من بين مواطن الخلل فى المواجهة العربية الإسرائيلية. وهى بالمناسبة كثيرة- يبرز على نحو خاص موضوع العلم والبحث العلمى وبحوث التطوير والتكنولوجيا، حيث افتقد الجانب العربى ومنذ بداية الصراع إلى البنية العلمية والمؤسسية ومخرجاتها التكنولوجية والتقنية التى تنعكس على مجريات الصراع، فى حين أن الحركة الصهيونية وإسرائيل قبل إعلان قيامها كانت على وعى تام بأهمية هذه البنية العلمية المؤسسية على مجرى الصراع العربى الإسرائيلى وتدعيم وجود الدولة الإسرائيلية فى قلب العالم العربي. حيث امتلكت الحركة الصهيونية ومنذ بداية التفكير والتخطيط لإقامة دولة اليهود فى فلسطين إلى وعى متعمق بأهمية العلم والبحث العلمى والتكنولوجى فى نشأة الدولة وتعزيز تفوقها فى المحيط العربي، وقد أفضى ذلك إلى أن تعهد الحركة الصهيونية إلى حاييم وايزمان وهو أول رئيس لدولة إسرائيل بهذه المهمة، وكان وايزمان أحد علماء الكيمياء اليهود الذى يحمل الجنسية الألمانية وكان ينتمى إلى المدرسة العلمية الألمانية وتقاليدها وعندما اضطر للهجرة إلى المملكة المتحدة البريطانية ويروى أن وايزمان ساهم فى حل بعض مشكلات الذخيرة التى كان يواجهها جيش المملكة المتحدة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى وأن هذه المساهمة كانت أحد الدوافع التى وقفت وراء صدور وعد بلفور بإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين عام 1917 كتقدير لخدمات وايزمان للإمبراطورية البريطانية. تولى وايزمان مهمة إنشاء البنية العلمية فى فلسطين قبل نشأة الدولة ولعب الدور الأكبر فى صياغة النظام الأكاديمى الإسرائيلى ووضع الاستراتيجية العلمية التى تسترشد بنموذج العلم الألماني، فأنشأ (معهد التخنيون) للعلوم التطبيقية فى مجالات الهندسة والعلوم عام 1924، والجامعة العبرية فى القدس عام 1925، وتوالى بعد ذلك إنشاء الجامعات الإسرائيلية جامعة بارايلان 1955 وجامعة تل أبيب عام 1956 وحيفا عام 1963 والعديد من محطات الأبحاث والمختبرات ومعاهد الأبحاث المختلفة التى شكلت البنية الأساسية للمنظومة العلمية فى إسرائيل. ولا شك أن الوعى المبكر بأهمية العلم والبحث العلمى والتخطيط السابق على نشأة الدولة الإسرائيلية لتأسيس وترسيخ المنظومة العلمية فى إسرائيل، هو الذى مكن إسرائيل من التفوق وإعادة إنتاج هذا التفوق فى المجال العلمى والتطبيقى فى مواجهة العرب مجتمعين، لأن إسرائيل حرصت على الإنفاق على العلم والبحوث العلمية بمعدل يفوق المعدلات الدولية، 4.2% من مجمل دخلها القومى وهى نسبة تتجاوز المعدل الدولى بكثير، وتتجاوز فى نفس الوقت ما يخصصه العرب مجتمعين من الدخل القومى للإنفاق على البحث العلمى والعلم والتكنولوجيا وهو ما يقدر ب 0,2%، وقد ضمن ذلك لإسرائيل التفوق على العرب فى كافة المؤشرات المعتمدة دوليا لقياس الإنتاج والأداء العلمى وجودته، سواء فيما يتعلق بالنشر العلمى فى المجلات المحكمة، أو الاقتباسات من هذا الإنتاج والبحوث المنشورة، أو الإنفاق على العلم والتكنولوجيا والبحوث منسوبا للفرد، أو عدد العلماء مقارنة بعدد السكان. يضاف إلى ذلك أن ترسيخ ودعم هذه البنية العلمية فى إسرائيل وتدعيمها وتمويلها المتواصل فى الارتفاع سواء من قبل الحكومة والدولة ومؤسساتها أو من قبل القطاع الخاص قد ساهم فى دعم الجماعة العلمية فى إسرائيل من حيث تعزيز مصداقيتها وجديتها ونصيبها فى إنتاج المعرفة العالمية الحديثة ووفر لهذه الجماعة العلمية شبكة واسعة من العلاقات والتواصل والتبادل العلمى مع مختلف الجماعات العلمية الغربية والعالمية وما يعنيه ذلك من تشاور واستكمال للأبحاث وتبادل الآراء العلمية وبلورة النتائج وصياغتها، وكذلك حفز صناديق التمويل للأبحاث العلمية على تمويل ومساعدة الباحثين والعلماء الإسرائيليين فى مجالات أبحاثهم. ومن ناحية أخرى فإن هذا الدعم وهذا التواصل والانفتاح على الجماعات العلمية الغربية والعالمية ساهم فى رفع نسبة مشاركة الباحثين الإسرائيليين فى المؤتمرات العلمية بالخارج وتعزيز قدرتهم على تنظيم مثل هذه المؤتمرات العلمية فى الداخل وقد ساهم ذلك فى رفع نسبة مساهمة إسرائيل فى براءات الاختراع مقارنة بالجانب العربي. نظرت الحركة الصهيونية وإسرائيل منذ البدايات إلى العلم والبحث العلمى نظرة موضوعية ومستقبلية فالعلم والبحث العلمى بالذات فى علوم الطبيعة والفيزياء ليس مجرد ترف أو استكمال لشكل الدولة، بل هو أى العلم والبحث- استثمار فى المدى المتوسط والطويل يؤدى إلى زيادة الإنتاجية وتدعيم موارد الدولة وتعزيز المناعة الوطنية فى مجال الدفاع والأمن. ورغم وعى النخبة العربية بذلك التحدى منذ عام 1948 تاريخ المواجهة العربية الإسرائيلية الأولى وتاريخ النكبة إلا أنه لم يتغير الكثير منذ ذلك التاريخ، حيث يفتقد العالم العربى أو غالبية دوله إلى استراتيجية علمية وبحثية لتجاوز هذه الفجوة المعرفية العلمية التى تفصله عن العالم عموما وعن إسرائيل خصوصا، أى استراتيجية تعمل على تبيئة العلم فى المجتمعات العربية وتأسيس بنية علمية مؤسسية تعنى بترسيخ البحث العلمى والتطبيقى واستثمار عائده فى زيادة مواردنا وتعزيز مناعتنا، بل على العكس من ذلك يبدو وكأننا فى العالم العربى قد استمرأنا على استهلاك ما ينتجه الآخرون بل وأحدث ما ينتجونه طالما نمتلك القدرة المالية على ذلك بدلا من استثمار هذه القدرة فى إرساء قواعد وبنى مؤسسية علمية تنتج ما نحن بحاجة إليه وكأن ثقافتنا غير قادرة على التطور لتلبية احتياجاتنا وإشباعها. القادرون منا ماليا والأغنياء من رجال الأعمال والأثرياء الجدد يحرصون على بناء القصور والتنافس فى بنائها والاستيلاء على الشواطئ العامة لتحويلها إلى شواطئ خاصة معزولة ويتنافسون فى التباهى بالتملك العقارى إن فى مصر أو فى خارج مصر، ولم يخطر ببالهم أهمية الاستثمار فى حفز العلم والبحث العلمى وبناء المنظومة العلمية وكأن العلم والبحث العلمى رجس من عمل الشيطان ينبغى تجنبه فى حين أنه أى العلم قوة إنتاجية تراكمية ومطلوب ولو فى الصين. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد