سحبوها بصعوبة بالغة من أسفل الحيوان المهتاج .. كان " والي " في حالة ثورة عارمة وكاد يفتك بمهاجميه بقوائمه الصلبة الضخمة .. بدا واضحا جدا أنه مصر علي الإنفراد بالمرأة المذعورة التي سقطت كقطعة صخر بلا حول ولا قوة تحته ، مثلما هو بالضبط مصر علي الفتك بها وتمزيقها إربا .. أسرع " أنطوان " ليسمك بمقود الحصان وحاول سحبه إلي الخلف وجره بعيدا عن " دوروثيا " شبه الميتة لكن الجواد قاوم بضراوة .. بشراسة رفع رقبته وحمحم وصهل بأعلى صوته وضرب الهواء بقائمتيه الأماميتين وكاد يهوي ثانية علي السيدة لولا أن الفتي الجسور شد اللجام بقوة فأجبر الفرس الثائر علي خفض رقبته .. سارع " أنطوان " بشد اللجام مرة أخري بقوة وعندما لامست يداه رقبة الحيوان الضخمة أخذ يداعبها ويملس عليها برقة .. حمحم الحصان أخيرا وبدت نظرة غريبة في عينيه ثم ثار مرة أخري وحاول أن يعاود الهجوم علي ابنة " دوريا " التي كان الخدم قد نجحوا في سحبها بعيدا عن مرمي قوائم الحصان العملاق الهائج الغاضب .. جروها بعيدا وهي في حالة يرثي لها وقد تقطعت أنفاسها وسقط قناع الصرامة والجدية والحزم من فوق وجهها الصلب ، وظهرت من تحت الغلاف الممزق ملامح لامرأة مذعورة .. امرأة عاجزة ضعيفة لم يفزعها هجوم حيوان ثائر عليها بل إن وراء نظراتها رعب أكبر بكثير وأكثر شراسة ! لأول مرة خرجت السيدة عن هدوئها المقدس فأخذت تصرخ وقد أنفك رباط شعرها وتناثر حول رأسها ناعما أملس خفيفا للغاية فبدت شبه صلعاء بعد أن سقطت الزينة المتكلفة عن رأسها : " سأقتلك .. سأقتلك أيها الشرير ! " تصدي " جوديفا " للجواد الغاضب وتمكن هو و" أنطوان " من استعادة قياده مرة أخري وأخذاه بعيدا ليعيداه إلي إسطبله الخاوي الآن ، بعد أن حمل رفيقه أحد السادة وذهب بعيدا ، وخلفهما كانت السيدة تصرخ بلا تحفظ : " لن تعجزني أنت .. لن تعجزني يا " والي " الحقير ! " كان " أنطوان " في قمة العجب والدهشة لأقدام سيدة وقورة حازمة علي توجيه التهديدات الحارة لحيوان أعجم تعرف هي جيدا ، مثلما يعرف الجميع ، أنه لن يفهم حرفا من كل ما تصرخ به .. لكن شيء غريب يحدث هنا .. شيء غريب لا يفهمه الفتي المستخدم الجديد ولا يفهمه أحد تقريبا ! لم تمر بقية اليوم كما يجب .. أحس الضيوف بغياب مضيفتهم الرئيسية " دوروثيا " عن مشاركتهم الركب المرح المحتفل فعادوا تباعا ، تتقدمهن الدوريات الأربع ، للاطمئنان عليها .. وجدوها راقدة في فراشها مذعورة وقد ارتفعت درجة حرارتها وتهدجت أنفاسها .. أحاطت بها شقيقتيها " دريدا " و " دولوريس " ، بينما انشغلت الأخريان بمراجعة الطبيب دكتور " جانسزون " ، الذي أستدعي علي عجل لفحص السيدة المذعورة وتقرير ما إذا كانت قد أصيبت بكسور أو جروح خطرة من عدمه .. كانت المرأة العتيقة سليمة ، مذعورة مرعوبة مشعثة متقطعة الأنفاس نعم ، لكنها لم تصب بأي شيء عدا قليل من الخدوش والرضوض البسيطة السطحية .. غريب جدا أن تخرج من تحت حيوان يزن أربعمائة وستين كيلو جراما دون أن تتحطم عظامها أو تتفسخ ضلوعها ! وضعوها في الفراش والتففن حولها .. قدموا لها علاجا مهدئا وشرابا ساخنا وطعاما باردا خفيفا .. رقدت بعدئذ لتنام وتستريح .. فسدت حفلة عيد الميلاد وظهرت علامات الامتعاض علي وجوه القطط الأربعة لكنها لم تدم طويلا ! أنصرف الضيوف بعد أن قدموا احترامهم ومشاركتهم الوجدانية لبنات " دوريا " واظهروا عظم اهتمامهم بصحة السيدة الكبرى التي لم يكن أحد يأبه لها في واقع الأمر .. كان يوما أسود ولابد أن يختم كالعادة بليلة سوداء ! في فراشها رقدت " دوروثيا " ملتفة بالأغطية ، وحيدة بعد أن أصرت علي أن تصرف أختيها " ديزموندا " و" ديميلزا " اللتين حاولتا البقاء معها ومرافقتها تلك الليلة .. لكنها أبت عليهن ذلك لأنها تعرف أنها ستصاب بالحمى وتهذي تلك الليلة .. ولا تريد لأحد مهما كان أن يسمع ما ستعترف به رغم أنفها في نوبات الحمى ! ... أما " أنطوان " فقد تعاظمت دهشته .. إنه لا يفهم شيئا مما يحدث هنا .. بل الأدهى أن الجميع يبدون كذلك .. لا أحد يفهم لكنهم يلوذون بالصمت حفاظا علي عيشهم وأجورهم السخية ! إنه لا يتفهم بتاتا سبب هجمة الحيوان المفترسة علي المرأة الكهلة .. ما الذي يدفع جواد أصيل تربي جيدا وتلقي العناية الأكثر من كافية ، يهجم فجأة علي سيدته ويوسعها ركلا وضربا ، ويبدو أنه كان يحاول الفتك بها فعليا ؟! لغز غريب لكن تلك الليلة كانت تحمل في طياتها لغزا آخر .. أو حلا لجزء من اللغز الأول .. وهذا يتوقف علي من يري ويسمع ويملك عينان ليري بهما وأذنان للسمع ! كان " أنطوان " يخشي أن تقدم السيدة علي تنفيذ تهديدها وتقدم علي قتل " والي " فعلا .. وأنحصر تفكير الفتي في أن يتأكد من أنهم لن يقدموا للحيوان الجميل طعاما مسمما لقتله .. لذلك ذهب ليأتي بعشائه وعشاء " إيمرت " بنفسه من مخزن إسطبل " جرانفيل " وحرص علي أن يأخذ من أسفل كومة العلف ومن قلبها ، لأنه علي فرض أنهم سيعدون كومة من العلف المسمم للحصان فسيحتفظون بها في جانب مخصص ولن يضعوها في قلب الأعلاف المخصصة لإطعام بقية الجياد التي تمتلكها عائلة " دوريا " .. كما جلب بعض الشوفان الممزوج بالنخالة ليطعم به الحصانين في حالة عزوفهما عن تناول الأعشاب الرخصة اللينة ! كان " أنطوان " قد أحب مخدوميه الحيوانين بالفعل .. لم يعد يهتم بهما لأن ذلك من مقتضيات عمله ومن مهام منصبه .. لكن الحيوانين صارا يعنيان له الكثير ! ولأنه أحبهما ، خاصة " والي " الجموح المتمرد ، فإنه صار مؤهلا لأن يكون درع حماية لهما .. وصارا مؤهلا لأن يري ما عجز الآخرون عن رؤيته ! ولذلك فما أن انتهت الليلة ورقد الفتي في فراشه حتى سمع صوتا غريبا يتردد أمام باب غرفته .. صوت حمحمة ! أجفل الفتي وقد خشي أن يكون أحد الجوادين قد أنفك من عقاله وأخذ يجول في المزرعة وحديقة القصر مما قد يسبب له كبير الأذى .. لكن أصلا كيف خرج أحدهما من الإسطبل وبابه مغلق عليهما جيدا وبيديه هو ؟! أسئلة لا معني لها لأن " أنطوان " لم يجد وقتا كافيا للتفكير فيها أو البحث عن أجوبة لها .. فقد تردد الصوت الغريب مرة أخري بنبرة أعلي وأكثر وضوحا ! إن من يقف ، أو ما ، يقف أمام باب غرفته المغلق الآن يدعوه ويعرف أنه موجود ويريده أن يري شيئا .. هب الفتي من فراشه وفتح الباب وعلي أضواء النجوم الخافتة تلك الليلة ، إذ كان القمر محتجبا خلف السحب الرمادية الكثيفة ، رأي " والي " يسير علي مقربة من المبني الأزرق ! " والي " المربوط في الإسطبل .. كيف خرج منه وكيف تحرر من عقاله ؟! شعر " أنطوان " بالذعر لكنه أحس بشيء غريب يحدث .. لم يقف الحصان بقرب بابه ويصدر صوتا داعيا ليعرفه أنه هرب من الإسطبل بالطبع .. إذن ماذا يريد الحيوان ؟! تبعه ببطء وبعد خطوات وجد الحصان يدير رقبته ويرمقه بنظرة طويلة .. نظرة من عينان حيوانيتان لكنهما حملتا نظرة توسل ونداء من كائن لا يعرف كيف يتكلم لكنه يعرف كيف يعبر عما يريده بعينيه النفاذتين .. أيتبعه أم يمسكه ويعيده إلي الإسطبل ؟! قد يفقد عمله ويًطرد إن فعل شيئا غير القيام بمهام عمله كما ينبغي والقبض علي الحصان المتمرد وإرجاعه إلي بيته بجوار رفيقه " إيمرت " .. لكن من قال أن الفتي كان يفكر في كيفية الحفاظ علي عمله في تلك اللحظة .. إنه يفكر في إشباع فضوله وأن يروي شوقه إلي المعرفة واكتشاف السر الكامن هناك وليذهب العمل إلي الجحيم ! تبع الحيوان إذن وبدا أن " والي " قد أحس بأن راعيه قد استجاب لحمحمته المستعطفة فشحذ همته وشد الخطي وبدأ في الالتفاف حول المبني الأزرق ثم بقفزة واحدة عبر سورا خفيضا تتواري خلفه مساحات من أراضي " دوريا " لم تخطو قدمي الفتي فوقها من قبل ولا مرة واحدة .. أين يذهب به الجواد وماذا يريد بالضبط ! أستمر يلاحقه بعد أن عبر السور المنخفض بدوره بفتحه ثم إغلاقه خلفه .. وجد نفسه يسير متعقبا ذو القوائم الأربع عبر مساحة شاسعة مظلمة لولا ضوء النجوم لما تمكن من رؤية شيء بها بالمرة .. سارا خلف عضهما في ركب صامت لا تقطعه سوي حمحمات " والي " التي تصدر من وقت لآخر حتى انفتحت عينا " أنطوان " ليجد نفسه واقفا بإزاء مستنقع صغير ! هنا أرتجف قلبه واضطربت أعصابه .. تذكر ما قاله الرجل الشبح في الإسطبل حينما باغته بظهوره كما باغته باختفائه ! ماذا قال الرجل .. يا إلهي في تلك الليلة السوداء ماذا قال ؟! " الولد من دم " دوريا " .. يرقد ميتا في المستنقع ! " من الذي يرقد ميتا في المستنقع ولى مستنقع يقصد .. قُطع كل تفكيره بطريقة حادة ومؤلمة حينما أقدم الحصان علي عمل غير متوقع أو منتظر إطلاقا ! لقد دخل إلي عمق المياه الراكدة المتعفنة وبدأ يخوض في طبقاتها الساكنة .. فجأة أدرك " أنطوان " كل شيء وعرف من أين أتي الفرس بالطين والتلوث علي قوائمه حينما فحصه صباح أحد الأيام .. من هذا المستنقع لكن لأي شيء يأتي الحيوان إلي هنا ! فجأة رأي " أنطوان " شيئا جعل كل مسار تفكيره ينقطع ويتبدد وتتطاير كل علامات الاستفهام والأسئلة ، ومعها كل شيء آخر ، من داخل رأسه الذي سخن وكاد يحترق .. فلقد رأي شيئا يغادر المياه .. شيء يبرز من بين المياه العفنة ويمد يده ليمسك برقبة الحصان الذي أدخل نصف وجهه في قلب المستنقع وأخذ ينقب هناك .. كانت يد تبرز من بين الركود والعفن .. يد صغيرة ملوثة ومغطاة بالقذارة ! أنسحب الحصان خطوة للخلف بينما أنشفت المياه عن جسد صغير يقطر ماء وسخا .. صبي في الخامسة أو السادسة من عمره ! صبي يخرج من بين الطين والقذارة .. صبي يرتدي ثيابا فاخرة غطاها الطين وتهرأت لكنها لا تزال عنوانا للأناقة والثراء .. صبي له وجه أبيض مستدير وعينان ميتتان لا تريان شيئا ! صبي ميت يتجسد ويتكاثف وينبثق هنا .. هنا و" أنطوان " علي قيد خطوات منه ومن " والي " ينظر بفزع ولا يستطيع حراكا ولا فعلا !