لم يعطي " أنطوان " كبير أهمية لواقعة الظهور الشبحي المخيفة في الإسطبل ، فقد وقر في ذهنه أنه ربما يكون خياليا واهما مؤمنا بالخرافات ، وتعلم أن يحتفظ بهواجسه لنفسه لئلا يثير غضب السيدة القاسية عليه ويفقد بالتالي لقمة العيش السائغة الحلوة التي يأكلها تحت جناحها .. تعلم أن يطبق فمه إذن لكن العينان يصعب إن لم يكن من المستحيل إبقائها مغلقة ! فقد انفتحت عيناه بعد ما سمعه من الرجل الذي تبخر في الإسطبل .. وبدأ يلاحظ أشياء .. أشياء غريبة لم يكن يوليها اهتماما أو حتى تعلق بباله من قبل ! لم يبقون " إيمرت " و" والي " في إسطبل صغير منعزل منفصل عن بقية مجموعة خيول " دوريا " القيمة ؟! إن لدي العائلة الارستقراطية تشكيلة من الخيول المطهمة ذوات الأنساب العريقة وشهادات النسب الموثقة ما يزيد علي خمسة عشر حصانا .. كلها تحت رعاية " جرانفيل " ومساعديه الستة ، مساعدي السائس العتيق ، وكلها تخضع لإشرافه المباشر بشكل يومي .. ما عدا هذين الحصانين فقط اللذين نبذا في مكان مخصص لهما وتركت له وحده مسئولية رعايتهما والإشراف عليهما وتقديم الرعاية اللازمة لهما ! الغريب أنه ورغم احتفاء السيدة المتصرفة ، " دوروثيا " ، الزائد الواضح ب" إيمرت " و" والي " إلا أنه لم يراها أبدا تقترب من أحدهما .. ولا يتم استخدام أيهما من قبل السيدات الخمس مطلقا ! حتى زيارتهن لمنطقة الإسطبلات لتفقد ثروتهن المكنونة من الأحصنة الباهظة الثمن تمر علي إسطبل " جرانفيل " الأساسي وحول إسطبله الصغير لكن إحداهن لا تفكر في الاقتراب من موضع الجوادين ولا في إلقاء نظرة واحدة عليهما ! دارت كل تلك الأسئلة بذهن " أنطوان " الصغير فأرقته وأتعبت رأسه وشغلت ذهنه .. لكن أسبوعا قادما قريبا كان يحمل له حادثا بسيطا .. لكنه مروع جعل المزيد من الأغطية ترتفع عن عينيه والمزيد من الأسلة تدور في رأسها وتكاد تفتتها من الصداع ! ... بعد خمسة أيام من حادثة ظهور الرجل في الإسطبل ومواجهة الفتي المرعبة معه أقيم حفل كبير في قصر آل " دوريا " .. حفل كبير لكنه وقور متحفظ كعادة كل شيء يخص النسوة الخمس المتصلبات السحن .. كان الاحتفال مخصصا لعيد مولد التوائم الأربعة الذين يصغرون السيدة " دوروثيا " .. كانت القطط الأربعة سعيدات في هذا اليوم للغاية ، صحيح أنهن لم يتخلين عن تحفظهن القميء وسحنهن المقفلة وكأنما عليها وزنة طن من الأحجار إلا أنهن ارتدين ثيابا فخمة وتزين وأرخين شعورهن وبدت عليهن السعادة وهي يستقبلن ضيوفهن الكثيرين ! تم الاحتفال صباحا في القاعة الزرقاء بحضور عدد من علية القوم الذين كان مرأى وجوههم وحدها مثيرا للذعر بسبب غطرستهم الزائدة والسيدات المعتدات بأنفسهن اللائي يرتدين أفخر أنواع الثياب ويتغطين بالفراء ويتزين بالحلي الثمينة البراقة النادرة المثال .. وقفت الأخت الكبرى " دوروثيا " مرتدية ثوبا فخما مكللا بقطع الفراء الثمينة وقد غطت وجهها بطبقة كثيفة من الطلاء الأبيض علي غرار ما كانت تفعله الملكة إليزابيث الأولي في نهايات أيامها .. لكن الملكة كانت تخفي علامات الكبر وتجاعيد الشيخوخة تحت هذا الطلاء الكثيف فما الذي تخفيه ابنة " دوريا " إذن؟! كان وجه المرأة المتبرجة صلدا جامدا وقد بدت علي وجهها ، رغم كل ما يغطيه من مساحيق ، علامات لا يسهل إغفالها أو تجاهلها .. خدوش غريبة وحفر وجروح صغيرة متعددة ! بررت السيدة بأنها سقطت بينما كانت تستحم وارتطمت بالأرضية الباردة المبللة .. لكن خدوش بشرتها بدت شيئا آخر غير رضوض الصدمات وجروح الارتطامات .. إنها علامات حفر أظافر حاقدة غرست بغل وكراهية عميقا في الجلد الصلب للمرأة الصامتة الشاحبة ! لمح " أنطوان " الخدوش لكنه لم يحر كلاما .. كان له دور في الاحتفال إذ كان مكلفا مع بقية عمال الإسطبل الفخم بتقديم الجياد للسادة وتسهيل قيادتها لهم ليقوموا علي متن ظهورها الشامخة برحلة متجولين في داخل حدود أراضي الأسرة الشاسعة كنوع من الاحتفاء بعيد مولد القطط الأربعة العجائز العوانس ! رافقت السيدة أخواتها وضيوفهن وهم يقوموا باختبار الأحصنة ويختار كل منهم الجواد الملائم المتماشي مع مزاجه الهادئ أو العنيف المحب للطموح والجموح .. اختيرت كل الأحصنة وبقي واحدا يحمل اسم " سكوبيا " من إسطبل " جرانفيل " ومعه " والي " الفاخر .. كانت المضيفة هي آخر من سيختار جوادا له فاقتربت وعلي وجهها علامات الهدوء والثقة .. لكنها ما إن وقعت عيناها علي " والي " بالقرب منها حتى أجفلت وتراجعت إلي الخلف وعلي وجهها علامات الذعر ! لم يكن هذا غريبا ، أو أغرب ما في الأمر .. الأكثر غرابة فعلا أن الحيوان الأعجم ما إن رأي وجه سيدته حتى اهتاج فجأة وحاول أن يتحرر من المقود الذي يمسكه " أنطوان " بكل ما في يديه من عزم وقوة .. حمحم الحصان ثم أطلق صوت صهيل غاضب مرتفع .. كان السادة قد انطلقوا بجيادهم بالفعل مكونين ركب طويل ارستقراطي الخطوات .. وتخلف " جوديفا " و" أنطوان " مع سيدتهما ليساعدها علي ركوب حصانها والانطلاق خلف الركب المرح واللحاق بهم .. لكن " والي " الهائج الثائر أخذ يتحرك بعنف ويحرك قوائمه ويضرب برقبته الهواء مطلقا أصواتا مروعة .. أنزلق اللجام من يد " أنطوان " وتحرر الحصان الثائر .. ثم أطلق لساقيه الرياح .. لا لم يجري مبتعدا .. بل عدا بسرعة البرق نحو " دوروثيا " الشاحبة الخائفة وشن عليها هجوما خاطفا كاسحا بقائمتيه الأماميتين .. ضربها ضربة خاطفة فسقطت تحته ثم أطلق أعلي صهيل سمعه الفتي " أنطوان " في حياته .. ثم أنثني عليها وأخذ يضربها بقوائمه ويضربها ضربات سريعة متلاحقة مثيرة للرعب ! الحلقة القادمة مساء الاثنين بإذن الله تعالي