. هل نضمن أن تخفيض الجنيه، ووضع نهاية لازدواج سعر الصرف، لن يعود مجدداً نتيجة لنشوء ضغوط جديدة ومضاربات واختلال فى ميزان المدفوعات، ومن ثم عودة انخفاض الجنيه؟ يتوقف الأمر - فى النهاية - على السياسات المصاحبة لقرار التخفيض ومستواه، وما يتلوها من إجراءات. وبدلاً من المحاججة النظرية سأكتفى هنا بالإشارة، مرة أخري، إلى تجربة مصر مع تخفيض الجنيه فى 2003. ارتفع سعر الدولار من 3.65 جنيه فى سنة 2000 إلى متوسط 4.63 جنيه فى 2002، تم ارتفاعه فى 2003 إلى متوسط 5.86 جنيه (أى تخفيض للجنيه بنسبة 26.6%)، وواصل ارتفاعه إلى 6.19 جنيه فى 2004 (انخفاض للجنيه بنسبة 5.6 %)، ثم بدأت رحلة التراجع للدولار (!!) لينخفض سعره لدى البنوك ومحلات الصرافة إلى 5.5 جنيه فى 2005 (أى ارتفع سعر الجنيه بنسبة 7%)، وبقى مستقراً حول هذا السعر حتى نهاية 2010. وربما يتشكك البعض فى فعالية قرار التخفيض فى حالة الاقتصاد المصري. الواقع والتجربة لا يؤيد التوقعات والاستنتاجات السلبية. لنراجع معاً هذه الحقائق: بعد تخفيض الجنيه أخذت الصادرات غير البترولية فى الزيادة من حوالى 5 مليارات دولار فى 2003 إلى 8.5 مليار دولار فى 4/2005 وإلى 14.9 مليار فى 7/2008 ، ثم تراجعت منذ 10/2011 حتى انخفضت إلى حوالى 13 مليار دولار فى 14/2015. زادت إيرادات السياحة من 3.8 مليار دولار فى 2/2003 إلى 6.4 مليار فى 4/2005 وإلى 10.8 مليار فى 7/2008 وبلغت ذروتها فى 9/2010 لتصل إلى 11.6 مليار دولار. ثم أخذت فى الانخفاض إلى حوالى 7 مليارات فى 14/2015. لم تنخفض المدفوعات عن الواردات (كما تقضى أصول النظرية كأثر لتخفيض العملة) بل أخذت الواردات البترولية وغير البترولية فى الزيادة من حوالى 18 مليار دولار فى 3/2004 حتى بلغت 50 مليارا فى 8/2009. كانت الزيادة فى الواردات من السلع الوسيطة والرأسمالية مصاحبة لارتفاع معدلات النمو الاقتصادى فى تلك الفترة. ويصعب مع ذلك فهم استمرار زيادة الواردات رغم انخفاض سعر الجنيه وتضاؤل النمو الاقتصادى منذ 2011، إذ ارتفعت من حوالى 49 مليار دولار فى 9/2010 إلى أكثر من 61 مليار فى 14/2015. نتيجة لهذه التفاعلات بدأ الحساب الجارى لميزان المدفوعات فى تحقيق فائض يضاف إليه تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ومن ثم ارتفع الفائض فى الحساب الكلى لميزان المدفوعات وتراكم صافى الاحتياطيات الدولية، الذى بلغ 54.6 مليار دولار فى 2010. انعكست الاضطرابات الأمنية والسياسية والاختلالات المالية على أوضاع المعاملات مع العالم الخارجى وأخذ عجز الحساب الجارى لميزان المدفوعات فى الزيادة من مستوى 4 مليارات دولار فى سنوات ما بعد الأزمة العالمية إلى أكثر من 6 مليارات فى 10/2011 ثم أكثر من 10 مليارات فى 11/2012، ورغم تراجعه كثيراً بسبب تدفق التحويلات الخارجية فقد عاد للزيادة إلى أكثر من 12 مليارا فى 14/2015. وانخفض صافى الاحتياطيات الدولية إلى 15.6 مليار دولار فى 2015. لا شك فى أن سياسة سعر الصرف والسياسة النقدية بصفة عامة كانت بالغة التأثير فى أحوال الاستقرار (أو الاختلال) فى ميزان المدفوعات بل والنشاط الاقتصادى بأكمله. وإذا كان ما سبق من إيضاحات مقنعاً بضرورة تعديل سعر الجنيه من خلال التعويم أو ز التعويم المدارس فمن غير الملائم تركه ليتحدد مباشرة فى السوق بدون مقدمات. سيتطلب الأمر من الحكومة والبنك المركزى تدبير موارد كافية لمواجهة الطلب على الاستيراد ( 30 - 35 مليار دولار منح وقروض إضافية سواء من الصندوق والبنك الدولى أو الدول الشقيقة ) وكذلك البدء بتحديد ما بُعَد سعراً واقعيا للجنيه. ربما تتولى مراكز أبحاث متخصصة البحث فى هذه المسألة واستخدام أساليب رياضية / قياسية، ولكن يمكن اللجوء إلى مؤشرات أبسط من ذلك بكثير. بحسبة بسيطة سنجد أنه فى 3/2004 كان الجنيه مقوماً بأقل من قيمته بنسبة 8.5%، بينما كان سعره أعلى بنسبة 7% تقريبا فى 9/2010. فى الآونة الأخيرة كان سعر الجنيه أعلى من السعر الواقعى بحوالى 52%، وهو ما يعنى أن التخفيض يجب أن يكون فى هذه الحدود (0 .11 - 11.5 جنيه للدولار(. ماذا يحدث لو أن هذا التخفيض أكثر مما ينبغي؟ الأرجح أن تصحح حركة الصادرات والواردات الوضع، إلى جانب إمكانية استخدام أسعار الفائدة للوصول إلى التوازن. لكن دعونا نتذكر أيضاً أن البنك المركزى المصرى كان يدافع عن الدولار من خلال شرائه من البنوك عندما ارتفع سعر الجنيه أمامه فى 2004، كما أشرت أعلاه. ولا يمكن أن نفصل النتائج التى تحققت عن قرار المركزى آنذاك بالاحتفاظ بسعر منخفض ومستقر مما شجع على تدفق إيرادات النقد الأجنبي. الواقع أن إصرار الصين على الاحتفاظ بسعر اليوان (عملة الصين) بأقل من قيمته الحقيقية هو جزء هام من تنافسية الاقتصاد الصيني، مما يغضب كثيراً الاقتصادات الكبرى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية. العبرة ليست فى مستوى سعر العملة وإنما ما تحققه السياسة النقدية من أهداف الاستقرار المالى والنقدى وحفز النمو الاقتصادي. حمى الله مصر. أستاذ الاقتصاد وزير التخطيط الأسبق لمزيد من مقالات د . عثمان محمد عثمان