غدا.. "الصحفيين" تحتفل بميلاد رواد المهنة وتكرم الحاصلين على الماجستير والدكتوراه    أسعار اللحوم اليوم الثلاثاء 30 أبريل 2024 في أسواق الأقصر    ارتفاع الناتج الصناعي في اليابان بنسبة 3.8% خلال الشهر الماضي    تصالح مخالفات البناء.. "الإجراءات والمتطلبات"    عاجل:- "بايدن" يشكر الرئيس السيسي على جهوده في إيصال المساعدات إلى غزة    موعد مباراة برشلونة المقبلة في الدوري الإسباني    توقعات درجات الحرارة في مصر اليوم الثلاثاء 30 أبريل 2024    اشعلوا النيران في منزل الأشقاء.. محاكمة 7 متهمين استعرضوا القوة بمنشاة القناطر اليوم    أولى جلسات استئناف على حكم رفض إثبات نسب طفل للاعب الكرة إسلام جابر.. اليوم    سعد الدين الهلالي يرد على تصريحات زاهي حواس حول وجود الأنبياء في مصر    باسم خندقجي: الروائي الذي فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية من خلف القضبان    مجلس الشيوخ يستأنف جلساته العامة اليوم    بكاء ريهام عبد الغفور أثناء تسلمها تكريم والدها الراحل أشرف عبد الغفور    ختام عروض «الإسكندرية للفيلم القصير» بحضور جماهيري كامل العدد ومناقشة ساخنة    «طب قناة السويس» تعقد ندوة توعوية حول ما بعد السكتة الدماغية    ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه اليوم في البنوك    حقيقة نشوب حريق بالحديقة الدولية بمدينة الفيوم    الجيش الأمريكي ينشر الصور الأولى للرصيف العائم في غزة    مقتل 3 ضباط شرطة في تبادل لإطلاق النار في ولاية نورث كارولينا الأمريكية    اندلاع اشتباكات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في مخيم عسكر القديم شرق نابلس    تعرف على أفضل أنواع سيارات شيفروليه    ظهور خاص لزوجة خالد عليش والأخير يعلق: اللهم ارزقني الذرية الصالحة    مباراة من العيار الثقيل| هل يفعلها ريال مدريد بإقصاء بايرن ميونخ الجريح؟.. الموعد والقنوات الناقلة    تعرف على أسباب تسوس الأسنان وكيفية الوقاية منه    هل أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء؟.. دار الإفتاء تجيب    حبس 4 مسجلين خطر بحوزتهم 16 كيلو هيروين بالقاهرة    العميد محمود محيي الدين: الجنائية الدولية أصدرت أمر اعتقال ل نتنياهو ووزير دفاعه    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    لتلوثها ببكتيريا برازية، إتلاف مليوني عبوة مياه معدنية في فرنسا    تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    محلل سياسي: أمريكا تحتاج صفقة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أكثر من اسرائيل نفسها    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    نظافة القاهرة تطلق أكبر خطة تشغيل على مدار الساعة للتعامل الفوري مع المخلفات    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة فى قنا    د. محمود حسين: تصاعد الحملة ضد الإخوان هدفه صرف الأنظار عن فشل السيسى ونظامه الانقلابى    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30 أبريل في محافظات مصر    أستاذ بجامعة عين شمس: الدواء المصرى مُصنع بشكل جيد وأثبت كفاءته مع المريض    مفاجأة صادمة.. جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    عيار 21 الآن يسجل تراجعًا جديدًا.. أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 30 أبريل بالمصنعية (التفاصيل)    «هربت من مصر».. لميس الحديدي تكشف مفاجأة عن نعمت شفيق (فيديو)    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    توفيق السيد: لن يتم إعادة مباراة المقاولون العرب وسموحة لهذا السبب    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    تقديم موعد مران الأهلى الأخير قبل مباراة الإسماعيلى    خليل شمام: نهائى أفريقيا خارج التوقعات.. والأهلى لديه أفضلية صغيرة عن الترجى    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رأس مضاد
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 09 - 2016

فى السابعة عشرة، تمكّنَ هذا الولد من إخفاء حفنة نجوم تحت قدميه دون أن يراه أحد. رفرفت معه طيور الدنيا، طارت الفراشات كرنفالية الألوان فى غناء «ليلى نظمي»: «جَاى منين؟.. م الثانوية. رايح فين؟ ع الكُلّية».
نعم، كل ذلك رائع.. لكنه مأخوذ بنداء حاسم: على الكُليّة سِرْ. يسمع الصوت آمراً، بلهجة ممطوطة حازمة، من جهة مجهولة.. جهة فى مداها البعيد شيء مُغوٍ وغامض. يسحب الملف غالى الثمن ويذهب مع الذاهبين لاختبارات يعرف أنها غير عادية.
فى اليوم الأول يرى الوجوه البيضاء المُحمرّة للمتقدمين معه. ماذا يأكلون؟ سؤال لم يكن يشغله سوى تجاه وجوه البنات الفائحات بالحلاوة. وجد نفسه مشغولا بنفس السؤال نحو هؤلاء الزملاء الذين يبادلون بعضهم الابتسام كأنهم جاءوا من شارع واحد. فى المقابل كل شيء يُحرضه على الشعور بالهَيبة، خصوصا الأقدام الدابّة على الأرض بصرامة، وأصحابها بوجوههم المزمومة، وهيأتهم المشدودة.
يترجرج القمر المخبوء فى صدره. يوشك أن يميل به فى وقفته المنتبهة مثل عمود. يبلع ريقه، ويطحن الفراغ بين أسنانه مع كلمات مهموسة تُضيء منارات على البُعد: “اثبتْ، من هنا يخرج الكبار منذ خمسين عاما. البياض ليس شرطا، وأنت لستَ أسود”. يتذكر: “حتى لونى قمحي..”. احتمل نفسه: سمكة ملساء يُقلبها كل مَن هبّ ودبّ فى كشف الهيئة. فى قدمه إصبع يتعاشق مع جاره. جاهدَ فى فضّهما لحظة الفحص. عرف ذلك من رفيق تم استبعاده لهذا السبب التافه. الثبات الثبات. ينتهى الكشف الجهنمى بنجاح. يجد نفسه فى اختبار ما سمع به من قبل، مع صوت آمر خشن يصيح: يا الله، على الساقية! طابور منتظم يسير بإيقاع تنقصه موسيقى المارش.
حجرة مستطيلة تصطف على جوانبها كراس جلدية، وفى المنتصف شيء يشبه الملاهي. درجتان عاليتان تُفضيان إلى عنكبوت حديدى الأذرع. فى نهاية كل ذراع كرسى بمسند. ينادون عشرة كل مرة. صعد مع الصاعدين وجلس. ضبط نفسه وشحذ كل خلية فيه مع الصوت المُلقى بالتعليمات: ستدور الساقية بسرعة ثم تقف مرة واحدة. امسك نفسك جيدا. بعدها ستنفذ الأمر بالدخول من أحد الأبواب المُرقّمة أمامك. ابدأ..
الأرض كلها تدور، هناك مَن يدفعه للسقوط فى بئر غويط. هناك مَن قذف به خارج الفضاء كله. عينان مغمضتان وضغط فى الرأس يوشك أن يقع به فى الأرض حيث لا أرض. الكرسى سيطير منفلتا من مكانه. كل الجسد فى القبضتين الميتتين. ماذا لو خارتا؟ غيمة مدوخة، غيمات. جسد مرتطم بالأذرع الصلبة تلوكه كيفما شاءت. صوت. هناك صوت يُشخشخ فى ريح الأُذن. استعد. ستقف الساقية. هل سمع فعلا؟ هل مات على الكرسي؟
لو انفتحت العينان الآن، فماذا يمكن أن يرى غير سريالية مُزغللة. هو دائخ، بل على الأصح كل عصب من أعصابه فقد الاتصال نهائيا. غثيان بطعم القيء يشمله. يوشك أن يتوسل لهم ليوقفوا ذلك الدوران الجحيمي.
أولاد ال.. لقد سمعوا استغاثته ويا ليتهم ما سمعوا. سيظل مدى حياته متذكرا لحظة الإيقاف تلك. كيف يمكن لواحد أن يجرى بأقصى ما فيه ثم يطلبون منه الوقوف مستويا فى ذات اللحظة التى يسمع فيها النداء الحاسم؟ سيتخلخل بالتأكيد، وفى الخلخلة ارتجاجات تُنذر بالانكفاء أرضا. بالفعل ارتجَّ العنكبوت الحديدى فى الوقفة المكبوحة قسرا بالأمر الغشيم. حدثت هزتان، نفضتان، فى الحيّز الضيق المحكوم بالكرسي. انجرف لأقصى اليمين ثم ارتدّ مرة أخرى. جعلوه يفيق من الدوخة الساحبة للروح فى لمحة واحدة. هناك مَن ضربه على رأسه بشومة فى قلب كابوس مرعب. لكن لا وقت لتجفيف العَرق والاستعاذة أمام الصوت الذى يصل بالكاد لأُذن مثقوبة.
يبرق النداء الآمر بأن يقوم الجالس على كرسى رقم خمسة ويدخل سريعا من باب ثلاثة. تنفتح عيناه، يتشكل أمامهما الوجود من جديد، بعد رحلة المتاهة الحلزونية. تعود الأسماء لتأخذ مسمياتها. يصلب جذعه ويقف. يكتشف أن قوة ما لا تزال باقية فيه. يرفع قبضتيه الميتتين ويُدلك صدره برفق. القمر بين الضلوع لا أثر له. القدمان تخطوان خطوات رائد فضاء على أرض غريبة. الأرض ليِّنة، رخوة، مع مفاصله الإسفنجية. باب ثلاثة، نعم ثلاثة. أنا رقم خمسة وسأدخل من باب ثلاثة. ويدخل من الباب البنى الغامق ليجد رجلا على مكتب يستفسر منه عن بياناته.. مُخى يا عالم! أمسك رأسه بحذر ومسح على شعره. استجمعَ تركيزه، الأصح شدَّه شداً من قلب الدوخة والضباب. أجابَ بكلمات ملضومة فى بعضها، ووقّعَ باسمه الثلاثي. كاد القلم يستعصي. ارتعشَ وتذبذب، لكنه بحزم قبضَ عليه بأصابعه التى عادت للحياة منذ قليل. سمع الكلمات التى طالما انتظرها: بعد غد تحضر فى الثامنة صباحا لتكملة الاختبارات. قيلت له قبل ذلك مرتين وكان يفرح جدا بها. هذه المرة شمله شعور امتزاج العذب بالمالح، دخول ليل فى نهار، ونهار فى ليل. لن تحتويه فرحة بأى شكل، سيشرد فى القادم المخبوء. يُحس بقمره بين الضلوع عاد مُتقلقلا. يتذكر أن ذلك ربما كان إشارة، علامة لم يقف أمامها فى ذروة الجرى اللاهث.
ستدور الدوائر من اختبار لآخر، جسدى أو عقلى أو كلاهما معا. تتوالى القفزات فى الطريق المفروش بقمر غائب فى الصدر. لقد سكنَ وكفّ عن الغضب، انتظارا لشيء ما لابد أن يُنهى الأمور على أى شكل. قمر مُخادع. لا، ليس القمر. هو الذى كان أعمى، أو كان يتعامى. لا فرق مع النهاية التى جاءت لسبب بعيد ومألوف: عَمّ أو جَدّ بعيد لم يره أبدا. اللقب هو المظلة الحاوية، الكفيلة بعزل كل أبناء العائلة خارج أبناء الشارع الواحد.
لسنوات سيظل مُمتنا للتجربة رغم كل ما فيها. بقيت ذكرى الساقية هى الوفيّة. تأتى دائما فى الوقت الذى يتطلب التطَهُر، تعذيب النفس لاستئصال كل شوائب الأفكار وأقمار الضلوع. ما وجد نفسه مُتلبسا بفكرة؛ إلا وسارع لساقية قد تتغير شكليا حسب الظروف. من أرجوحة أطفال دوّارة بعنف، إلى الطبق الطائر الذى يخلع القلب من مكانه ويُعيده مرة أخرى مترجرجا مثل كُرة. لا يشعر بالراحة إلا بعد أن يلف رأسه ويدوخ. فى إحدى المرات، وعند سرعة الدوران القصوى، انفصل رأسه وحَوّم بعيدا حتى اختفى فى سحابة غامقة، دارَ مع قوس قزح إلى أن رجع من جديد بين كتفيه. عاش لأيام سعيدا برأس مُحاسِب، مع حسابات وأرقام وأوراق بنكنوت. فى مرة أخرى أحبّ أسماء الماركات النسائية للعطور. ما أجمل ذلك! رأس عامل فى مصنع عطور شهير. وحين سمع طقطقات مقص تتلاحق فى أذنيه على الدوام؛ آمنَ أن مهنة الحلاق أروع مهنة فى العالم. رؤوس كثيرة ستعيش وتتبدل ببساطة على مرور الأيام، طالما ظلّ على إيمان بندائه الحميم: غَيِّر رأسك يا أخي، فقد مضى عهد استعمار الرأس الواحد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.