صرخت فيه السيدة التي تخرج لأول مرة عن هدوئها : " ما الذي حدث ؟! " ألجم الفتي وعجز عن النطق .. لكزه " جرانفيل " لينطق لكن ريقه كان جافا وصوته كان محبوسا في قعر بئر .. تطلع إلي السيدة التي تلف رأسها بدثارها الشفاف ثم وجد صوته يخرج أخيرا ليقول : " عفوا سيدتي .. " كاد يكمل مقدما عذرا لكن السيدة الغاضبة لم تمهله .. ركزت نظرها الثاقب علي عينيه فشعر برعشة تشمله وخوف هائل مصحوب ببرودة ثلجية يضم عليه جناحيه .. فجأة قالت له السيدة آمرة : " أيها الفتي .. تعالي خلفي ! " نظر المحيطون بهما إليها بدهشة وإنكار لم يجرؤوا علي التعبير عنه سوي بنظرات حادة مستطلعة أخفتها عيونهم تحت الأجفان وتحت الحواجب الثقيلة .. كان " جوديفا " أكثر الناس دهشة لدعوة السيدة الصارمة للفتي الجديد الأبله .. سارت السيدة وهي ترفع فضل ثوب نومها الأبيض الطويل عن الأرض وطرحتها تغطي رأسها وأعلي عينيها حتى منتصف الجفون العلوية .. تركت الشمعة لإحدى الوصيفتين لأنهما ليسا بحاجة إليها .. تبعها " أنطوان " خائفا مصدوما حتى توقفت بالقرب من حوض زهور جاردينيا صغيرة منسقة بعناية .. كان الظلام منتشرا لكن القمر المطل من أعلي فرض بقعته المضيئة البيضاء علي كافة الأنحاء وجعل نوره البارد يتعلق فوق الرؤوس كخيمة بيضاء تثقبها العيون بنظراتها .. هناك توقفت " دوروثيا " وهمست للفتي بطريقة مختلفة تماما عن طريقتها الصارمة المتباعدة : " أنك تري أشياء يا فتي .. أشياء لم يكن من المفترض أن تراها ! " عما تتحدث السيدة ؟! أهي تتكلم عن رؤية المرأة ذات الوجه الخفي والمبني الأزرق أم أنها تقصد شيئا آخر ؟! فكر الفتي للحظة وهم بسؤالها لكنها بادرته مجيبة قبل أن يسألها : " في بيت " دوريا " يجب أن يتمتع الجميع بفضيلة مهمة جدا .. وهي فضيلة إبقاء الفم مطبقا ! " شعر بأنها توبخه وتقرعه فهم بالدفاع عن نفسه لكنها للمرة الثانية لم تعطه الفرصة ليفتح فمه بل قالت له وقد استعادت هيئتها الصارمة : " كان بوسعي طردك .. بل إن فاعلة ذلك إن لم تكف عن الصراخ ! أيها الفتي .. إن رأيتها ثانية فقل لها : إن قبرك أدفأ من ضوء القمر وسوف ترحل عنك وتتركك .. إنها نصيحة من امرأة مجربة لا تخيفها ترهات الأشباح الجوالة ! " ضرب الذعر قلب الفتي فتسأل دون أن يبالي بما إذا كان ما يفعله صوابا أم خطأ : " ماذا تقصدي يا سيدتي ؟! " نهرته بهدوء وحزم قائلة : " ثمة أشياء كثيرة تجول في هذا القصر .. أبقي عيناك مغلقتان وأبقي في فراشك ليلا .. وهكذا تتجنب كل المشاكل .. " جوديفا " وحده هو الذي يمنعني من طردك ! " ركلت له الكرة وجعلته هو المتصرف في الأمر الآن .. فإما أن يلوذ بالصمت أو يطرد من خدمة القصر ويحرم من الجوادين العزيزين ! لكن هل هو متصرف في الأمر حقا .. ولما تعامله بتلك الطريقة العطوفة رغم أن بوسعها طرده فعلا ! قبرها أدفأ من ضوء القمر ؟! من هي تلك المقصودة بتلك العبارة ؟! ... حينما أشرق الصباح كان " أنطوان " يقوم بعمله المعتاد في الإسطبل أبكر من موعد العمل الرسمي لدي آل " دوريا " .. فالكل لا زالوا ينفضون النوم عن عيونهم بينما الفتي قد أوشك علي الانتهاء من تقديم العناية الصباحية اللازمة للحصانين المسئول عن خدمتهما .. لم يهجع الفتي أو ينام لحظة بعد ما سمعه من سيدته وبعدما غادره الجميع وتركوه وحيدا في غرفته .. ظل يفكر في معني ما فاهت به السيدة من كلمات غريبة وكذلك كان يترقب ، بقلق وخوف ، ظهور آخر لتلك السيدة المتدثرة بالحجاب والملفوفة بالغموض .. لكنها لم تظهر ثانية لكن السهاد كان قد قرح جفونه فعلا فوجد أن خير وسيلة لنسيان قلقه ومتاعبه هو بالقرب من " إيمرت " و " والي " الرائعي الجمال ! لكن ما رآه بعد ذلك زاد من قلقه وهمه .. فقد شاهد علامات غريبة علي جلد " والي " الذهبي اللامع النظيف .. إن قوائم الجواد الأربعة ملطخة بطين ثقيل متراكم لزج ! لقد نظفه بالأمس قبل نهاية نوبة عمله ، وبالأساس كان كلا الحصانين يلمعان بالنظافة ، فمن أين أتي الطين إذن وكيف توصل إلي تلطيخ قوائم " والي " وصولا حتى الرسغ ؟! ذهل " أنطوان " لمنظر الطين وهو يلطخ القوائم ويطرطش بعضه حتى أعالي الساقين القويتين .. إن هذا الحصان لم يمشي في وحل بل غاص فيه حتى نهايات قوائمه تقريبا فمتى حدث ذلك ؟! الأمر المقلق أكثر أنه كان ثمة خدوش علي جلد الحصان .. جروح بسيطة وخدوش صغيرة للغاية لا تكاد تلحظ لكن عينا الفتي المحبتان بصدق لمحتا كل تفصيلة وكل خدش مهما صغر حجمه علي الجلد الذهبي المحبب إلي قلبه .. ما الذي حدث ل" والي " وأين ومتى وكيف حدث له ؟! بوغت " أنطوان " بصوت من خلفه فألتفت بسرعة .. كان المكان هادئا ساكنا تماما وجميع من بالقصر لا زالوا نياما .. لكنه أحس بمن يتحرك خلفه لكنه حين ألتفت لم يجد أحدا ! أصدر الحصان صوت حمحمة خفيضة فشعر " أنطوان " أن الجواد خائف .. كان " إيمرت " يرقد علي العشب اللين المفروش تحته فهب واقفا وأخذ يحمحم بدوره ! ما الذي يحدث هنا ! فجأة غشي نور مبهر عيني " أنطوان " وشعر بتوهج هائل يؤلم عينيه ويدفعه إلي إغلاقهما .. أغمض عينيه بقوة للحظة ليجنبهما آلام الضوء القوي المفاجئ لكنه وعندما أعاد فتحهما ونظر أمامه وجد شخصا آخر يقف بالقرب أمامه ! لم تكن امرأة تلك المرة بل رجل ! رجل يرتدي ثيابا غريبة مليئة بالأوسمة والنياشين البراقة ويعتمر قبعة بالغة الارتفاع مزينة قمتها بريش دهنت أطرافه بألوان حمراء وزرقاء وبيضاء .. كان الرجل يقف متطلعا بهدوء إلي الفتي الخائف ويرمقه بلا صوت ولا حركة وبنظرة ثابتة تكاد تخرق وجهه .. حسبه " أنطوان " أولا أحد متصرفي القصر أو رؤساء الخدم ، أو ربما فردا من أفراد العائلة لم يره من قبل .. لكنه لم يكن كذلك فعلا ! ظل الرجل يرمق الفتي للحظة ثم فتح فمه بهدوء وقال : " الفتي من دم " دوريا " .. عظام نخرة ! " بهت " أنطوان " وتراجع إلي الخلف .. ظل الرجل ثابتا في مكانه وعاد يتكلم بثقة وبلهجة جافة باردة متنائية : " الولد من دم " دوريا " .. يرقد ميتا في المستنقع ! " الآن شعر الفتي برعب لا يستطيع السيطرة عليه .. ارتعشت أوصاله بينما تعالت أصوات الحصانين الخائفة المذعورة من خلفه .. غطي" أنطوان " عينيه للحظة إذ لم يعد بإمكانه تحمل رؤية المزيد من ملامح الرجل الصلبة المخيفة الباردة وحينما كشف غطاء بصره أخيرا وجده قد رحل ! الحلقة القادمة مساء الخميس بإذن الله